Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الرسام تولوز لوتريك مهد للحداثة التشكيلية انطلاقا من ليل باريس المحموم

معرض استعادي في "القصر الكبير" يبرز تجربته الخلاقة

لوحة للرسام الفرنسي تولوز لوتريك (غران باليه)

ثمة فنانون كبار لا تكمن أهميتهم فقط في تمكّنهم، بعملهم وحياتهم، من اختصار الحقبة التي عاشوا فيها والشهادة على أفضل ما فيها، بل أيضاً في تجاوزها والسير بها إلى الأمام. وينطبق هذا الأمر خصوصاً على الرسام الفرنسي هنري دو تولوز لوتريك (1864 ــ 1901) الذي جسّد، بعمله وحياته، أكثر من أي فنانٍ فرنسي معاصر له، تلك الحقبة البوهيمية الخصبة والمجيدة من تاريخ باريس التي امتدت على طول النصف الثاني من القرن التاسع عشر وشكّلت، بتجاوزاتها والوقع المحموم للحياة خلالها، خير أرضية لانبثاق الحداثة.

ولكشف هذه الحقيقة وإعادة قراءة حياة ومنجَزات هذا العملاق على ضوئها، تنظّم "جمعية المتاحف الوطنية" في فرنسا حالياً، بالإشتراك مع متحف "أورسيه"، معرضاً ضخماً له في "القصر الكبير" (باريس) يتوق أيضاً، وكما يشير إليه عنوانه، "تولوز لوتريك، الحديث بحزمٍ"، إلى إظهار ما تدين به حداثة القرن العشرين لعبقريته، وإلى تصحيح الأخطاء التي ما زالت تعتري نظرتنا إليه وتقلّص من قيمته.

ولبلوغ هذا الهدف، يذكّر القيّمون على هذا المعرض أولاً بأن رؤية تولوز لوتريك الخلّاقة والمجدِّدة انبثقت وتبلورت انطلاقاً من موقفه الثابت والجريء من ثلاثة أشياء: الطبقة الأرستقراطية التي نشأ داخلها واحتقر باكراً قيَمها، سوق الفن ومعاييرها التي أهملها طوال مسيرته الفنية، وعالم الليل الباريسي المحموم الذي اختبره من قرب وكان أفضل الناطقين باسمه. ولعل أفضل دليل على ذلك تحرير الأشكال الظاهر في رسومه ولوحاته، وتلك القريحة الهجائية العنيفة التي تتميّز بها أفضل أعماله.

وبالتالي، لا إشكالية أو شكّ في حداثته السابقة لأوانها، كما ما يزال يظن بعض النقّاد الذين لا يرون فيه سوى مجرّد فنان ــ شاهد على عصره، مهما كانت أهميته، بل فرادة في المسعى يعكسها سلوك الفنان بالذات الذي نشط كوريث للرسامين الكبار الذين سبقوه، وكصاحب شبكة علاقات مهنية فعّالة سمحت له بتجاوز سوق الفن، وفي الوقت نفسه، كرسام متواطئ مع العالم ترجم هذا الأخير بقوة نادرة وتسامُح لا يخلو من شراسة، ما شحن تمثيله لـ "الحياة الحاضرة" بحدّة كبيرة من دون الحكم إطلاقاً عليها. ولذلك، بدلاً من إدراجه ضمن خطّ رسّامي الكاريكاتير الذين سعوا في زمنه إلى جرح مشاعر الممثَّلين في رسومهم، وأحياناً إذلالهم، يتوجّب ضمّه إلى رسامّي الواقعية التعبيرية الطريفة والمباشرة التي راسل الفنان أبرز وجوهها، كإنغر ومانيه ودوغا.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى "ثقافة حيّ مونمارتر" التي ركّزت معظم معارض لوتريك السابقة على استكشاف روابط فنّه بها، فقلِّصت بذلك دوره إلى مجرّد "مدوِّن" لوقائعها ومنحتنا صورةً خاطئة عنه كفنان تناول هذه الثقافة بازدراء أو احتقار، في حين أن أصوله ومواقفه وجماليته المفتوحة نأت به عن أي حكمٍ أخلاقي عليها. وفعلاً، لم ينصب لوتريك أبداً نفسه كمتّهِم لعيوب ورذائل محيطه المديني وأثريائه "الملوّثين"، بل جهد بطرافة وإنسانوية في ترجمة  حرية كانت تحتاج إلى فهمٍ أفضل من قبل جمهور عصره، تماماً مثل مواطنَيه دومييه وبودلير. ومن هذا المنطلق، كان اهتمامه الحصري بالهامشيين وتمضيته معظم وقته في الحفلات الشعبية والسيرك والحانات المشبوهة وبيوت الهوى، وعدم تطلعه إلى أي شهرة أو اعتراف بفنه إلا من قبل الشارع وفتياته.

عالم مونمارتر

من جهةٍ أخرى، وبتفضيلهم الظرف الاجتماعي وفلكلور الحياة في مونمارتر لقراءة فنّه، فات القيّمون على معارض لوتريك السابقة طموحه الجمالي الذي لا يمكن فهمه إلا على ضوء التأثيرات والأمثولات التي تلقّاها في بداياته. فبينما استقى من أعمال بونّا وكورمون وبرانستو تلك الشعرية التي تميّز تشكيلاته، ساعدته مراسلته الكثيفة لمانيه وفوران على استبدال الأسلوب الطبيعي الذي طبع بداياته بأسلوبٍ أكثر حدّةً وسخرية. أما علاقته الوثيقة بدوغا، "رسّام الراقصات"، وشغفه بالابتكارات الحديثة، فيفسّران رغبته الثابتة في تمثيل الحركة والزمن، وسعيه الدؤوب إلى إعادة صياغة الفضاء ــ الزمن للصورة أو المشهد المرسوم، ضمن هاجس سردي يشكّل ثابتة في عمله.

النقطة الأخيرة المهمة التي يتوقف معرض لوتريك الحالي عندها هي النقلة النوعية التي سجّلها في عمله خلال المرحلة الأخيرة من حياته وأفضت إلى ذلك الأسلوب الحصيلي المدهش الذي هو في الواقع استراتيجية رسامية حاذقة هدفها تسهيل مهمة استكشافه المجتمع الحديث في مختلف وجوهه، خارج قيود آداب السلوك. استكشاف يندرج في سياقه احتفاؤه بمشهد الحياة البوهيمية في حي مونمارتر، بأرستقراطية المتعة و"كاهنات الرذيلة"، على طريقة بودلير، وبالتالي ببيوت الهوى الباريسية حيث تمتّعت النساء باستقلالية وسلطة كبيرتين. ولبلوغ هذا الهدف، طوّر تقنيات رسامية سمحت له بتجسيد فتنة راقصات الكبريهات أثناء أداءاتهن، إنسانية الغانيات اللواتي احتضنّه، سطوة الإنارة داخل هذه الأمكنة المشبوهة وخارجها، في الفضاء عام، وحمى الحياة الليلة وتجاوزاتها. تقنيات تتجلى أهميتها وفعاليّتها خصوصاً في ملصقاته ورسومه المطبوعة التي تحيا تحت أنظارنا في معرضه الحالي بخطوطها المتشعّبة التي لا شيء يلجم حركتها، لا بل جموحها، وتعبّر أيضاً بحيويتها عن جنون السرعة الذي كان قد بدأ يتحكّم بحياة معاصريه.

باختصار، ومثل كتّابه المفضّلين الذين كانت تجمعهم "المجلة البيضاء" الفوضوية (بروست، ألفرد جاري، مالارميه، فيليكس فينييون، شارل بيغي...)، تمكّن لوتريك من التوفيق بين التمثيل الذاتي للحياة الحديثة والارتقاء بها نحو ميثات جديدة. وبذلك، يشكّل من دون شك أحد أهم مؤسّسي الحداثة.

المزيد من ثقافة