Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جون إرفينغ: اللغة في الرواية أهم من القصة نفسها

روايته "العالم وفقاً لغارب" باعت 10 ملايين نسخة وبرأيه أن التعصب لم يتوار في أميركا وذكورية همنغواي مزيفة

الروائي الاميركي جون إرفينغ (غيتي)

بات الروائي  الأميركي جون إرفينغ، بفضل رواية "العالم وفقاً لغارب" (1978) التي باعت 10 ملايين نسخة، يعد كاتباً كلاسيكياً، وأصبح النجاح ملازماً لجميع إصداراته اللاحقة، علماً أنه لم يبتعد عن المواضيع المعتمة والقاتمة التي قاربها فيها: العنف الممارس على المرأة، التمييز الجنسي، الحق في الإجهاض، اليتم، الإبعاد، وأيضاً فقدان الأحباء وظروف الكاتب. ولا شك في أن تطلبه من نفسه ككاتب وإمعانه في تشريح وضع بلاده من خلال سرده قصصاً هي طريفة بقدر ما هي سوداوية، هو الذي جعل منه أحد أكبر أصوات الأدب الأميركي المعاصر.

42 عاماً مرت على صدور "العالم وفقاً لغارب" من دون أن يتمكن الزمن من النيل منها. وإذ تحولت فور صدورها إلى رواية مرجعية لجيل الثمانينيات، فإنها مرشحة اليوم لتأدية الدور نفسه، خصوصاً أن صاحبها أنهى منذ فترة قصيرة كتابة سيناريو مسلسل تلفزيوني مقتبس منها. مناسبة اغتنمتها مجلة "اميركا" لمحاورة إرفينغ حولها، وحول عمله الكتابي ككل.

يقول إرفينغ في روايته الشهيرة هذه:"أكره أن أرى كاتباً يستغل شهرته لنشر كل النصوص القديمة التافهة التي تقبع في جواريره". هذه الرواية لم تتاثر بالزمن و"تعتق"، ومن يقرأها اليوم يجد أنها راهنة إلى حد مبلبل: مناخ الكراهية والارتياب من جميع أنواع الاختلاف، التحرش الجنسي، العنف الذي تخضع له المرأة... يقول ارفينغ عن عدم تأثير الزمن على الرواية: "مع الأسف. بصراحة، كنت أفضل أن تعتق هذه الرواية ويتجاوزها الزمن، ما كان سيعني أن الوضع الاجتماعي والسياسي تقدم في الاتجاه الصحيح. لكن الأمر ليس كذلك. أتذكر جيداً أنني حين كنت في صدد كتابتها، لم يكن يتملكني سوى خوف واحد: أن يتجاوز العالم موضوعها قبل أن أنجزها. مع الأسف، لم يكن خوفي في محله. فمثلما كانت النساء محقات في غضبهن عام 1978، تملك النساء اليوم كل الحق في التعبير عن الشعور نفسه. ما زال التهميش والتمييز بسبب الاختلاف الجنسي موضوعاً مركزياً راهناً وشائكاً، والوضع تدهور بشكل خطير في أميركا ". وعن قضية حقوق المرأة يقول: "لا يمكننا أن نتساهل ونعتبر أن مسألة حقوق المرأة ومساواتها بالرجل قد حلت، لا في أميركا ولا في العالم. هذا خطأ وإنكار للحقيقة. أمي كانت ممرضة، ثم مرشدة اجتماعية عملت عن قرب مع ضحايا العنف العائلي، خصوصاً الفتيات القاصرات، وهي التي حدثتني أولاً عن حق المرأة في إجهاض مشروع".

وعن الحالة الذهنية التي كانت تتملكه عندما بدأ في كتابة هذه الرواية، يقول: "كنت في حالة غضب بسبب كذبة "الثورة الجنسية" التي يقال إننا قمنا بها عام 1968 وأثمرت "تحرراً جنسياً" في العالم أجمع. فلو أن هذا صحيح، لماذا ما برح الناس يكرهون بعضهم بعضاً بسبب اختلافاتهم الجنسية؟ ثورة؟ أين هي الثورة؟ الحقيقة هي أننا تجاهلنا مطالب الأقليات الجنسية، ولذلك قررت منحها الكلام في "العالم وفقاً لغارب". ويضيف: "حصدت الرواية عند صدورها وبسرعة نجاحاً كبيراً لم أكن أتوقعه، لأن رواياتي الثلاث السابقة بقيت مجهولة نسبياً. اللافت في المقالات الكثيرة التي تناولت هذا العمل، هو أن جميع النقاد استخدموا الصفة نفسها لمدحي أو ذمي: "نسوي". صفة أعتبرها إطراءً. "غارب" هي الرواية الأخيرة التي كتبتها في ظروف صعبة. آنذاك، لم أكن بعد قادراً على العيش من مبيعات كتبي، وكنت متزوجاً وأباً لطفلين. وبالتالي، بالكاد كنت أكتب 90 دقيقة في اليوم، أربعة أيام في الأسبوع".

الشخصية الرئيسة

ويتحدث عن الشخصية الرئيسة في هذه الرواية التي تعج أصلا بشخصيات مهمة: " على كل قارئ أن يكوّن رأيه بنفسه. صحيح أنه حصل تعارك بين النقاد لدى صدور الرواية لتحديد شخصيتها الرئيسة. غارب؟ أمه الممرضة جيني فيلدز؟ بالنسبة إلي اليوم، هذه الشخصية هي لا غارب ولا جيني، بل المرأة المتحولة جنسياً، روبرتا مولدون. فهي التي سمحت لغارب في إعادة النظر بصورة أمه داخله. غارب يعتبر نفسه كاتباً جدياً، علماً أنه لم ينشر سوى قصة معتمة في مجلة هامشية، بينما ستحصد السيرة الذاتية التي ستكتبها أمه بعنوان "امرأة مشبوهة جنسياً" نجاحاً نادراً فور صدورها. غارب سيتعالى عليها بطريقة ممقتة، معتبراً إياها مجرد محرضة. لكن مع الوقت، سيعدل هذه الصورة ويقتنع بأفكار أمه، خصوصاً بعد اغتيالها. من قاده إلى ذلك؟ روبرتا. إنها صوت العقل الوحيد في الرواية والشخصية الأهم التي لم أمنحها الاهتمام الذي تستحقه، مع الأسف".

يرى بعض النقاد في إرفينغ كاتب روايات "اجتماعية" و"سياسية"، يقول في هذا الصدد: "نعم. ينطبق هذا التوصيف على روايتيّ "العالم وفقاً لغارب" و"قوانين مصنع عصير التفاح" اللتين أعالج فيهما مواضيع التمييز الجنسي والإجهاض غير المشروع وقدر الأيتام، وأيضاً على روايتي "صلاة لأوين ميني" (1989) التي أتناول فيها نتائج حرب فيتنام، وعلى رواية "في شخص واحد" (2012) التي أتحدث فيها عن وباء الإيدز وصمت المسؤولين السياسيين الطويل في شأنه... لكن إمكانية تأويل هذه الروايات اجتماعياً أو سياسياً لا يعني أنني كتبت كلاً منها ضمن هذه النية. تنبثق رواياتي من تساؤلاتي حول عالمنا الراهن، لا من قناعاتي السياسية". وعن وقت الكتابة يقول: "أثناء كتابتي رواية، هناك دائماً ثلاث أو أربع روايات تختمر في ذهني. سيرورة الخلق لدي تعمل مثل عربات قطار غير موصولة الواحدة بالأخرى وتنتظر في المحطة التي هي ذهني. معظم رواياتي إذاً انتظرت طويلاً قبل أن أباشر في كتابتها. هذا الوقت الطويل ضروري لي كي تختمر داخلي المواضيع التي تهمني. لا يمكن تشييد رواية مثل كتاب مذكرات، فهي تتطلب أخذ مسافة من الذات والعثور على الشكل الأكثر شمولية لما يعتمل داخلنا. لذلك لا أحب كثيراً السير الذاتية والمذكرات والروايات المبنية على سير متخيلة، السهلة والنرجسية.

المخفي في السيرة الذاتية

ويضيف: "على قارئي أن ينسى الجانب السيرذاتي في رواياتي. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يستخلصه من هذه الزاوية هو أنني أكتب عما يخيفني، وليس عن الأحداث التي عايشتها، علماً أن ما يخيفنا ولم نختبره شخصياً هو جزء من سيرتنا. لكن الجانب السيرذاتي في رواياتي محدود ولا أهمية كبيرة له لمقاربتها. قد تكون رواية "إلى أن أجدك" (2005) قريبة من السيرة الذاتية ففيها أستكشف موضوع الأبوة. صحيح. انتظرت ستين سنة لكتابة هذه الرواية. عند انتهائي من كتابة كل واحدة من رواياتي العشر الأولى، كانت تطرق بابي وأتجاهلها. كان علي أن أضع مسافة كبيرة بيني وبين قصة والدي الذي لم أعرفه أبداً كي ينبثق شيء آخر لا يكون مجرد سيرة ذاتية. ثم هناك مخيلتنا التي لا تنام ولا ترتاح أبداً، وحتى حين نتوقف عن الكتابة في نهاية النهار، تتابع نشاطها. يمكنها أن توقظنا في الرابعة أو الخامسة صباحاً وتقودنا إلى أماكن لا يسمح وعينا لنا بدخولها، أو إلى تساؤلات كالتالية: من كان والدي؟ هل أثرت اهتمامه يوماً؟ هل قرأ كتبي؟ هل كان يأتي خفيةً لمشاهدة مبارياتي في المصارعة؟ رواية"إلى أن أجدك" انبثقت من هذه التساؤلات".

 

عن  الجانب السيرذاتي الآخر في هذه الرواية، أي الاختبارات الجنسية للفتى جاك الذي فقد عذريته باكراً بسبب امرأة، يقول: "ماذا تريدني أن أقول لك؟ إنني تعرضت للاغتصاب في سن الحادية عشرة على يد فتاة راشدة؟ حسناً، هذا صحيح. لكن في الرواية، ابتكرت للفتى جاك تجربة أكثر ضرراً مما حصل فعلاً معي. جاك يفقد عذريته على يد امرأة أربعينية سبق أن اغتصبت واحداً من أبنائها. إنها إذاً شخصية أكثر سوداوية من الشابة العشرينية التي عرفتها أنا، وكانت المسكينة مريضة نفسياً، لكن لطيفة وودودة. قد أبالغ، لأن في الرواية، يجب أن يكون كل شيء أسوأ كي يكون أفضل. خذ ديكنز مثلاً: لأنه تلاعب بمعطيات طفولته الخاصة في "دايفيد كوبرفيلد" و"أوليفر تويست"، صارت الروايتان تحفتين أدبيتين. ما كان لينجح في هذا الإنجاز، لو أنه اكتفى في سرد مشاكله الصغيرة كما حصلت. لوضع رواية جيدة، يتوجب تأجيج لحظات الحقيقة".

فلوبير معلمي

يرى ارفينغ ان اللغة في الرواية اهم من القصة. "حين أنطلق في كتابة رواية، أعرف سلفاً كل ما سيحدث فيها. لذلك، أعير انتباهاً أكبر للغة وأركز على ما أنا في صدد كتابته: اختيار الجمل، تعزيز وقعها، تطويلها أو تقصيرها، تسريع الحوار... هذا هو عمل الكاتب". ويعتبر ان من اوحى له بهذه الطريقة هو الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير. ويقول: "اللغة تمسك بكل شيء داخل رواياته. شخصيتا إمّا بوفاري وزوجها شارل عاديتان. ما هو استثنائي ورائع في رواية "مدام بوفاري" هو طريقة فلوبير في الكتابة عنهما، في جعلنا نشعر ونعي أنهما شخصيتان محكومتان منذ البداية في الالتقاء وفي عيش علاقة مخيبة لآمال كل منهما. فلوبير هو معلمي المطلق".

وعن رأيه في المدرسة التي تدعو، مثل همنغواي، إلى الكتابة من أقرب مسافة ممكنة من الذات وتؤكد أن "القليل هو كثير"، يقول: "تفاهات! كل هذا هو جزء من ذكورية همنغواي المزيفة: "الرجال مثيرون للاهتمام لأنهم غير قادرين على قول شيء شخصي". يا للتفاهة! إنه هروب من الحقيقة. يحق لهمنغواي أن يستخدم أقل عدد ممكن من الكلمات في جمله، لكن لماذا؟ إن أردت أن تركض، هل تقيد واحدة من ساقيك إلى الخلف وتقفز على الأخرى؟ أنا أفضل الركض بساقين متينتين. بقوله إن "القليل هو كثير"، يشكل همنغواي نقيض سوفوكليس وشكسبير وجميع كتاب القرن التاسع عشر الذين كانوا يكتبون ببطء رائع ويستفيضون في الكتابة، مطورين الأشياء على مر الصفحات والزمن، وذلك بطريقة تمكننا من رؤية هذه الأشياء تأخذ شكلاً وحياة. في روايات همنغواي، كل الشخصيات تتكلم بلغة مختزلة، ستينوغرافية. إنها لغة سكرتيرة، وهذا ممل. القليل ليس كثيراً، بل قليل".

يحدد إرفينغ  دور الكاتب قائلاً: "على الكاتب ألا يمضي وقته في الاستنكار وتسجيل المواقف في وسائل الإعلام، بل في الكتابة بأفضل طريقة ممكنة حول أكثر المواضيع حساسية. دور الكاتب أن يكون واعياً لنفسه وأن يقول الحقيقة، وإن أزعج كثيرين".

المزيد من ثقافة