Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ميناء "الفاو" الكبير هل يحقق حلما عراقيا قديما

مَن وراء تعطيل إنشاء الميناء وتأخيره17 عاماً؟

ناقلة نفط ترسو في منصة عائمة قبالة ساحل مدينة الفاو الساحلية جنوب العراق (أ ف ب)

ظل حلم الدولة العراقية حتى قبل الاستقلال عام 1932 أن يكون لها منفذاً كفوءاً على البحر عبر الخليج العربي، فكانت البصرة - الفيحاء المدينة التي بناها الخليفة عمر بن الخطاب العام 14 للهجرة، لتكون بوابة العرب والعراق على مياه البحر، حتى أن زعيم ومؤسس الدولة العراقية الحقيقي الفريق نوري سعيد باشا الذي استوزر 14 مرة كان يعلن" أن لا قيمة للحديث عن أمن عراقي من دون تحقيق اثنين، منفذ كفوء على البحر وتأمين تدفق مياه نهري دجلة والفرات"، كما ورد في محاضراته في المدرسة الحربية العراقية ببغداد.

مئة عام مضت على حلم إنشاء الميناء

لم يكن إنشاء ميناء الفاو الكبير مشروعاً جديداً بل هو جزء من متبنيات مجلس الإعمار العراقي في العهد الملكي باسم ميناء العراق الكبير، يوم كان نوري السعيد يعمل على ترسيخ فكرة منفذ كفوء للعراق على الخليج العربي، ويصطدم باستراتيجيات إقليمية ودولية في المنطقة، ولم يتمكن نظام صدام حسين على رغم قوته من بناء هذا الميناء الحلم نتيجة صراعه مع إيران وطموحاتها في الوصول الى هذه المنطقة الحيوية لإنتاج وتصدير النفط، فاضطر لإنشاء ميناء "البكر" العائم ليؤمن وصول ناقلات النفط العملاقة لمياهه.

وبدأ يتحقق حلم هذا المشروع الحيوي الذي أضحى يشغل الناس في العراق وصار قضية رأي عام، ليكون أكثر ميناء جدلاً في منطقة الخليج العربي، بعد أن تأخر استكمال بنائه 17 سنة نتيجة تقاطع مصالح الأحزاب الحاكمة التي ساومت على بنائه، وتحججت كثيراً لأسباب عدة يعرفها العراقيون ويتحدثون عنها همساً خشية الكواتم، إضافة للصراع في الإقليم وتنازع العراقيين أنفسهم من أصحاب المصالح والنزعات والأهواء.

لكن هذا الحلم لم يتحقق كلياً بعد، فقد جرت مياه كثيرة تحت جسور بغداد والبصرة خلال سبعين سنة، ولعبت الأحداث والتطورات التي مرّ بها العراق صراعاته المستمرة دوراً، لا سيما بعد الحروب التي خاضها العراق بعيداً من متطلبات أمنه القومي وضرورات استقراره الأمني، الذي أرق نوري السعيد، حتى لحظات موته في يوم 14 يوليو (تموز) 1958، واستمر حال العراق المحترب المأزوم، وكان نية عبد الكريم قاسم ادخار جهد الشعب لمعركة بناء موانئ البصرة  التي ذهب إليها مرات كما خاض حولها غريمه صدام حسين بعد عقدين معارك طاحنة في حرب الثماني سنوات. وكان يمكث فيها في البصرة، ليعاين جبهتها وعينه على الخليج حتى أضطر إلى أن يوقع اتفاقية عام 1975 مع شاه إيران ويعطي نصف شط العرب لحدود (خط التالوك) منتصف النهر، لتصفية صراعه المسلح شمال البلاد وأوقف ذلك الاتفاق المذل، الدعم الإيراني زمن الشاه (للمتمردين الأكراد) بحسب وصفه، وتمكن من أن يفرض سطوة الدولة على المحافظات الشمالية حينها، ويلغي اتفاقيته مع الشاه التي تسببت بأطول حرب مع إيران.

لكن ظلت عينه على الجنوب حيث مياه الخليج ومنجم (الذهب الأسود) في العراق، ومنفذ تصديره الوحيد عبر موانئ على الخليج، حتى استكمل العراق بناء ميناء "البكر" العائم 1975 ليُمكّن السفن العملاقة من الرسو لتصدير النفط الخام.

وبعد إنشاء الكويت لميناء "مبارك الكبير" بعد الاتفاق مع حكومة المالكي، برزت الحاجة إلى إعادة تفعيل خرائط سابقة لميناء الفاو الكبير التي قدمها المستثمر العراقي جوزيف حنا الشيخ عام 2004 من قبل، الذي أسهم في إنشاء موانئ أبو ظبي كمستثمر، مع إعلانه استثمار دولي لتنفيذ ميناء الفاو الكبير في مدينته البصرة، لكنه ووجه بممانعة وتعنت نتيجة مساومات أحزاب السلطة والحؤول دون تمكينه لتنفيذ الميناء، كما قال لي حينها السيد جوزيف حنا الشيخ كم عانى طويلاً حتى يقنع حكومات بغداد المتعاقبة قبيل رحيله بجدوى المشروع من دون نتيجة.

ولادة قيصرية لمشروع ميناء الفاو الكبير

عامر عبد الجبار وزير النقل الأسبق والمسؤول الأول عن ولادة هذا المشروع قال لـ"اندبندنت عربية"، بعد جهود مضنية وولادة قيصرية، تم التوقيع مع اتحاد الشركات الإيطالي وهو اتحاد حكومي لإعداد التصاميم النهائية مع جداول الكميات بمبلغ مقداره 42 مليون دولار، واستلمت التصاميم في موعدها بعد سنتين، في يناير (كانون الثاني) 2012، تلاه توقيع عقدين الأول مع شركة يونانية نفذت كاسر الأمواج الشرقي بطول ثمانية كيلومترات وعقد مع شركة (دايو الكورية) لتنفيذ كاسر الأمواج الغربي بطول 16 كيلومتراً بلغت كلفة مجموع العقدين 920 مليون دولار" لكن المشروع مرّ بفترة تلكؤ في توقيع عقود متممة لإنشائه استمرت أربع سنوات لغاية 2018، فترة محاربة داعش، حتى استأنف توقيع عقود التنفيذ في عهد وزارة عبد المهدي. ويقول الوزير عامر عبد الجبار" شهدت هذه الحقبة توقيع عقدين مع شركة (دايو الكورية) أيضاً الأول بمبلغ 108.2 مليون دولار( 92 مليون يورو)، لإنشاء الكاسر الداخلي للأمواج الذي يمثل قاعدة الأرصفة وعقد آخر بمبلغ 400 مليار دينار عراقي (336 مليون دولار) لإنشاء النفق الذي يمر تحت نهر خور الزبير، لربط الطريق نحو الخط السريع البري بالميناء الرئيس. ولم تخصص أموال في الموازنة ولعدم إقرار موازنة 2020 ولم تقرر حتى الآن ومبيعات النفط لا تكفي لتسديد الرواتب، وبعلمي هناك نية للاقتراض لتنفيذ خمسة أرصفة من مجموع الأرصفة البالغ عددها 90 رصيفاً مع استكمال مستلزمات التشغيل تجري عمليات التوسعة المستقبلية وصولاً إلى التسعين رصيفاً المقررة، وقد لمست إصراراً وجدية لدى رئيس الوزراء لتنفيذ المشروع".

وفي سجلات الموانئ العراقية تكشف أن شركة (دايو الكورية) التي شرعت بإنجاز كاسر الأمواج بطول 16 كيلومتراً يعد أكبر كاسر للأمواج في العالم بقناتيه الشرقية والغربية في العالم، الذي يعتمد على تقنية القوالب العائمة الجاهزة للدعامات التي تنقل بواسطة الساحبات العائمة والغاطسة المعتمدة بأحدث وأكثر الموانئ في العالم، والذي استمر ثماني سنوات متواصلة.

معوقات تواجه استكمال الميناء

أثر كثيراً تأجيل إنشاء الميناء على تأمين سلس لكلفته أيام الفائض والوفرة المالية السابقة، في وقت بات الحديث عن ولادة الميناء شغلاً شاغلاً للعراقيين الذين وضعوا ضرورة إنجازه في أولويات حياتهم الحالية لما سيوفره من آفاق اقتصادية هائلة كمورد اقتصادي ثانٍ للبلاد بعد النفط، لكن العسرة المالية الحالية بسبب انخفاض أسعار النفط وتدني كمية التصدير، واعتماد البلاد على اقتصاد ريعي أحادي، ينفق أكثر من نصفه على الرواتب... تعيق تنفيذه بكفاءة.

ويكشف وزير النفط الأسبق عامر عبد الجبار ذلك بقوله، "هناك نية لأخذ قرض لتنفيذ خمسة أرصفة وبالتفاوض مع الكوريين الجنوبيين طلب مبلغاً مقداره أربعة مليارات دولار وأظنه رقماً مبالغاً فيه، حتى أوضح ذلك ظهور مدير الموانئ العراقية الذي أكد تخفيض المبلغ إلى مليارين ونصف مقابل تغير الأعماق من 19 متراً إلى 14 متراً، وهذا أثار تحفظي الشديد بأن تقليل الأعماق غير صحيح ويتناقض مع أهداف إنشاء هذا الميناء كي يستقبل السفن العملاقة، فإذا كانت الأموال لا تكفي يمكن تقليل عدد الأرصفة إلى أربعة، وقد أقر ذلك من قبل رئيس الوزراء، للتفاوض مع دايو الكورية مع مقترحي لتوسيع المنافسة مع شركات أخرى".

الفاو من زراعة الحناء لثروة الميناء

على رغم كل هذا تُدق أسس هذا الميناء حالياً بعد استكمال كاسر الأمواج الداخلي الذي يؤمن انسيابية المياه ليشهد هذا المشروع على شبه جزيرة الفاو جنوب آخر محافظة عراقية/ البصرة على الخليج حيث تقع شبه جزيرة الفاو، التي اشتهرت بزراعة الحناء وهي خانق ضيق ولسان بحري يمتد نحو الخليج ويقترب من الكويت في الجنوب وإيران التي تحدها من الشرق، يبنى أعقد ميناء في العالم في ظروف العراق غير المستقر، الذي تتجاذبه ليس موجات البحر فحسب بل ظروف سياسة عصيبة، ليسجل العراق ولادة جديدة بهذا الميناء الذي تقدر طاقته بـ99 مليون طن سنوياً ليكون واحداً من أكبر الموانئ المطلة على الخليج العربي.

وعلى رغم التأخر عشر سنين لاستكماله منذ وضع حجر الأساس لبنائه، فإنه مشروع أشبه بحلم عراقي يربط العراق بطريق الحرير، حيث تجري معادلة أخرى هي الربط السككي، بين آسيا وأوروبا عبر طريق بري سككي.

الأهمية الاستراتيجية

يعد هذا المشروع عند اكتماله من المشاريع الدولية الاستراتيجية حيث يربط الشرق بأوروبا من خلال ميناء الفاو وعبر طريق سككي بين العراق وتركيا وسوريا، وصولاً إلى أوروبا ومرور طريق الحرير البري من الصين عبر العراق بربط سككي سريع يقطع حوالى ألفين كيلومتر بشبكة سكك قطار سريعة تؤمن وصول البضائع والسلع من موانئ بحر العرب والخليج نحو الأرض اليابسة في البصرة وصولاً لتركيا وأوروبا، هذا الطريق الحلم الذي يذّكرنا بـ"قطار الشرق السريع بغداد - برلين"، الذي شرع هتلر حينها بدك سكته المترية، التي أبدلها الإنجليز بسكة أوسع مترين في ما بعد، وظل حلم هذا الربط الذي يختزل الزمن والمسافات والكلفة ويغير الاستراتيجيات، نحو عالم جديد يقوم على ردم فجوات الجغرافيا.

المزيد من تحلیل