يمكن أي منسحق أن يتصرف مثل غريغور سامسا عند كافكا، ولكن ربما بشكل مغاير. وقبل أن أذهب بعيداً في هذا السياق فإنني لست متفقاً مع مقولة "العبثية" عند كافكا. يقول الروائي براء شلش في روايته هذه "تحدث الأشياء عندما تحدث" (دار براءات، الأردن 2020) وهي كذلك بالطبع، ولهذا لا نجد السيد باء "الشخصية الرئيسة" هنا، معنياً بشيء ما قبل حدوثه. إنه يغرقنا منذ اللحظة الأولى في عالمه المضطرب وغير المألوف، ويمارس معنا لعبة ذكية لطالما فعلها قلة من الروائيين مثل ثربانتس في "دون كيخوته"، وياروسلاف هاشيك في "العسكري الطيب شفيك".
تقوم اللعبة على الإيهام المتقن بالذكاء وبالحمق معاً، من دون تهميش المحيط بتفاصيله منذ الطفولة. نحن أمام شخصية يمكن القارئ وصفها بما يشاء، انطلاقاً من الحكايات المتناسلة، وليس انتهاء بالشخوص المتنوعة. شخصية ليست نمطية بالطبع، من تلك التي تعي الحياة كما وجدت الآخرين يعونها من قبل، وكما قيل لها أن تعيشها.نحن نلجأ إلى كافكا عادة كلما مررنا بسلوك غير معتاد ولم يألفه الآخرون، فلا يحدث يومياً ودائماً وللناس كلهم أن يسستيقظوا ليجدوا أنفسهم وقد تحولوا إلى حشرات أو ديدان لزجة. يحدث هذا لقلة من الناس، وهو حدثٌ يعلن صراحة عن وجود شخصية غير منسجمة مع محيطها مطلقاً.
شخصيات مختلفة
يرسم الروائي لنا منذ اللحظة الأولى ملامح شخصية مختلفة، وقد كان يكفي أن يضعنا أمام موقف غريب، حين يمنح متسولاً قطعة نقدية لا تبدو للمتسول كافية أو ملائمة، فيقوم بالبصق على وجه السيد باء، ليأتي رد الفعل من السيد باء غريباً ومفاجئاً. فهو يجابه الفعل بالسكوت المطلق، ليشعر بعد انتهاء الموقف أن عليه أن يرد تلك الإهانة، فيكتشف أن المتسول قد اختفى ويقع هو في مصيدة الندم. نكتشف لاحقاً أن حياة السيد باء قائمة في جزء كبير منها على هذا الندم المتأخر دائماً. هنالك على الدوام فرق في التوقيت بين ما يفعله وما ينبغي له أن يفعله، وهذا الفرق في التوقيت تقوم عليه حياته منذ الطفولة، الأمر الذي جعله يربي في داخله وحدة شرسة، وهي الوحدة التي جعلته يفكر بشكل مختلف ويتصرف بشكل مختلف، ولا يعرف كيف يستعيد الذات الحقيقية له لأنه لا يعرفها أصلاً. فهو يظن أنه بحاجة إلى منعطف حاد في حياته لكي يغيرها، لكننا لا نعرف بالتحديد كيف يغيرها، أو كيف يريدها أن تكون، فالحياة التي يراها من حوله ممكنة من دون منعطفات أو أحداث خارقة، وكل ما عليه أن يفعله هو أن يصبح واحدا مشابهاً للآخرين، يصحو من نومه ليذهب إلى عمله ويعود. يتزوج وينجب أطفالاً ويأخذهم في نزهة يوم الجمعة إلى حديقة الحيوانات، أو إلى شاطئ البحر. يحرص على توفير قدر مقبول من التربية المعتادة، وتوفير مقدار جيد من التعليم لأبنائه، وتزويجهم وانتظار بقية العمر محاطاً بأحفاد يلعبون حوله، ويطوف بهم صالة المنزل مبدياً حبوراً استثنائياً حين يحولونه إلى حمار يركبونه ويوجهونه حيث يريدون!!
ألا يعيش الناس كذلك؟ لكن هذه هي الطامة الكبرى بالنسبة للسيد باء. إنه يرفض هذا النسق من أوله. لقد سلمه والده إلى بعض رجال الدين الذين يبدون حرصاً على تربية الأطفال تربية "صالحة" وهو كطفل لا يملك أي معلومة عن الموضوع؛ لا يعرف الإيمان ولا الجنة ولا النار، لكنه يبدأ في التعرف إلى ذلك كله من خلال هؤلاء الرجال الذين يوقظون طفلاً لم يتم العشر سنوات من نومه الصباحي لكي يذهب إلى المسجد للصلاة، والاستماع لدرس الدين الافتتاحي. تلك رغبة الأب الذي لم يظن للحظة واحدة أنه يربي في داخل ابنه وحشاً يقتات على الوحدة، والشعور العميق بالعبث، والبحث عن خلاص من نمط حياة وجده الوحيد المتاح أمامه.
هذه الشخصية لا يمكنها السير في الحياة كالآخرين، فهو يتزوج من فتاة لا يعرفها، ليكتشف أنه تزوج شخصاً ليس عادياً أو مشابهاً للآخرين؛ إنها شبه إنسان وهو ما يوفر عليه اتباع الأنماط المعتادة في الحياة الزوجية بما في ذلك الحياة الجنسية نفسها. ونحن لا نعرف إن كانت مكتئبة أو مصابة بانفصام أو أي شيء آخر. لا يخبرنا السيد باء الكثير عنها، ولا نراها كثيراً، لكننا ندرك أننا أمام شخصية مختلفة، وهو ربما ما يريح السيد باء إلى حد ما، وإن شعر أحياناً ببعض الخوف أو القلق. لكنها عموماً لا تسبب له المشكلات كالزوجات المألوفات في الحياة والقصص، ويكفي بالنسبة لنا أنها ليست زوجة لديها متطلبات الحياة المعتادة. وهو ما يسمح للوحدة في داخل السيد باء أن تواصل نموها وتجذرها في روحه.
تصورات وأكاذيب
نحن لدينا هنا متن ثري بأحداثه، ومبنى ليس مألوفاً في تجميع هذه الأحداث وسردها وإخبارنا بها. هنا تظهر السخرية في السرد كعامل من عوامل المغايرة، ويظهر الكذب الذي يعيه السيد باء ولكنه لا يعرف كيف ينهي كذبة ابتكرها. كما يظهر عامل آخر هو التظاهر. فهو يتظاهر بالنوم وهو يقظ، ويتظاهر بالاهتمام وهو غير معني أبداً، ويتظاهر بعدم الخوف من الموت بينما في داخله حب جارف للحياة، ولكنه فقط يود لو أنها تكون مختلفة عما زرعوه في رأسه من أفكار وتصورات عنها. وهو يسرد علينا أحداثه التي يمر بها أو تمر به، متسلحاً بهذه العوامل الأساسية، وهي كلها نابعة من شعوره العميق بالوحدة؛ إنه شعور طاغ في الرواية: "عدت إلى المنزل حاملاً خبر إصابتي بالسرطان كأنه كيس خبز في يدي ويترنح أثناء مشيي... حدقت في المارة من دون أن أشعر أنني أريد أن أكون واحداً منهم. كنت أعرف في داخلي أنني رجل محترم، لكن لم يتسن له الوجود بعد. إنها الوحدة مجدداً. تعريف الوحدة عندي هي السقوط من الوجود. فالشخص الوحيد هو شخص غير موجود أو غير مدرَك".
في حياة السيد باء شخصيات مهمة وأساسية، كالزوجة والصديق دال والفتاة لام التي تعرف إليها في المستشفى أثناء علاجه بالكيماوي من داء السرطان، حيث هي مثله بدأت في تلقي العلاج في التوقيت نفسه.
نلاحظ حتى الآن أن الروائي يكتفي بالحرف الأول من اسماء شخوصه، وهو دال على نقص في الهوية. وإذا دققنا جيداً سنرى أنه محق إلى حد بعيد. فطالما كان الاسم جزءاً أساسياً من الهوية، فإن الشخوص هنا لا تصل إلى مرحلة الاكتمال الذي يؤهلها لاكتساء اسم كامل. فلا السيد باء يعرف نفسه جيداً، ولا نحن كقراء نعرف أحداً في الرواية بشكل كامل أو شبه كامل. فالسيد دال مثلاً يقدمه الروائي كصديق، ولكنا لا نعرف ما هي المعالم الخاصة التي جعلت منه صديقاً من دون سواه. هنالك عشرات الأشخاص الذين يمكنهم أن يدركوا جانباً من مشكلة السيد باء، فلماذا السيد دال؟ زوجته يدعوها المرأة الشقراء. فتاة المستشفى يدعوها لام، فهي أكثر غموضاً منه، وحين يسألها عن مفهومها للوحدة تقول "في داخلي شيء ما قد مات. لا أبالغ أو أتظاهر بالكآبة، الأمر حقيقي، هنالك شيء مات مرة واحدة وللأبد. لا أظن أنني قادرة على تكوين أي تواصل إنساني جديد". لكن الروائي في الفصل الأخير يكشف الأسماء كلها باستثناء الشقراء زوجة صديقه دال. فزوجته كانت قبل هذا مجردة حتى من الحرف الأول، لكننا نعرف الآن أن اسمها ندا والفتاة اسمها ليلى والسيد باء هو السيد براء "اسم الروائي" بالطبع. وهو ما يكشف عنه مباشرة في حوار أخير مع ليلى حين تقول له: "لا تتوقع أن أسامحك على كل ما فعلته بي، ربما لم تذكر ذلك لمن يقرأ، لكن سأقوم أنا بذكر الأمر لهم"، والسؤال هو: هل اكتملت هويات الشخوص لكي نذكر أسماءها مباشرة وبشكل صريح؟
سوف نلاحظ أن أول كشف للأسماء بدأ مع زوجته، ذلك حين عاد إلى المنزل ووجدها تتدلى من سقف الغرفة وقد التف حبل حول عنقها. وهذا ما يجعلنا نتوقف أمامه ببعض التأمل، فهل كان الموت مكملاً للهوية؟ لا، لأن الأب مات والسيد براء شاب في مقتبل العمر، ومنكوب بوحدته واختلافه. ولكن لنتوقف قليلاً أمام ما يقوله لليلى عن زوجته "لقد قتلتها"، والحقيقة هي أننا لم نعد نعرف الصواب من الكذب، وهو ما يجعلنا نضع القتل احتمالاً كبيراً، خصوصاً حين نتوقف عند بقائه مع زوجته أسبوعاً كاملاً قبل أن يخرج من المنزل. إضافة إلى أنه خلال هذا الأسبوع كان يعد الطعام لاثنين ويشاهد مسلسلاً تلفزيونياً ويقرأ كتاباً ويطرح بعض الأفكار على جثتها. فهل آن أوان الكشف عن الوحش؟ لقد استدرج ليلى للذهاب معها إلى منزله لرؤية زوجته الميتة كي تصدق، لكنه، قبل خروجهما من حديقة المنزل، يقوم بضربها على مؤخرة رأسها فتفقد الوعي أو ربما تموت.
مشكلة السيد براء الأساسية تكمن في تمرده على نمط الحياة الذي وجد نفسه فيه من دون استشارة أو سؤال أو أي مفاضلة. والتمرد على السائد هو الرحم الذي تولد منه الوحدة المخلبية القاتلة في النهاية.
ربما لم نقل كل ما ينبغي لنا قوله ، فهنالك الكثير مما يستحق الإشارة إليه، في رواية غير عادية، سواء في بنيتها أم في أحداثها وشخوصها.