Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

7 سنوات من الإهمال و13 دقيقة من الفوضى وراء دمار بيروت

تقرير خاص: بعد إجراء مقابلات مع مسؤولي مرفأ بيروت ومصادر حكومية لبنانية وإطفائيين وشهود عيان، وبعد دراسة عشرات المستندات والملفات، يتقفّى كل من بل ترو وأوليفر كارول وسميرة الأزعر وريتشارد هول آثار الفساد وعدم الأهليّة التي أفضت إلى حادثة الانفجار المفجع

سحابة الدخان الناجمة عن الانفجار في مرفأ بيروت عمّت المدينة وبلغت مناطق لبنانية قصية (غيتي)

كان اللبنانيون في أنحاء وسط بيروت يُحدّقون في سحابة الفطر الرمادية فوق رؤوسهم، متسائلين عن مصدرها لمّا تشقّقت السماء وانتثرت منها موجة ضغط عارم.

في لحظتها، تردّد صوت دويٍّ قويّ وانغلق العالم على نفسه منهاراً وتطاير الناس في الهواء وأُلقي بهم عبر الغرف والشوارع وتشظت واجهات الشقق والمكاتب والمستشفيات.

كان عصف الانفجار مهولاً، فتولّدت عنه موجات صدمة شديدة جرفت في طريقها الجدران والأرضيات ونثرت الشظايا في الأجواء كأنّها رصاص حيّ وانتزعت النوافذ وهدّمت المباني وحطّمت المصارع الحديدية وسحقت السيارات بقبضتها العملاقة.

"كان الأمر أشبه بقنبلة نووية. ظننتُ أنّ حرباً قد بدأت وأنّ جهة ما تقصفنا"، تُخبر مدرّبة اليوغا حلا عقيلي (33 سنة) التي صادف وجودها على بعد أقلّ من ميل واحد من المرفأ لمّا وقعت الكارثة.

والانفجار الذي هزّ العاصمة اللبنانية عند نحو الساعة السادسة وثماني دقائق من مساء الثلاثاء، هو واحد من أضخم الانفجارات غير النووية في تاريخ العصر الحديث وقد أسفر عن مقتل 210 أشخاص وجرح 6 آلاف آخرين وفقدان العشرات.

وفي الوقت الحاضر، تجري التحقيقات على قدم وساق لمعرفة ما حدث ومَن المسؤول عنه وتشير التحليلات الأوّلية إلى اشتعال النيران في نحو 3 آلاف طنّ من نيترات الأمونيوم المتفجّرة والمُخزّنة بطريقة غير آمنة.

واتّضح من استعراض عشرات المستندات والمقابلات مع مسؤولي مرفأ بيروت ومصادر حكومية لبنانية وإطفائيين وشهود عيان أنّ ثمة مقداراً هائلاً من عدم الكفاءة اتّسمت به السنوات السبع التي أفضت إلى الانفجار والدقائق الثلاث عشرة التي سبقت دمار المدينة.

فمنذ عام 2014، حذّرت السلطات المعنيّة مرات كثيرة من الطبيعة الخطيرة لنيترات الأمونيوم وخطورة حفظه في المرفأ إلى حدّ بات من الممارسات الشائعة بين العاملين تفادي العنبر رقم 12، حيث كانت تُخزَّن المادة إيّاها. والأرجح أنّ مسؤولي المرفأ قد سارعوا إلى مغادرته من دون أن يُحيطوا المستجيبين الأوائل والإطفائيين علماً بطبيعة المادة المشتعلة وهول الكارثة التي تنتظرهم.

ويُعتقد أنّ هؤلاء جميعاً قضوا في الانفجار بعدما وصلوا إلى المرفأ غير مجهّزين بالمعدات اللازمة لإخماد الحريق الذي اندلع ربما بسبب مفرقعات وألعاب نارية.

بالتالي، فإنّ الحاجة ملحّة للحصول على إجابات شافية لتحديد الأسباب التي تقف وراء ما حدث.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الأكيد أنّ أحداً من أفراد طاقم السفينة المملوكة لروسيا لم يتصوّر قبل سبع سنوات أنّ الرحلة التي بدأت من البحر الأسود ستنتهي بكارثة العاصمة اللبنانية بيروت، على بعد أكثر من ألف كلم.

والقصة بدأت في 23 سبتمبر (أيلول) 2013، مع انطلاق سفينة الشحن "روسوس" (Rhosus) التي دخلت الخدمة قبل 27 عاماً، من مرفأ باتومي في جورجيا وعلى متنها حمولة بزنة 2750 طناً من مادة نيترات الأمونيوم المتفجّرة التي يكثر استخدامها في صناعة الأسمدة والقنابل.

ولم يكن من المفترض بـ"روسوس" أن ترسو في ميناء بيروت. فوفق سجلات الشحن التي حصلت عليها "اندبندنت"، كانت السفينة في طريقها إلى الموزامبيق لتسليم النيترات إلى شركة متخصّصة في صناعة المتفجّرات.

وبالنسبة إلى أصول السفينة، فأقلّ ما يُقال فيها إنّها غامضة ومبهمة شأنها شأن معظم السفن والبواخر في قطاع النقل البحري في العالم. كانت تخضع لإدارة شركة مسجّلة في جزر المارشال وتُبحر تحت راية العلم المولدوفي. وكان يُمسك بمقاليدها رجل أعمال روسي صغير يُقيم في قبرص ويُدعى إيغور غريتشوشكين، طبقاً للوثائق التي اطّلعت عليها "اندبندنت".

ولمّا توقّفت "روسوس" في ميناء توزلا التركي، تولّى المواطن الروسي بوريس بروكوشيف إدارتها وبدأت المشكلات تختمر على متنها.

وكان في استقبال القبطان بروكوشيف طاقمٌ أوكراني جديد حلّ بديلاً عن الطاقم الأصلي الذي غادر السفينة بشكل مفاجئ جراء عدم تقاضي أفراده مرتباتهم طيلة أربعة أشهر.

لكنّ بروكوشيف لم يُدرك حجم الضائقة المالية التي يواجهها المالك غريتشوشكين حتى التقى به شخصيّاً في بيرايوس، اليونان، أثناء وقفة للتزوّد بالوقود في أكتوبر (تشرين الأول).

"كان تصرّفه مريباً – فبعد موافقته على شراء المستلزمات والإمدادات اللازمة للسفينة، رفض تسديد ثمن ثلثيها وأمرنا بإجراء وقفة إضافية في بيروت لاستلام شحنة من المعدات"، يحكي بروكوشيف لـ"اندبندنت".

وهذا ما حدث بالفعل. أبحرت "روسوس" نحو بيروت في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) ورست في مياهها بعد نحو أربعة أيام، بحسب تقدير القبطان. وما زالت الظروف الدقيقة التي ساقتها إلى العاصمة اللبنانية محطّ جدل واختلاف. واستناداً إلى المحامين الذين تولّوا رفع دعاوى الدائنين ضدّ مالك السفينة وطاقمها، واجهت "روسوس"مشكلات تقنيّة أجبرتها على دخول المرفأ، وهناك فشلت في اختبارات الأمان.

ويضيف بروكوشيف أنّه أرسى السفينة في بيروت من أجل تحميل معدات ثقيلة لشقّ الطرقات وبنائها. ولمّا أدرك أنه من غير الممكن شحن الحمولة الإضافية بطريقة آمنة، قرّر التخلّي عنها. وهذا ما أدخله في نقاش "حاد" مع غريتشوشكين، وافق بعده على السفر إلى لارنكا، قبرص لمحاولة التوصل إلى حلّ معه.

لكن عند هذا الحدّ، كان مسؤولو مرفأ بيروت يطالبون بمستحقاتهم من رسوم ميناء وغرامات غير مدفوعة الأجر، رافضين مغادرة السفينة بِمَن فيها. فما كان من غريتشوشكين إلّا أن "تخلّى" عن السفينة وطاقمها المؤلّف من 10 رجال وتركهم يُواجهون مصيرهم. وفي وقت ما أواخر نوفمبر (تشرين الثاني)، احتجزت السلطات اللبنانية السفينة.

وما هي إلّا فترة قصيرة حتى انتهت مؤن الطاقم من المواد الغذائية. "لولا وكيلنا في بيروت، لكنّا تضوّرنا جوعاً"، يؤكّد بروكوشيف لـ"اندبندنت".

شحنة "خطيرة" متروكة

بعد الضغوط الجبّارة التي مارسها دبلوماسيون أوكرانيون أشهراً طويلة، سُمح لغالبية طاقم "روسوس" بالعودة إلى بلادهم أوائل عام 2014، باستثناء بروكوشيف وموظفين أساسيّين ارتأت السلطات اللبنانية الاحتفاظ بهم كرهائن حتى صدور قرار نهائي بشأن السفينة.

عندها، وجد القبطان نفسه مجبراً على بيع الوقود لدفع أتعاب المحامين الذين طالبوا بالإفراج عنه وعَمَّن معه "لأسبابٍ إنسانية". وفي نهاية المطاف، وافقت محكمة لبنانية على طلب هؤلاء بعد أخذها في الحسبان "الخطر الوشيك الذي يتهدّد طاقم السفينة جراء طبيعة حمولتها".

وإلى حين إطلاق سراح الطاقم المتبقّي، كانت مستحقاته قد زادت على 240 ألف دولار أميركي (أي ما يوازي 190 ألفاً و600 جنيه إسترليني) من أجور غير مدفوعة.

وكانت السلطات اللبنانية تعرف منذ البداية أنّ الحمولة الموجودة على متن السفينة خطيرة وهشّة للغاية. ولو كانت أخذت بالتحذيرات التي وُجّهت إليها على مدى ستّ سنوات، لتجنّبت الكارثة قطعاً. لكنّها اختارت عوض ذلك الانجرار خلف مزيج الفساد وسوء الإدارة السام الذي يعيث خراباً في كلّ مؤسسة عامة في لبنان تمهيداً للمأساة.

وقد صدر التحذير الأول الذي سبق إفراغ السفينة، في إطار مذكرة داخلية اطّلعت عليها "اندبندنت" ويرجع تاريخها إلى فبراير (شباط) 2014.

وفي المذكرة، نبّه رئيس شعبة مكافحة المخدرات اللبنانية العقيد جوزيف سكاف، إدارة مكافحة التهريب في بيروت إلى خطورة المواد المحجوزة "وتهديدها للسلامة العامة".

وتلى مذكرة العقيد كتابٌ وجّهه مكتب المحاماة "بارودي ومشاركوه" بوكالته عن طاقم السفينة الروسية، إلى مسؤولين في مرفأ بيروت ووزارة النقل "لتنبيههم إلى المواد المخزَّنة على متن السفينة". وكان ذلك في يوليو (تموز) 2014.

وفي الأخير وبُعيد مغادرة الطاقم الأراضي اللبنانية، نُقلت شحنة نيترات الأمونيوم الخطيرة إلى المستودع رقم 12.

وبقيت "روسوس" في مرفأ بيروت، من دون طاقم أو مالك يسأل عنها، لتغرق "بعدها بسنتين أو ثلاث".

بالنسبة إلى بروكوشيف، تلك كانت نهاية الكابوس الذي طارده لمدة طويلة، أو على الأقلّ إلى حين وصلته أخبار الانفجار المروّع الأسبوع الفائت. أما بالنسبة إلى سكان بيروت، فهذه ما هي إلّا البداية.

دليل ورقيّ دامغ

علمت "اندبندنت"من موظفين في مرفأ بيروت أنّه من المعروف للجميع أنّ العنبر رقم 12 "يُخزِّن مواد خطيرة" منذ أكثر من ست سنوات.

والحقيقة أنه لم يكن معلوماً لدى الجميع سواسية ما بداخل العنبر. وكان العاملون العاديون يعتقدون أنّه يحتوي على أسلحة مصادرة لا بدّ من إبقائها بمنأى عن الناس.

وعلى المستوى الرسمي، كانت محتويات مستودعات المرفأ وعنابره معروفة. والواقع أنّ المخاوف من مخزون نيترات الأمونيوم أُثيرت ثماني مرات على الأقلّ منذ عام 2014، وفقاً للوثائق التي اطّلعت عليها "اندبندنت" والمقابلات التي أجرتها مع مسؤولين.

لكنّ أياً من المعنيين لم يأخذ بها. والأسوأ من ذلك أنّ شحنة من المفرقعات والألعاب النارية خُزِّنت إلى جانبها في العنبر رقم 12 من دون مراعاة المخاطر التي ينطوي عليها ذلك، على حدّ قول أحد مصادر المرفأ.

وثمة إثباتات ورقيّة دامغة على ذلك.

ففي كتاب مؤرّخ 20 مايو (أيار) 2016، طلب مدير عام الجمارك آنذاك شفيق مرعي، من قاضي الأمور المستعجلة الإذن بتصدير الشحنة الخطيرة أو بيعها إلى شركة لبنانية، معتبراً وجودها في المرفأ خطراً على أمانه وسلامة العاملين فيه.

وبعد عام، أي بتاريخ 28 أكتوبر (تشرين الأول) 2017 تحديداً، وجّه مدير عام الجمارك الجديد بدري ضاهر، كتاباً كرّر فيه مطلب سلفه، موضحاً أنّ بلاغه ليس الأول من نوعه، بل سبقه بلاغ أوّل في 2014 وبلاغ ثانٍ في 2015 وبلاغان في 2016 وبلاغ خامس في أوائل عام 2017. وقبل قليل من توقيفه، أقرّ ضاهر الذي يجري التحقيق معه حالياً إلى جانب مسؤولين آخرين في المرفأ، أنّه لم يتلقَّ أي أوامر أو توجيهات ملائمة للتصرّف بالشحنة.

وفي ديسمبر (كانون الأول) 2019، طلب جهاز أمن الدولة فتح تحقيق في المواد الخطيرة الموجودة في العنبر رقم 12. وفي يناير (كانون الثاني)، استكمل الجهاز مهمته. وبعدها ببضعة أشهر، رفع النتائج التي خَلُصَ إليها إلى رئاسة الجمهورية ورئيس الحكومة.

واعترف الرئيس ميشال عون أنّ التقرير وصله قبل ثلاثة أسابيع تقريباً من الانفجار – 20 يونيو (حزيران) –وبموجبه، تبلّغ بوجود المواد الخطيرة داخل المرفأ منذ سبع سنوات.

وعلى الفور ومن دون تأخير، أمر عون المسؤولين العسكريين والأمنيين بـ"إجراء اللازم".

وفي اليوم ذاته، تلقّى حسان دياب الذي أعلن استقالة حكومته يوم الاثنين، التقرير نفسه لكنّه حوّله إلى "مجلس الدفاع الأعلى" ملتمساً مشورته في غضون 48 ساعة.

لكنّ هذا ما لم يحدث.

وفي حديثٍ له مع قناة "الجزيرة"، حرص وزير الأشغال العامة ميشال نجار على التأكيد أنّه لم يعلم بأمر الشحنة الخطيرة إلّا قبل 11 يوماً من الانفجار.

وكان يريد أن يُفاتح مدير عام المرفأ حسن قريطم في المسألة. لكنّ إجراءات التعبئة العامة التي فرضها تفشّي فيروس كورونا المستجدّ حالت دون لقاء الرجلين حتى يوم الاثنين، أي قبل 24 ساعة فقط من الانفجار.

وبُعيد انتهاء اللقاء، قرّر مدير المرفأ إرسال كلّ الملفات ذات الصلة حتى يطّلع عليها المعنيّون كافة. لكنّ قراره جاء متأخراً وبعد فوات الأوان.

الدقائق الثلاث عشرة التي ختمت مصير المدينة

بعد ظهر يوم الثلاثاء الواقع في 4 أغسطس (آب)، اتّصل كهربائي الميناء جو عقيقي (23 سنة) بوالدته ليُعلمها أنّ نوبته الليلية بدأت.

وبما أنّ معظم العمّال يُغادرون المرفأ عند الساعة الرابعة بعد الظهر، كان عدد الموجودين فيه ضئيلاً نسبياً لمّا شبّ الحريق بعد بضع ساعات قليلة.

وقبيل الساعة السادسة مساءً بالتوقيت المحلي، وقف عقيقي على سطح أحد المباني التي تشكّل جزءًا من أهراءات القمح المهيبة في بيروت وراح يصوّر الدخان الأسود المتصاعد من العنبر رقم 12 الذي كان على بعد 40 متراً أمامه.

وفي مقطع الفيديو، تتحرّك الكاميرا من اليسار إلى اليمين لالتقاط مشهد العنبر المشتعل. وفي الخلفية، يُسمع صوت صفّارات خافت يعود على الأرجح إلى فوج الإطفاء الآتي لتلبية نداء الواجب وإخماد النيران.

ففي الوقت ذاته تقريباً، أي عند نحو الخامسة و55 دقيقة، تلقّى أحد أفراد غرفة عمليات جهاز الإطفاء شرق المرفأ اتصالاً من شرطة بيروت يبلّغ عن اندلاع حريق في أحد المستودعات.

وليست الحرائق أمراً غريباً عن المرفأ، على ما أبلغ الرجل "اندبندنت". لكن الغريب الطريقة التي تم بها الإبلاغ عن هذا الحريق بالذات والتعامل معه، مؤكّداً أنّ أحداً لم يأتِ على ذكر نيترات الأمونيوم أو يُحدّد موقع العنبر المتضرّر.

وبعد دقيقتين من الاتصال، وصل إلى المرفأ فريق إنقاذ متخصّص من 10 أشخاص، بينهم 9 رجال إطفاء ومسعفة.

هناك وعلى غير العادة، لم يجدوا أحداً ليستقبلهم ويُريهم المكان ويسلّمهم مفاتيح المستودع. لذا استغرقهم بعض الوقت لتحديد موقع الحريق.

وبحسب ما قاله مسؤولو فوج الإطفاء لـ"اندبندنت"، كان من الممكن للفريق أن يقيّم المخاطر ومحتوى العنبر وكان من الممكن أن يُخمد الحريق الأوّلي أو يأمر بالإخلاء الفوري للمرفأ أو يتزاحم بكلّ بساطة إلى برّ الأمان لو أنّه علم بمحتوى المستودع وموقعه أو تسلّم المفتاح.

ولكنّ الأمور لم تجر على هذا المنوال، وهذا ما ضيّع على الإطفائيين دقائق ثمينة انشغلوا فيها بتحديد موقع المستودع واقتحامه بدلاً من إنقاذ أرواح والنجاة بأنفسهم.

"في عملنا، كلّ دقيقة محسوبة ولها أهميتها. يا ليتهم كانوا يملكون قدراً أكبر من المعلومات"، علّق آمر فصيلة فوج الإطفاء فادي مزبودي.

وفي مرحلةٍ ما، بدأ رجلٌ مجهول الهوية، يُرجَّح أنه أحد عمّال المرفأ، بتصوير الحريق من الموقع ذاته حيث كان يقف عقيقي. ويظهر في مقطع الفيديو الذي انتشر عبر الإنترنت وتحقّق منه موقع "بيلينغ كات" (Bellingcat)، تكثّف الدخان المنبعث من العنبر وتحوّله إلى لون أسود داكن مثل الفحم وسُمعت فرقعة ما اتضّح أنها عشرات الألعاب النارية التي اشتعلت وتطايرت مُحدثةً شرارات بيضاء وحمراء.

ومع استفحال النيران، يبدأ المصوّر بالتراجع ويُسمع من حوله صراخ رجلٍ قذفه انفجار كبير ودفعه نحو الجهة المقابلة من السطح.

وقبيل الساعة السادسة مساء، دوّى الانفجار الأوّل ووصل صداه إلى عدد كبير من سكان المدينة الذين سارعوا إلى توثيق صور الدخان المتصاعد في الهواء ونشرها عبر "تويتر".

ومع مرور الدقائق، حاول المزيد من الأشخاص الخروج من بيوتهم وشركاتهم ومتاجرهم أو النظر عبر النوافذ لمعرفة حقيقة ما جرى ويجري.

ومن مسافة 600 مترٍ فقط جنوب العنبر رقم 12، بدأت الناشطة ومصمّمة الديكور شيرين الزّين، بتصوير السحابة التي تحوم فوق المرفأ، مطالبةً الناس بضرورة إقفال الأبواب والنوافذ بسبب الدخان.

وعلى بُعد دقائق معدودة من شارع أرمينيا إلى اليمين، توقّفت كارمن خوري، المسؤولة الإدارية في إحدى الجامعات وتبلغ من العمر 46 سنة، لشراء الماء، لكنّها سرعان ما خرجت من المتجر وبصحبتها امرأة لا تعرفها لرصد طائرات مقاتلة في السماء.

وبالعودة إلى العنبر رقم 12، كانت المسعفة سحر فارس (27 سنة) المرافقة لفوج الإطفاء قد بدأت بدورها تصوير الحريق.

ويتبيّن من اللقطات التي نشرتها قناة "بي بي سي" (BBC) وتحقّقت منها اندبندنت أنّ المسعفة ربما كانت موجودة عند أقدام صوامع القمح حيث كان يقف عقيقي.

ففي الفيديو الذي صوّرته فارس وأرسلته إلى خطيبها عند الساعة السادسة وثلاث دقائق، يظهر المستودع المشتعل وأمامه رجال الإطفاء بالبزّة الرسمية. وبحسب رواية مزبودي، أقلق الفيديو خطيب فارس المدعو جيلبير قرعان. ومن فرط قلقه وخوفه عليها، اتّصل بها وطلب منها المغادرة. وكان لا يزال يكلّمها لمّا أصابها الهلع وهرعت تركض نحو صوامع القمح.

وبعد ذلك بدقيقة، أي عند الساعة السادسة وأربع دقائق، أرسل عقيقي، الخائف والمشوّش، مقطع الفيديو الذي صوّره ولا يتعدّى الثلاث ثواني إلى مجموعة دردشة على "واتساب"، ولم يرفقه بأي شرح أو تفسير. وتلك كانت المرة الأخيرة التي تصل فيها أخبار عقيقي لأصدقائه.

وفي تلك الأثناء، أدرك الإطفائيون فداحة الوضع الذي أُوقعوا به وضخامة الحريق الذي فاق توقّعاتهم.

لذا وقبل ثوان قليلة من الساعة السادسة وثماني دقائق، اتّصل إيليا خزامي وشربل كرم بالمسؤولين عنهما لطلب الدعم العاجل، لأنه لم يكن معهما سوى "ثلاثة أطنان من المياه"، وهي كمية غير كافية لإخماد حريق بهذا الحجم.

لكن وقبل أن يتمكّن عناصر فوج الإطفاء من تلبية النداء، انفجر العنبر رقم 12.

كانت فارس لا تزال على الهاتف مع خطيبها وتبحث عن مكانٍ آمن تحتبئ فيه لمّا انقطع الإرسال وانفجرت السماء ودوّت باللونين البرتقالي والأحمر الداكن، مطلقةً موجة انضغاط بيضاء جرفت في طريقها كلّ ما ومَن يُقابلها.

لحظتها، رُمي موظّف الإطفاء الذي تلقّى الاتصال الأساسي، أمتاراً في الهواء داخل مكتبه الذي تضرّر ضرراً شديداً.

أما كارمن خوري الموجودة على بعد مئات الأمتار فقط من موقع الكارثة، فشعرت بأنّ أبواب الجحيم قد فُتحت.

"سقط قضيبٌ حديدي على رأسي، فوقعتُ أرضاً. وفجأة، وجدتُ نفسي عالقة تحت سيارة وبجانبي امرأة تنزف"، تقول خوري واصفةً التجربة المروّعة.

"لقد عشتُ حربين من قبل في لبنان ولكنني لم أشهد في حياتي انفجاراً بهذه الضخامة. ظننتُ لوهلة أنّ العالم وصل إلى نهايته".

المدينة المقطعة الأوصال

خيّم الصمت على شارع أرمينيا لمدّة دقيقة كاملة تقريباً – لكأنّه التقاط الأنفاس الذي يسبق الألم.

والفيديو الذي صوّرته شيرين الزّين في تلك الدقيقة عبارة عن شاشة سوداء خالية من كلّ شيء إلّا من فحيح الغاز وصفّارات إنذار السيارات.

ومع استعادة الناس وعيهم واستفاقتهم من الصدمة، بدأ الصراخ وعلت صفارات الإنذار.

"ما الذي حدث للتو؟ ابنتي داخل المتجر، ابنتي داخل المتجر"، يصرخ رجل في حالة يأس. ومن بعيد، امرأة تأنّ وتتمتم كلاماً غير مفهوم.

وفي كلّ مكان جثث غارقة في دمائها ومجبولة بالتّراب والدّخان والزجاج والفوضى. وأمام هذا المشهد الكارثي، سأل كثيرون أنفسهم عمّا إذا كانت الحرب قد بدأت بالفعل.

كيف لا وكلّ شيء تدمّر في لحظتها، تروي حلا عقيلي التي كانت تقترب بسيارتها من شارع أرمينيا إبان الانفجار.

"جيراننا، وجوه أعرفها. شباب ينزفون من كلّ قطعة من أجسامهم المدمّاة".

وتحت وطأة الذعر، فقد بعض المواطنين ذاكرته بشكلٍ مؤقت وحاول كثيرون الاتصال بأفراد عائلاتهم المنتشرين في أنحاء المدينة.

وفي "مستشفى القديس جاورجيوس" الذي لحق به الدّمار، اضطُّر العاملون الطبيون إلى سحب زملائهم ومرضاهم من تحت الأنقاض. ومع تحطّم غرفة الطوارئ وتعطّل المولدات الكهربائية وتضرّر أجزاء من المبنى، دأبوا يُعالجون المصابين الجدد في موقف السيارات وعلى ضوء هواتفهم المحمولة.

وبدأ مواطنون على دراجات نارية ينقلون المصابين الذين خضعوا لإسعافات أولية على يد فاعلي خير، إلى المستشفيات خارج بيروت بعد امتلاء المستشفيات القريبة من وسط العاصمة.

وفي المرفأ، أحدث الانفجار حفرةً بعمق 43 متراً، وقلب عدداً من السفن السياحية كما تُقلب الحيتان الجانحة على الشاطئ ودمّر نصف صوامع القمح الأساسية في لبنان وحوّل المستودعات إلى هياكل متهالكة.

وبعد أيامٍ قليلة، أعلن عمّال الإنقاذ أنّ الأمل بات ضئيلاً في العثور على ناجين، الأمر الذي حدا بالعائلات المفجوعة والغاضبة إلى التجمّع في موقع الانفجار ومطالبة الجرافات بالبحث عن أبنائها تحت حطام المستودعات، لربما تمكّن أحدهم من الاختباء في شبكة الأنفاق وغرف التخزين الموجودة تحت الأرض.

وعلى أثر ذلك، عُثر على أشلاء فارس وعقيقي وخزامي المحروقة تباعاً تحت الركام. أما باقي الفريق، بمَن فيهم كرم، فلا يزالون في عداد المفقودين.

"علّقوا المشانق"

بعد الانفجار، سرعان ما بدأت شوارع بيروت المدمرة تستشيط غضباً. وخرج المحتجون متسلحين بمشانق يطالبون بمحاسبة المسؤولين عن الفاجعة ويتوسّلون المساعدة من الحكومة الغائبة عن عمليات الإغاثة والتنظيف التي تولاها متطوّعون.

وبين صفوف الجماهير المحتشدة، وقفت خوري والزّين اللتان قررتا الاحتجاج على الرغم من إصابتهما. وتجدر الإشارة إلى أنّ المرأة التي علقت تحت السيارة إلى جانب خوري لم تتمكن من النجاة.

ويبدو أنّ حزن الأمة قد تحوّل إلى غضبٍ عارم.

"لقد استعملوا ضدّنا كل وسائل الموت"، تجهر الناشطة اللبنانية سارة عساف في إحدى التظاهرات. وبرأيها، لم يكن الانفجار حادثة أو هفوة، إنما نتيجة حتمية للفساد المستشري في الحياة العامة وقادة البلاد.

"قتلونا مالياً. قتلونا اقتصادياً. قتلونا جسدياً. قتلوناً أخلاقياً. وأخيراً قتلونا كماوياً".

منذ وقوع الانفجار والجميع يتراشق المسؤوليات. وإبان يوم الجمعة، أصرّ الرئيس عون أنّه غير مسؤول عَمّا حدث، مدّعياً أنه لم يكن على علم بمكان نيترات الأمونيوم أو "بمدى خطورته".

وقبل اعتقالهم، تملّص مسؤولو المرفأ من تحمّل المسؤولية، قائلين إنّهم سبق وحذّروا المحاكم (من خطورة العنبر رقم 12) لكنّها لم تحرّك ساكناً. وأبلغ الوزير نجار قناة "الجزيرة" أنّه "ما من وزير يعلم ما في داخل العنابر أو المستودعات وليس من واجبي أن أعرف".

وفي الاتجاه ذاته، ألقى حسان دياب في خطاب الاستقالة يوم الاثنين، كامل اللوم والمسؤولية على النخبة السياسية وأسلافه الذي تستّروا على المشكلة على مدى سبع سنوات.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لِمَ لم يحصل شيء ولِمَ لم يتحرّك أحد ولِمَ يُشكّك كثيرون في الإجراءات البسيطة التي اتُّخذت، من قبيل الرسائل والمذكرات التي بعث بها مسؤولو المرفأ؟

الحقيقة أنّ المستند الذي اطّلعت عليه "اندبندنت" والمؤرّخ يونيو (حزيران) 2014 أي قبل تفريغ السفينة من حمولتها، يبيّن وبوضوح ردّ قاضي الأمور المستعجلة على مسؤولي المرفأ أنه ليس من اختصاص محكمته السماح ببيع السفينة أو محتوياتها.

وتعليقاً على ذلك، يقول الصحافي الاستقصائي رياض قبيسي إنّ هذا المستند يثبت بالدّليل القاطع أنّ رسائل المسؤولين المتعاقبة كانت عديمة الجدوى، بما أنه لم يكن بوسع المحكمة تلبية مطلبهم القاضي بإعادة بيع أو إعادة تصدير مخزون نيترات الأمونيوم.

ويسأل قبيسي نفسه: "لِمَ استمروا إذاً في كتابة الرسالة ذاتها مرة تلو الأخرى؟ لِمَ لم يتوجّهوا مباشرةً إلى القوات الأمنية أو إلى مسؤولين رفيعي المستوى والضّغط عليهم من أجل اتّخاذ الإجراء اللازم طيلة السنوات الماضية؟".

ولمّا حاولت "اندبندنت" نقل هذه التسؤلات إلى مسؤولي المرفأ، لم تلقَ جواباً لأنهم أبوا التطرّق إلى الموضوع من أساسه. أما مكتب رئاسة الحكومة، فرفض الاستجابة لطلبها بالتعليق.

ولدى اتصالنا بالقوات الأمنية المسؤولة عن عمليات الإنقاذ، حوّلتنا إلى فريق التحقيقات السرّي الذي لا يتحدث إلى الإعلام وتستمرّ الدوّامة "من هالك إلى مالك إلى قابض الأرواح".

وفيما تُحاول السلطات اللبنانية إبعاد اللوم عنها، يتواصل العمل لإخراج جثث المزيد من الضحايا – وعدد كبير منها يعود إلى المستجيبين الأوائل.

"أنا في حال خدر وأشعر أنني ضائع، لم أقوَ حتى على البكاء"، يقول أحد الإطفائيين، واصفاً كيف فقد عشرة من أعزّ أصدقائه، أو بالأحرى أسرته الثانية، بالقرب من العنبر المشؤوم يوم الثلاثاء.

"إنهم أبطال الوطن وقد أُرسلوا إلى موتٍ محتم. لقد فقدنا كلّ شيء وسنجعلهم يدفعون الثمن غالياً".

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات