Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مساء سبتمبر" للفرنسي موريس دينيس في حمى الفن الياباني

تتويج متواضع لإبداع الفصول على خطى فيفالدي وبيتر بروغل

لوحة موريس دينيس "مساء سبتمبر" (1891) (موقع متحف orsay)

دائماً ما أولع المبدعون سواء كانوا شعراء أو رسامين أو موسيقيين بالفصول وتبدلاتها. ونعرف أن هذا الولع قد أنتج أعمالاً رائعة لا تزال تعتبر حتى اليوم تحفاً فنية لا غنى لـ"الذواقة" الحقيقيين عن زيارتها بين الحين والآخر. ولئن كان هذا ينطبق في مجال الموسيقى خاصة على فيفالدي وهايدن، بين آخرين، فإنه في الرسم ينطبق على مروحة عريضة من المبدعين على رأسهم بروغل الكبير (بيتر) وأريشيمبولدو وصولاً إلى الرسام الفرنسي موريس دينيس الذي قد يكون أقل رسامي "الفصول" شهرة، لكنه بالتأكيد أكثرهم محافظة على النوع والتقيد به، إنما ليس في سلسلة لوحات رسمها تباعاً، ولكن في مجموعة لوحات توزعت لديه على عدة سنوات. ومن هنا تأثرت كل واحدة منها بالتيار الفني الذي كان الرسام يتأثر به في كل مرحلة.

ولئن كانت لوحته المنتمية إلى السلسلة بقوة، "مساء سبتمبر" تعتبر الأشهر والأجمل، فربما يعود ذلك إلى بعدين آخرين طبعاها هي التي رسمها دينيس باكراً منذ عام 1891، قبل أن يواصل رسم لوحات "الفصول" حتى العقد الثاني من القرن العشرين: البعد الأول هو ذاك الذي كان ناتجاً عن تأثر دينيس بأعمال غوغان من طريق وصولها إليه عبر أستاذه سيروزييه، من ناحية الغنى اللوني والرسم في الطبيعة، أما البعد الثاني، فيتعلق بالتأثير الياباني على الفن الغربي عموماً. فنحن نعرف أن الفنانين الفرنسيين وغيرهم من الغربيين (من مانيه إلى فان غوغ مروراً بويستلر وغيره)، قد اكتشفوا اللوحات اليابانية قبل نهاية القرن التاسع عشر فانبهروا بها وراحوا يحاولون، وكل منهم على طريقته، دمج أساليب منها في لوحات لهم. وربما يمكننا هنا القول إن دينيس سيكون أبرعهم في ذلك، ولا سيما في المجموعة الأولى من "حلقة الفصول" التي ستبقى "مساء سبتمبر" أجملها، وحتى أشدها براعة في اقتباس مرجعيتها اليابانية.

لمجرد منافسة بونار؟

من ناحية مبدئية يرى بعض المؤرخين أن دينيس إذا كان قد بدأ رسوم الفصول بأربع لوحات أنجزها معاً في تلك المرحلة المبكرة وكرسها لشهري سبتمبر وأكتوبر، إنما كان هدفه أن يرد على رسوم لمنافسه الرئيس في ذلك الحين، بونار. مهما يكن، نسي التاريخ هذا الدافع لتبقى اللوحات ومنها هذه المعلقة اليوم في متحف أورساي الباريسي، علامة على التأثر الواضح بالفن الياباني. فنحن إذا نحينا جانباً ضخامة اللوحة (نحو 160 سم عرضاً مقابل 100 سم ارتفاعاً تقريباً)، بالمقارنة مع اللوحات اليابانية، نجدنا أمام عناصر يابانية تبدأ من تصفيفة شعر العديد من النساء اللواتي تصورهن اللوحة وصولاً إلى ثيابهن و"موتيفات" أقمشتها، ناهيك بالتوزع "المسرحي" للجلسة التي تبدو جامدة فيما ثمة أكثر من حركة في الخلفية التي تبدو هنا مستقاة، تلويناً والتحاماً بالطبيعة من أجواء غوغان والانطباعيين معاً. باختصار يبدو واضحاً، هنا كيف أن دينيس الذي كان في الحادية والعشرين حين رسم هذه اللوحة، عام 1891 تحديداً، عرف كيف يستوعب تماماً دروس عدة تيارات ومدارس فنية في وقت معاً صاهرا إياها في بوتقة فنية واحدة. ولئن كان هذا ينطبق على مجمل لوحاته لـ"الفصول"، فإن "مساء سبتمبر" تبقى متميزة خاصة ببعض عناصر فيها تنم من ناحيتها على تفاعل دينيس في تلك الحقبة بالذات مع العناصر التي تكون أسلوب تيار "الأنبياء"، كتلوين الأشجار على سبيل المثال.

"هي مسطح أبيض في النهاية"

"علينا أن نتذكر دائماً ان اللوحة، قبل أن تكون حصان معركة، أو امرأة عارية، أو صورة لأي حدث من الأحداث، هي في الأساس مساحة مسطحة مغطاة بألوان جمعت تبعاً لنظام معين". بهذه العبارات البسيطة والتي لا تحمل أي قدر من السخرية، عرف موريس دينيس الفن التشكيلي ذات يوم. وكان يعني ما يقول. وموريس دينيس قد لا يكون الأشهر بين الفنانين التشكيليين الفرنسيين الذين ظهروا وأنتجوا خلال النصف الأول من القرن العشرين، لكنه على أي حال، كان أقدرهم على التنظير للفن وعلى الخروج عن الأكاديمية في الوقت نفسه.

ولد دينيس في مدينة غرانفيل الفرنسية في 1870 وتلقى دراسته الابتدائية والثانوية في "ثانوية كوندورسيه" التي تركها في الثامنة عشرة من عمره ليلتحق بمحترف جوليان، حيث كان الرسام بول سيروزييه، العائد من سفر قام به إلى منطقة "بريتاني"، التقى خلاله الرسام غوغان، جعل من نفسه داعياً لاتباع أسلوب غوغان الفني. ولقد أثر سيروزييه بدينيس تأثيراً كبيراً، بحيث إن معظم لوحات هذا الأخير، التي أنجزت ضمن إطار عمله في المحترف، تبدو وكأنها مجرد نقل لبعض أعمال غوغان.

البحث المضني عن أسلوب خاص

غير أن دينيس سرعان ما قرر أن يجد أساليبه الخاصة، من ناحية، بعيداً عن التكون الأكاديمي، ومن ناحية ثانية بعيداً عن التأثر بأسلوب غوغان، وهذا ما جعله يتزعم جماعة "الأنبياء" التي راحت أعمالها تتراوح بين الانغلاقية والتوليف والتقليدية الجديدة وصولاً إلى النزعة الرمزية. وفي 1889 عرض دينيس أولى لوحاته التي شاء أن يطلع الجمهور عليها، في مقهى فولبيني، وبعد ذلك شارك في "معرض المستقلين". وكانت تلك هي المرحلة التي كشف فيها، كذلك، عن مواهبه الأدبية وراح يكتب في النقد الفني مقالات جعلت البعض يتمنى لو أن موريس دينيس ينصرف إلى كتابة النقد ويكف عن الرسم!

غير أن ذلك لم يحبطه كرسام، بل واصل عمله غير عابئ بواقع أن نجاحه كرسام حتى ذلك الحين على الأقل كان ضئيلاً. وكان عليه في تلك الآونة، على أي حال، أن يبدل من أسلوب تعاطيه مع اللوحة، هو الذي كان قد اعتاد أن يغير أساليبه بسرعة، فأحس هذه المرة بميل إلى النزعة الانطباعية الجديدة (التي أنتجت لديه لوحته الشهيرة "السر الكاثوليكي" 1890) وبعد ذلك إلى نزعة تقتبس الأشكال اليابانية، على غرار ما فعل فان غوغ (مما أنتج لوحته "صورة السيدة رانسون" 1890)، ومن ثم إلى النزعة الحميمية ("صورة الأب فاليه"). وهنا مرة أخرى، نراه وقد عاد للتقرب من بول سيروزييه ليتلقى عبره تأثيرات غوغان إضافة إلى تلك التأثيرات اليابانية التي سوف تطبعه طويلاً بعد بدئه بلوحات "الفصول".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تنوع في الأساليب ونهاية صوفية

كل هذا جعل موريس دينيس يبدو في تلك الفترة متأرجحاً بين أساليب عدة، بحيث يبدو من العسير تصنيفه في وقت كانت فيه كل الفرديات تهوي على مذبح الجماعات والتيارات والمدارس. وليس هذا لأن دينيس كان يصر على فرديته، بل إنه كان تواقاً دائماً للانضواء تحت لواء ما، وأكثر من هذا كان يريد لنفسه أن يكون زعيم أي تيار. بشكل إجمالي تبدت ملونة دينيس، خارج إطار "الفصول"، صماء جامدة لا روح فيها، كما بدت أشكاله مسطحة تنتمي إلى نوع من "الأسلوب الحديث" عامرة بشتى أنواع التبسيط الجريء، وبنوع من البحث عن طابع تزييني. ومن هنا عدم اهتمام النقاد جدياً بأعماله في تلك الفترة، وهي الفترة التي سبقت أول رحلة قام بها إلى إيطاليا، وولدت لديه على الفور توجهاً جديداً، نما لديه عبر اكتشافه فن النهضة الإيطالية بجدرانياته الهائلة وألوانه الحية وشخصياته الإنسانية. وهكذا تغير دينيس كلياً، متجهاً نحو رسم مبني بشكل أفضل ومعتنى به. ولقد قاده ذلك التطور إلى رسم أشكال بدت أكثر تقليدية في تكوينها، لكنها انتمت مباشرة إلى حيوية الانطباعية في تلوينيتها.

وكانت تلك على أي حال هي الفترة التي انغمس فيها في نوع من الإيمان الصوفي ما تجلى في رسمه لسقف مسرح الشانزليزيه، ثم لجدران قصر عصبة الأمم، وبعد ذلك لسقف درج مجلس الشيوخ. ولقد قادته نزعته الصوفية إلى اكتشاف الدين من جديد فأسس مع جورج ديفالييز في 1919 "محترف الفن القدسي"، وراح يرسم لوحات ذات طابع إيماني صرف خلال السنوات العديدة التي أمضاها يعيش هادئاً متأملاً بالقرب من غابات سان - جرمان آن لي.

بقي أن نذكر أن موريس دينيس الذي آثر العزلة التأملية على حياة الصخب الباريسية، انتهت حياته ذات يوم من خريف 1943، حين صدمته شاحنة قتلته على الفور. ولم يتنبه لموته أحد في ذلك الحين. ولكن بعد ذلك راحت الحياة الفنية الفرنسية تكتشفه كرسام ومفكر وناقد وكاتب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة