Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رضا البهَّات يكشف حقائق الحياة ببساطة خادعة

سرد بعين كاميرا ترصد ما حولها بما يشبه الحياد في قصص "حكايات شتوية"                       

لوحة للرسام المصري محمد عبلة (موقع الرسام)

على الرغم من اقتراب القصة القصيرة في كثافتها ومجازيتها من عالم الشعر، فإنها تظلّ مشدودة إلى موضوعية السرد القصصي الذي يحاول الكاتب من خلاله تنحية الذات ومحاولة الرؤية الموضوعية للأشياء والشخصيات بحيث تبدو عينه أقرب إلى الكاميرا التي ترصد ـ بما يشبه الحياد ـ ما حولها. وهذا ما نلاحظه على مجموعة "حكايات شتوية " للكاتب المصري رضا البهَّات (1955) الصادرة حديثاً عن دار "بدائل" في القاهرة والفائزة بجائزة ساويرس في دورتها الماضية.

وعنوان المجموعة يحمله أحد سبعة أقسام تضمّها على النحو الآتي: "طقوس بشرية، تخوم المدينة، أسرية، يوم الزيارة، عنبر الأطفال، حكايات شتوية وعلى شاطئ البحر". ويضمّ كل قسم مجموعة من القصص تتراوح في أعدادها من قسم لآخر، فما هو المبرر الفني لمثل هذا التقسيم؟ يلاحَظ أن كل قسم يقوم على عنصر فني واحد، فـ"طقوس بشرية" مثلاً يقوم على رسم نماذج بشرية متباينة. بينما يركّز "تخوم المدينة" و"على شاطئ البحر" على وحدة المكان. وقسم "أسرية" يتناول نماذج الابن والابنة والأب والجدة، ثم تتجلّى وحدة المكان في "يوم الزيارة" الذي تدور أحداث قصصه في أحد السجون. في حين يهتم قسم "حكايات شتوية" بعنصر الزمن، ما يعني أن المجموعة تقوم على التصميم وتنأى عَمَّا يسِم أغلب المجموعات القصصية من مجرد جمع نصوص متباينة. في قصة "ذاكرة القلم"، وهي القصة الثانية في المجموعة، يتناول الكاتب علاقته بالقلم الذي يصاحبه أينما سافر وبالكتابة التي تدفعه إلى يقظة الحواس وملاحظة "وجوه البشر وما فيها من أخوّة تسقط حواجز اللون والعقيدة واللغة والفارق الحضاري". فالكتابة في جوهرها، هي البحث عن كل ما هو إنساني أو البحث عن جوهر الإنسان الذي حجبه اختلاف اللون والعقيدة واللغة. لكن للكتابة ثمنها، فما كاد الكاتب يخطو من بوابة المرور في أحد المطارات "حتى انفجرت سارينة كسارينة الإسعاف وبلحظة أحاطه جنديان وضابط بأسلحة مُشهرة". وكان ذلك بسبب وجود هذا القلم المعدني معه. هذا القلم الذي أخرجه أحدهم قائلاً للكاتب: "خد بالك، هيسبّب لك المتاعب في كل حتّة تروحها".

شخصنة الهمّ العام

إن ميزة رضا البهَّات، الطبيب صاحب روايات "بشاير اليوسفي" و"ساعة رملية تعمل بالكهرباء" و"شمعة البحر"، تتمثَّل في قدرته على تحويل القضايا الكبرى إلى همّ شخصي أو ما يمكن أن نطلق عليه شخصنة الهمّ العام، في سياق جيل السبعينيات الذي يُعدُّ أحد أبرز أصواته في مصر. فقضية "جدوى الكتابة" التي شغلت تفكير النقاد، يقدمها الكاتب بهذا الأسلوب البسيط الذي هو أقرب إلى التورية في انقسام معناها إلى قريب تراوغ به وبعيد تقصده. واللافت – وهو ما يتوازى مع هذه الآلية – هو تقديمه للمقاومة الشعبية التي واجهت العدوان الثلاثي على مصر، بما لها من جلال وخطورة، من دون صوت عال بل من خلال لعب أطفال تم تحذيرهم من التقاط أي شيء مُلقى على الأرض خوفاً من أن يكون لغماً ألقته الطائرات المُغيرة، لكنهم وسط هذه الأشياء، يجدون شيئاً على هيئة "نصف قلب أحمر" وعندما يلمسونه بحذر، لا ينفجر فتزداد حماستهم في البحث عن الفلقة الأخرى، "وعن بقية الورود الزجاجية التي تحتفظ برائحة عطر شممناه جميعاً". ويبقى السؤال: لماذا اختار الكاتب شكل القلب ولماذا وصفه بالأحمر؟ وما معنى انشطاره وبحث الأطفال عن نصفه الثاني؟

هذه رموز لا تمرّ – كما عوَّدنا الكاتب – مجانياً، فهي حاملة لدلالات أعمق من ظاهرها، فقد يكون القلب هو قلب الجميع الذي انشطر بفعل العدوان الغاشم، وقد يكون قلب هؤلاء الأطفال الذين لم يسعدوا بطفولة آمنة وقد يوحي اللون الأحمر بالانتماء والتضحية. هكذا تتعدّد الدلالات من خلال هذه التيمات البسيطة. يتكرّر دال القلب في "انكسار آنية خزف" التي تتحدّث عن "كاميليا" الشابة الصغيرة المنفتحة على الحياة، وربما الخائفة منها، فهي "لا تتكلم، متكىء عودها كأميرة تشظّى وجهها بالبكاء". فهل كانت هذه الحالة هي سبب سقوط "الفازة الخزفية التي على هيئة قلب فوق البلاط" من بين يديها؟ هل هذا الحدث الاعتيادي كناية عن انكسار قلبها وتعلّقها بعاشقها الذي في علم الغيب.

لا يرغب الكاتب أبداً في تأطير دلالات النصوص. هناك دائماً شيء غامض ومفتوح على الاحتمالات كافة، فنحن مثلاً لا نعرف في قصة "الضيف ذو السن الفضية" حقيقة ذلك الضيف أو لماذا جاء إلى سرادق العزاء، ما نعرفه فقط هو ذلك التحوّل المفاجىء لصاحب العزاء، فبعدما كان يبكي ولا ينهض للقاء أحد، أصبح بعد انفراده بالضيف وحديثه معه "يدور على المعزين... ثم يلتفت كل حين ليعطي أوامره لبعض الشبان"، وأخيراً يقف ليلقي عظته، متحدثاً عن حكمة الخالق في الموت وعن ثواب الصابرين على الشدائد. كل ذلك من دون أن نعلم سرّ هذا التحوّل، إذ تتركنا القصة لتأويلاتها المختلفة. هذه المراوحة بين الحالات نجدها أيضاً على مستوى الرغبة، فتبدو الممانعة والمبالغة في الرفض أقرب إلى الرغبة الدفينة، كما يظهر في قصة "صورة" التي تحكي عن رؤية البعض لصورة فتاة شبه عارية وعلى الرغم من رفضهم الشديد لها، لم يجرؤ أحدٌ على تمزيقها، ما يعكس رغبة لا واعية في الاحتفاظ بها ورؤيتها، وهكذا "ظلّوا يتناوبون الرأي في ما ينبغي عمله"، من دون حسم للموقف على الرغم من بساطته.

توظيف الحكي الشفهي

إنّ الشخصيات التي يرسمها الكاتب ليست مسطَّحة أو أحادية بل معقّدة وتنطوي على الشيء ونقيضه، وغالباً ما يكون هذا الشيء الخفي هو الأكثر فاعلية وتوجيهاً لحركة الشخصية. كما وظّف الكاتب الحكي الشفهي الذي تتماهى معه الشخصية وكأنها تعبّر عن نفسها. ففي قصة "حدوتة للصغير"، تحكي البنت لابن أخيها حكاية الولد "الذي أحبَّ البنت وهي أحبته فهربا معاً"، ثم تتحوّل الحكاية إلى تعبير عن رغباتها المكبوتة في الحب والهروب به بعيداً من سلطة العائلة، إذ "ظلّت تحكي وتتلذّذ بطعم الكلمات". فاستدعاء هذه الحكاية ليس أمراً محايداً، فالكاتب ليس مشغولاً بالحكاية بل برسم الشخصية والكشف عن أعماقها، وآية ذلك أن البنت تستمر في الحكاية بعد فرار ابن أختها لأنها في الأساس تتحدث مع نفسها بما يشبه المونولوغ. وتحتلّ علاقة الرجال والنساء مساحة واسعة في هذه المجموعة، سواء كانت علاقة تنافر أو تجاذب.

في قصة "يوم الخبيز"، يصبح غناء النساء أثناء العمل تعبيراً عن الرغبة في الوصال، كأننا أمام طقس احتفالي يتداخل فيه الغناء ورائحة العجين وأصوات النساء الممسوسة بالفرحة، ثم يظهر الرجال قادمين، فتزداد حركة النساء نشوة مع خبطات الأكف. إنّ الإقبال على الحياة على  الرغم من قسوتها تيمة متكرّرة عبَّر عنها الكاتب أيضاً في قصة "أشياء جديدة" من خلال استبدال ما هو جديد بما هو قديم، فتبدو بطلة القصة قادرة على صناعة البهجة من القليل الذي تملكه أو تحلم في امتلاكه. والغناء الذي أشرنا إليه من قبل، يفعل فعل السحر في تحويل "غضب الرجال" إلى سكينة وادعة وتحويل ضجيج الحارة إلى صفاء وهدوء لا نسمع فيه سوى أصوات إنسانية متعبة، "يهتكها السعال ويقطعها تقطيعاً. تخمش. إنما في لطف وإلف يشي براحة قلوب زايَلها الغضب". وفي قسم "تخوم المدينة"، تظهر تيمات الاغتراب والوحدة والمطاردة والأجساد المريضة. ففي قصة "نقش الخمسين"، يتجاور المرض والفرح والموت. فهناك شيء مفقود دائماً وفرحة غير مكتملة. في قصة "فانتازيا"، ينطلق الجواد خفيفاً، غير أن زلقة الحافر تظلّ مخبأة وغير متوقّعة، "زلقة واحدة لم تخطر بهذا الرأس الفتي الطائش الذي أسكرته عافيته وسحر المدينة".

إنّ سحر المدينة هنا أشبه بالندَّاهة التي أودت بالجواد، أو لنقل الإنسان إلى حتفه. هذا التجاور بين الموت والحياة نلاحظه أيضاً في قصة "يوم العيد"، فعلى الرغم من أن اليوم هو يوم فرح، فإنّ النساء ينفجرن في الصراخ بمجرد رؤية المقابر. وهي حالة تقف على النقيض من مشهد "الولد والبنت" اللذين ظلّا يلعقان السكر ويرنو أحدهما إلى الآخر بعيون صافية مبتسمة وكأننا أمام مقابلة بين الماضي الذي يمثّله الموتى، والمستقبل الذي يمثّله هذا المشهد الأخير.

وأخيراً، يمكن القول إنّ رضا البهَّات استطاع ببساطة خادعة أن يكشف لنا عن حقائق الحياة في صورها المتداخلة.

المزيد من ثقافة