Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

باول تسيلان كتب قصيدة "كورونا" عن وباء الحب عام 1952

ألمانيا تحتفل بالذكرى المئوية لولادة الشاعر المجدد الذي ارتمى في نهر السين

باول تسيلان (غيتي)

تحتفل الأوساط الأدبية في ألمانيا بذكرى ميلاد باول تسيلان، أحد أكبر شعراء الألمانية، قبل مئة عام، في الثالث والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني)  1920.

ارتبط اسم تسيلان بالمحرقة اليهودية، وبالتاريخ الأسود في ألمانيا. وإذا كان الفيلسوف تيودور أدورنو قال بعد الحرب "إن كتابة قصيدة بعد أوشفيتس عمل بربري"، فإن قصائد تسيلان هي المحاولة الأكثر راديكالية لفتح آفاق جديدة للشعر بعد أوشفيتس، والتعبير الفني عن جريمة بشعة، مثلما يتضح في أشهر قصائده، "لحن الموت المتتالي" التي يقول فيها: "حليب الفجر الأسود نشربه في المساء/نشربه ظهيرةً وصباحاً ونشربه ليلاً /نشرب ونشرب/نحفر قبراً في الهواء كي لا يكون ضيقاً .../الموت معلم من ألمانيا عينه زرقاء/يصيبك بطلقة رصاصية، يصيبك بدقة".

نجا تسيلان من الهولوكوست، لكن المحرقة أودت بحياة والديه اليهوديين اللذين كانا يتحدثان الألمانية ويعيشان في بوكوفينا في رومانيا، تلك المنطقة الواقعة الآن في أوكرانيا، التي كانت مثالاً للتعددية الثقافية واللغوية والتعايش بين مختلف الأجناس. هناك بدأ الشاعر، واسمه الحقيقي باول أنتشيل، دراسة الطب، لكنه كان مضطراً لقطع الدراسة عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، ثم وجد نفسه في أحد معسكرات العمل الرومانية، حيث قضى ثلاث سنوات. بعد الحرب عمل محرراً في بوخارست، ثم سافر إلى فيينا حيث التقى الشاعرة إنغبورغ باخمان (1926 – 1973) التي ستربطه بها علاقة حب تراجيدية. وبعد فترة قصيرة في العاصمة النمساوية واصل تسيلان سفره إلى باريس، وهناك درس علم اللغة والأدب الألماني وحصل على الجنسية الفرنسية، ثم تزوج، وعمل مدرساً للغة الألمانية وآدابها، وقام بترجمة بعض الأعمال الأدبية (مثلاً لشكسبير ورامبو) إلى الألمانية.

عقدة الإضطهاد

وعلى الرغم من شهرته وحصوله على عدد كبير من الجوائز الأدبية في ألمانيا، وأبرزها جائزة غيورغ بوشنر المرموقة، فإنه ظل غريباً عن الألمان، وظل يشعر بالاضطهاد والملاحقة. كان تسيلان يجيد لغات عدة، إلا أنه ظل يكتب بالألمانية، لغته الأم التي أضحت "لغة القتلة"، وكان ذلك عبئاً إضافياً على كاهل الشاعر مرهف الحس. عاش ومات غريباً في باريس، يكتب بالألمانية أشعاراً قاتمة، بالغة الصدق والألم، فاتنة في صورها البلاغية الجديدة تماماً. وظل كابوس المحرقة يطارد نفسه الرقيقة، ولم يستطع أن يتغلب عليه، ولا حتى بمعونة أطباء مصحات باريس النفسية، إذ إنه كان يتوهم المؤامرات تُحاك ضده لكونه يهودياً، وأنه لم يلق لذلك التقدير الأدبي الذي يستحقه.

ولعل ما رسخ هذا الشعور داخله هو مشاركته في مطلع حياته الأدبية، وتحديداً في مايو (أيار) 1952، في ملتقى جماعة 47 الأدبية الشهيرة في ألمانيا، التي كانت تجمعاً للأدباء الشبان، أو الذين يبحثون عن لغة جديدة بعد كارثة النازية. كان من أعضاء هذه المجموعة أسماء أضحت نجوماً لاحقاً، ومنهم غونتر غراس وهاينريش بُل والشاعرة إنغبورغ باخمان. في ذلك اللقاء ألقى تسيلان قصيدته "لحن الموت المتتالي"، قرأها بنبرة منبرية مؤثرة، غير أن رد الفعل كان مفزعاً ومحطماً للشاعر، إذ تعالت الضحكات بسبب طريقته غير المعهودة في الإلقاء، حتى أن الناقد هانز فيرنر ريشتر، الأب الروحي للمجموعة، قال، صوته لا يعجبني. ثم صاح آخر، إنه يقرأ مثل غوبلز. لن ينسى تسيلان طيلة حياته ردود الفعل هذه، ويغادر المجموعة ولا يعود إليها أبداً.

وإذا كان من المفهوم أن ينظر تسيلان اليهودي إلى دولة إسرائيل باعتبارها ملجأ ليهود العالم، فإنه من المؤسف أنه لم يستطع أن يحرر نفسه (شاعراً وإنساناً) من سجن الماضي. عندما شنت إسرائيل حرب 1967 ووسعت حدودها باحتلال سيناء والجولان، خرج الشاعر الخجول إلى شوارع باريس ليشارك في التظاهرات المناصرة لإسرائيل، واعتبر الأراضي التي استولت عليها إسرائيل تأميناً للوطن اليهودي. ليس هذا فحسب، بل لقد شبه الشاعر الجنود الإسرائيليين بأولئك اليهود الذين قاوموا النازيين في معسكرات الاعتقال!

ولعل شعوره الفظيع بالغربة، في باريس وفي ألمانيا، هو الذي جعله يُقدم على زيارة إسرائيل في سبتمبر (أيلول) 1969، وهناك من يزعم بأنه كان ينوي الإقامة الدائمة فيها. كان والد تسيلان من معتنقي الصهيونية، وكان يضغط على ابنه ليدرس العبرية، وهو ما فعله تسيلان في بوكوفينا. ثم تعمق في ما بعد في دراسة العبرية. ويُقال إنه خلال زيارته إلى إسرائيل، قرأ ترجمات بعض قصائده إلى العبرية، وصحح كلمات فيها. استمرت زيارته لإسرائيل أسبوعين، قرأ خلالها في ندوات أقيمت له في القدس وحيفا وتل أبيب. لكنه على ما يبدو شعر هناك أيضاً بالغربة، وبأنه (بلغته الألمانية) مثل جسم غريب في الدولة العبرية. وبعد شهور من زيارته، وضع حداً وألقى بنفسه في نهر السين، حيث وجده صياد في مطلع مايو 1970 طافياً على صفحة النهر.

قصيدة "كورونا"

من يدي يأكل الخريف ورقته: نحن صديقان.

نقشرُ الزمن من الجوز

ونعلمه المشي:

يعود الزمن إلى القشرة.

***

في المرآة يوم الأحد

في الحلم ننام

الفم يتكلم الصدق.

***

تهبط عيني إلى حياء الحبيبة:

نتبادل النظرات

نتكلم كلاماً معتماً

يحب أحدنا الآخر كالخشخاش والذاكرة

ننام كالخمر في المحارات

كالبحر في شعاع القمر الدامي.

***

نقف متشابكين عند النافذة، من الشارع

يتطلعون إلينا:

حان الوقت أن يعرفوا!

حان الوقت أن يرضى الحجر بالإزهار

أن يخفق قلبُ اللاطمأنينة

حان الوقت أن يحين الوقت.

***

حان الوقت

هذه القصيدة بعنوان "كورونا" لا تتحدث بالطبع عن أيامنا التي أنهكها الفيروس، ولا تتحدث عن أمانينا بأن "يرضى الحجر بالإزهار" أخيراً، فقد "حان الوقت". كلا، هذه القصيدة كتبها تسيلان قبل أكثر من سبعين عاماً. ليست "كورونا" من قصائد الشاعر المشهورة جداً، ليست في شهرة "لحن الموت" مثلاً، على رغم أن تشبيه الحب بـ"الخشخاش والذاكرة" (وهو عنوان الديوان الشهير الصادر عام 1952) يرد فيها.

ماذا يقصد تسيلان بـ"كورونا"؟ يتسم شعر تسيلان، كما هو معروف، بالقتامة والألغاز وكثرة الرموز والإحالات، ويبدو فيه بوضوح تأثير المرحلة الرمزية والسوريالية، كما يبدو فيه أيضاً تأثير الشعراء هولدرلين وريلكه وتراكل. كل هذا صعّب انتشار قصائده بالألمانية، وجعلها نخبوية بامتياز، وجعل ترجمة شعره إلى اللغات الأخرى أمراً شاقاً، عسيراً، وفي بعض الأحيان أمراً مستحيلاً. تتعدد تفسيرات النقاد لهذه القصيدة، لكن أغلبهم يرجحون أنه يستخدم الكلمة اللاتينية "كورونا" التي تعني التاج أو الإكليل أو الهالة، ويظنون أنه يقصد تحديداً "تاج العروس" الذي يود أن يهديه لحبيبته الشاعرة النمساوية إنغبورغ باخمان، التي اعتبرت في إحدى رسائلها إلى الشاعر هذه القصيدة أجمل قصائده على الإطلاق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عندما التقى تسيلان بالشاعرة إنغبورغ باخمان في فيينا، وقع في عشقها من النظرة الأولى كما يقولون. كان عشقاً مستحيلاً، إذ واصل تسيلان بعدها بأيام رحيله إلى باريس، أما باخمان فكانت على علاقة حب بالناقد هانز فايغل، ثم دخلت في علاقات كثيرة من بينها مع الروائي السويسري ماكس فريش. غير أنها ظلت على اتصال بتسيلان، وظلا يتراسلان لفترة طويلة. وقد صدر في عام 2008 كتاب يضم مراسلاتهما بعنوان "زمن الحب".

مع الوقت ذبل "الإكليل" الذي أهداه تسيلان لباخمان، ومع بعد المسافة بين فيينا وباريس فترت العلاقة التي شهدت تأرجحاً وتذبذباً كبيراً. يرسل تسيلان إلى حبيبته خاتماً، ثم يسترجعه. يطلب منها مراراً أن تأتي إلى باريس، ثم يعود ليطلب منها ألا تأتي إلى باريس. ثم يتزوج تسيلان عام 1952 بالفنانة التشكيلية جيزيل ليسترانج. على الرغم من ذلك لم تنقطع علاقته التراجيدية بباخمان، إلى أن انتحر تسيلان عام 1970، وبعده بثلاث سنوات تلقى باخمان حتفها إثر الحريق الذي نشب وهي نائمة في شقتها في روما.

لعل هذه القصيدة هي أبرز ما تبقى من هذه العلاقة المأسوية بين شاعرين من أكبر شعراء الألمانية في النصف الثاني من القرن العشرين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة