عاش الرسام الفرنسي بيار بونار (1867-1947) ثمانين عاماً رسم طوال ستين عاماً منها من دون انقطاع تقريباً، وكانت سنوات نشاطه تلك السنوات التي شهدت تبدلات مدهشة في تعاقب التيارات الفنية بوتيرة تزيد كثيراً عن أية وتيرة للتعاقب طوال تاريخ الفن. وبونار نفسه بدّل وعدّل من أساليبه وتوجّهاته على مدى سنوات نشاطه، وأحياناً بصور جذرية، إلى درجة يصعب معها اليوم نسبته إلى تيار معين ولو لفترة محددة من ذلك المسار. ومع ذلك يمكن القول إن ثمة ما هو ثابت في كل تقلباته وتغيراته: التلوين. كان دائماً سيّداً من سادة التلوين على مدى تاريخه الفني كله. فاليوم يمكن للمرء ما إن يرى جزءاً من لوحة لبونار، تخمين أنها من رسمه من مجرد رصده الحركة التلوينية لديه. لكن الطريف هو أن ثمة مرحلة، مختصرة على أية حال، من مراحل بونار كانت الأقل تلوينيّة لديه. أما مصدر الطرافة هنا فهو أنها كانت المرحلة التي كان ينبغي أن تصل فيها الألوان لديه إلى ذروة استثنائية. كان ذلك أواخر العشرية الأولى من القرن العشرين وبعد أن عاد من جولة في شمال أفريقيا زار خلالها الجزائر والمغرب وتونس مستلهماً الألوان الطبيعية كما تبدو تحت شعاع شمس متواصلة تكاد لا تغيب. يومها عاد بونار ولكن ليرسم سلسلة لوحات هي الأقل تلوينيّة في تاريخه، ومن بينها لوحته الأضخم والأشهر "ثلاثية البحر الأبيض المتوسط" التي رسمها بين 1910 و1911 للجامع الروسي الشاب ماتوزوف لتنتهي اليوم معلقة في متحف الإرميتاج في سانت بطرسبرغ، وتعتبر من لوحات بونار الأساسية بأجزائها المتساوية الثلاثة التي يصل مجموع عرضها إلى 447 سم وارتفاعها إلى 407 سم.
بين الفسيفساء والتنقيط
للوهلة الأولى تبدو هذه اللوحة وكأنها مصنوعة بشكل فسيفسائي ممتزجاً ولو جزئياً، بأسلوب التنقيط الذي كان بونار قد اتبعه قبل ذلك ثم خاض صراعاً مع أساطينه، لا سيما منهم بول سينياك. صحيح أن اللوحة مغمورة بنور منتشر يكاد في انتشاره يلغي الظلال وكأنه طالع من كل مكان، من دون أن يفوتنا ملاحظة أن التلوين العام للعناصر المكوّنة للوحة بدءاً من النباتات المنتشرة بوفرة وصولاً إلى المساحات الضئيلة التي تشغلها أجزاء من السماء وبعض الغيوم وصولاً إلى الأرضية وثياب المتنزهين في البارك المرسوم، تلوين يبدو أقرب إلى الشحوب لكنه يبدو في الوقت نفسه أكثر تأثيراً مما قد تبدو فيه استجابة لما كان بونار قد كتبه في ملاحظة له تعود إلى تلك المرحلة بالذات، معرباً فيها عن "تعبي من كل تلك الألوان التي تجعل الشمس ساطعة بقوة"... ومع ذلك وبعد فترة من إنجاز هذه اللوحة، نلاحظ كيف أن بونار سرعان ما عاد إلى التلوين الصارخ وكأن الابتعاد عن التلوين كان عرضياً لديه لا أكثر. عاد سيّداً للتلوين.
إذا كانت أسباب دخول عالم الفن تتعدد بتعدد أصحابها، فإن ثمة من الأسباب ما يدهش ويدفع إلى التفكير. ومن هذه الأسباب ذاك الذي دفع بيار بونار ذات يوم لأن يقرر أن طريق الفن سوف يصبح طريقه منذ ذلك اليوم. كان السبب إعلاناً عن صنف من أصناف الشمبانيا، لا أكثر. والحكاية أن ذلك الصنف كان قد أعلن عن مسابقة لرسم ملصق إعلاني لبضاعته، فاشترك بيار بونار في المسابقة واختير الملصق الذي رسمه. على الفور قرر صاحبنا أن يهجر وظيفته في الدولة، وأن يتخلى نهائياً عن دراسة الحقوق، منصرفاً إلى الفن، فكان أن ولد في ذلك اليوم واحد من "أهم الملوِّنين" في تاريخ الفن الفرنسي الحديث. والحال أن الطابع التلويني ظل يطغى على أعمال بونار إلى درجة جعلت الكثير من النقاد ومن مؤرخي الفن يترددون طويلاً دون اعتباره فناناً حقيقياً، مؤثرين على ذلك النظر إليه على أنه محترف فن تزييني. وبونار ساعدهم كثيراً على ذلك الاعتقاد، لا سيما في مرحلة لاحقة من حياته وعمله الفني حين وصل إلى حدود إزالة الأشكال من لوحاته، لصالح الإمعان في التلوين بشكل جعل الألوان الزاهية أساس لوحاته وجوهرها وأحياناً بعدها الوحيد.
نحو ثورة فنية
ومع هذا، عند بداياته الفنية كان بونار يتطلع إلى إحداث ثورة في عالم الأشكال. كان ذلك حين انضم إلى عدد من الفنانين أصدقائه، من الذين كانوا مثله يدرسون في "كلية جوليان" في باريس، ليؤلفوا معاً جماعة "الأنبياء" التي كان لها من الشأن في فنون نهاية القرن التاسع عشر ما جعل بول غوغان، أحد كبار فناني ذلك الزمن، ينضم إليها بين الحين والآخر. غير أن لا شيء في طفولة بونار وصباه، كان من شأنه أن يشي بأنه سوف يصبح فناناً تشكيلياً. فهو ولد عام 1867 ابناً لعائلة متوسطة، وكمعظم أبناء ذلك النوع من العائلات انصرف لدراسة الحقوق على أمل أن يحظى بوظيفة مرموقة في الدولة، لكنه حين أخفق في امتحان التخرج اكتفى بوظيفة رسمية ثانوية، في الوقت نفسه الذي اكتشف أن بإمكانه أن يرسم أيضاً، فبدأ يرسم لوحات شاء لواحدة منها أن تشارك في "مسابقة روما" لكنها رفضت. فلم ييأس بل انتسب إلى كلية جوليان حيث تعرف إلى إدوار فويار وموريس دينيس وبول رانسون وغيرهم من الذين سرعان ما أسس معهم جماعة "الأنبياء"، ثم أسس محترفاً مع فويار أصبح مقر الجماعة. وفي عام 1891 أقام "الأنبياء" معرضهم الجماعي الأول تحت عنوان "انطباعيين ورمزيين". بعد ذلك راح بونار يعرض منفرداً، ويرسم رسوماً تنشر في "المجلة البيضاء". ونذكر هنا أن أول معرض فردي أقامه بونار لأعماله، حقق فشلاً ذريعاً، بشهادة كميل بيسارو الذي كتب في ذلك الخصوص رسالة إلى ولده يقول له فيها إن حصة بونار في الفشل في معرضه ذاك كانت كبيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حميمية عابرة
في 1911، وكانت رسومه قد بدأت تتبدل لتتخذ طابعاً أكثر حميمية، حيث يصور مشاهد منزلية يغلب عليها التلوين، ترك بونار باريس ليقيم في فيلا اشتراها قرب مدينة فرنون. وراح يرسم بانتظام، سائراً على الخط التلويني نفسه الذي كان قد بدأ به والذي جعل زملاءه "الأنبياء" يطلقون عليه لقب "الياباني"، وإن كانت قد بدأت تشغل باله الآن أساليب تتسم بنوع من التركيب التجريدي، بعيداً من الطابع الواقعي الذي كان سمة لوحاته المبكرة. بالنسبة إلى بونار، وعلى عكس زميله موريس دينيس، لم يعد الموضوع يحظى لديه بأية أفضلية خاصة، حتى ولو كان يصور مشاهد من الحياة الباريسية، أو صوراً من حياة حميمة.
مهما يكن فإن تلك الفترة كانت الفترة التي بدأ بونار يلجأ خلالها إلى ألوان أكثر كثافة، ويركز على أسلبة الأشكال، ويلاحظ هذا التوجه الجديد، خصوصاً، في لوحات له مثل "بعد ظهر بورجوازي" (1903) التي تعتبر واحدة من أجمل لوحاته وأكثرها طموحاً تجديدياً. خلال السنوات التالية أضحت تقنيات بونار أكثر تحرراً، وألوانه أكثر زهواً، وراح يمعن في جعل الحياة الباريسية موضوعاً لأعماله، وكذلك شغل باله أمر تصوير الحياة الريفية في فرنون وما جاورها، ومشاهد الطبيعة الميتة والعرايا، ومن أهم أعماله في تلك المرحلة لوحات "البحر الأبيض المتوسط" الثلاث. وبين 1915 - 1920 ركز بونار عمله على الرسوم وذلك في محاولة منه لـ"الهرب من التلوين الذي بدأ يأسرني ويحرفني عن مسيرتي الفنية" على حد تعبيره. غير أنه سرعان ما عاد بعد عام 1920 إلى الألوان الفاقعة. وبهذا استعاد فنه أساليبه القديمة التي ظلت مسيطرة عليه حتى رحيله في شهر يناير (كانون الثاني)، وكانت لوحته "مشهد في الجنوب" (1940) واحدة من آخر أعماله الكبرى، وأتت أشبه بخلاصة لأسلوبه التلويني والتكويني في آن، وذلك في زمن نُسي فيه انتماؤه إلى جماعة "الأنبياء" وبدأ يعامَل كفنان فرد متميز.