انتقل لقب "بيّ الكل" الذي أطلقه مناصرو رئيس الجمهورية ميشال عون عليه عند انتخابه رئيساً في الـ31 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2016، إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته الخاطفة والمليئة بالوقائع السياسية والمعنوية والإنسانية، الخميس السادس من أغسطس (آب)، بعد نحو 36 ساعة على الانفجار الكارثي الذي أصاب مرفأ بيروت، ودمّر جزءاً كبيراً من المدينة، وخلّف عشرات القتلى، وأكثر من أربعة آلاف جريح و80 مفقوداً.
في الوقائع الصارخة للزيارة أنّ ماكرون استطاع خلال نحو عشر ساعات أمضاها في العاصمة المنكوبة، أن يحقق جملة أمور عجز كبار المسؤولين، بمن فيهم "بيّ الكل" اللبناني، عن تحقيقها خلال الأشهر الماضية، وفي الساعات التي لحقت الانفجار المأساوي.
أولاً، رافقته طائرات محمّلة بالمساعدات الطبية والإغاثية للمنكوبين، وثانياً، توجّه بعد استقباله الرسمي فوراً إلى موقع الانفجار الهائل في المرفأ، وتفقّد آثاره التدميرية الشبيهة بما تخلّفه قنبلة نووية صغيرة، وعاين عمليات رفع الأنقاض، والبحث عن ناجين تحتها، واستمع إلى وصف من رجال الإنقاذ الفرنسيين، الذين سبقوه إلى الموقع في اليوم السابق.
طالبوه بعودة الانتداب
ثالثاً، نزل إلى أرض الميدان، لمعاينة مأساة المواطنين، الذين بات معظمهم بلا مأوى، أو صارت منازلهم مشرعة، جراء الدمار الذي سوّى بعضها بالأرض، في منطقتي الجميزة ومار مخايل القريبتين من المرفأ المحطّم اللتين شملهما عصف الانفجار الضخم، واختلط بالعامة الذين استقبلوه بالترحاب والبكاء على مصيرهم، وسمع منهم غضبهم الشديد على الحكام بمن فيهم نظيره اللبناني، في ظل نقل مباشر على شاشات التلفزيون، وحدثهم وسط بكاء النسوة، مؤكداً لهم أن فرنسا "لن تتركهم".
وزار السيدة التي كانت ترفض ترك منزلها القديم المتصدّع (على خطورة البقاء فيه)، قبل أن يأتيها الرئيس عون، وخاطبها قائلاً "جئت لأزورك"، وحين قيل له إنها تنتظر أن يأتي الرئيس اللبناني ليرى الدمار، قال لها: "أنا الرئيس، جئت أزورك"، فبكت وعانقها، ودعته مع غيرها من النسوة والرجال أن لا يترك الناس، لأنهم لا يثقون بالحكام اللبنانيين.
وطالبه الجمع بأن لا يقدّم المساعدات إلى الحكّام "لأنهم سيسرقونها، لا نثق بهم"، فالتزم أمامهم أن المساعدات ستقدّم مباشرة إلى الشعب، لأنه يعرف مقدار الفساد. بعضهم طالبه بعودة الانتداب الفرنسي على لبنان أيضاً، الذي أجاب عنه قائلاً في المؤتمر الصحافي إنه لا ينسجم مع مطالبته الدول الأخرى باحترام سيادة لبنان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الشق الثاني من الزيارة، السياسي، قال ماكرون للرؤساء الثلاثة (عون ورئيسي البرلمان نبيه بري، والحكومة حسان دياب)، الذين التقاهم في القصر الرئاسي عمّا سمعه من الناس، ما وصفته المصادر الفرنسية وأوساط القيادات السياسية التي التقت ماكرون لاحقاً، بـ"الكلام القاسي"، وأكد لهم بعد الحديث عن هول الكارثة التي ألمّت بالبلد والعاصمة "إنكم لا تستطيعون الاستمرار على هذا المنوال، ولا يمكنكم أن تواصلوا معاداة المجتمع الدولي والمجتمع العربي، وتطلبوا منه المساعدة، لأن هذا يؤثر سلباً في مقاربة الدول الأخرى لأزمتكم".
ولفت ماكرون الرؤساء الثلاثة إلى أنه بزيارته خرق البروتوكول الدولي، لـ"ألتقيكم وأقف مع لبنان"، وحدّثهم عن استغراب العالم، لعدم الإقدام على الإصلاحات المطلوبة، المتعلقة بالكهرباء والطاقة، والجمارك، والقطاع العام، والشفافية، وقانون الشراء العام، ومكافحة الفساد، مقابل الأموال المرصودة في مؤتمر "سيدر".
وثمة من يقول بين السياسيين اللبنانيين إنه التفت إلى دياب، وقال له ما كرره لاحقاً في المؤتمر الصحافي قبل مغادرته، وردّ على انتقاده وزير الخارجية جان إيف لودريان بأن تنقصه معلومات عن الإصلاحات التي قامت بها الحكومة، فقال له: "الشعب الذي التقيته قبل أن آتي إلى هنا ليس على علم هو الآخر بالإصلاحات الموعودة"، في إشارة منه إلى عدم تنفيذ أيّ منها.
الإصلاحات السريعة في ثلاثة أسابيع ثم حكومة وحدة
ويقول العارفون بجانب من مباحثات ماكرون إنه قال في الاجتماع المغلق ما ردده في تصريحاته عن الإصلاحات، وعن الحاجة إلى "تغيير سياسي"، لأن النظام السياسي لا يسير في شكل مقبول، قاصداً بذلك تغيير الممارسة، بحيث تطبق الأنظمة، وانطلق من ذلك ليدعو إلى "تشكيل حكومة وحدة وطنية"، يحتاج البلد إليها في الأشهر القليلة المقبلة، من أجل أن يقلع مجدداً على طريق التعافي.
وأفاد هؤلاء بأن الرئيس بري قال لماكرون إن التغيير السياسي المطلوب، الذي يمكن لفرنسا أن تساعد فيه هو أن يتحوّل النظام السياسي إلى "نظام مدني"، فكان ردّه بأن هذا أمر تقومون به أنتم اللبنانيون وليس نحن.
ويضيف مصدر سياسي بارز أن ماكرون دعا الرؤساء الثلاثة إلى أن تنفّذ الحكومة الحالية برئاسة دياب الإصلاحات التي عددها، إضافة إلى التدقيق في حسابات المصارف ومصرف لبنان، من أجل تحديد الخسائر بدقة، "خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وسأعود في الأول من سبتمبر (أيلول)، للمشاركة في الذكرى المئوية لإعلان لبنان الكبير (من قبل سلطة الانتداب الفرنسي)، فإذا لم تكن قد نفّذت سيكون البلد في وضع صعب جدّاً".
من دون المرور بالحكومة
ويشير المصدر نفسه إلى أن من التقوا ماكرون لاحقاً فهموا أن الإصلاحات السريعة المطلوبة في المجالات التي عددها، على الحكومة الحالية أن تقوم بها قبل نهاية الشهر، وأن مسألة تأليف حكومة الوحدة الوطنية تحتاج إلى تحضير وتوافقات يجري العمل عليها لاحقاً بعد شهرين أو ثلاثة، وفق برنامج محدد يشمل إعادة الإعمار واستكمال الإصلاحات البنيوية الأخرى، مشدداً على أنّ الإصلاحات هي "الطريق الوحيد كي أتمكّن من التحدث إلى سائر القادة الدوليين، للحصول على الدعم المالي، ولا شيك على بياض".
كما أن من التقوا الرئيس الفرنسي فهموا أيضاً أن المساعدات من أجل إعادة إعمار ما تهدّم بفعل انفجار المرفأ، ستُنفق مباشرة من المانحين من دون المرور بالحكومة، وأنه سيعمل لأجلها في شكل منفصل عن المساعدات المالية المخصصة لتعافي الاقتصاد.
ولاحظ المصدر أن فكرة ماكرون بقيام حكومة الوحدة الوطنية كانت إشارة مباشرة إلى أن حكومة دياب "لم تعد مقبولة من المجتمع الدولي"، ما دفع الأخير إلى التأكيد بعد ظهر السبت في الثامن من أغسطس أنه "ليس متمسكاً بالكرسي"، ومستعد لتحمُّل المسؤولية شهرين، داعياً الفرقاء إلى الاتفاق، ومقترحاً إجراء انتخابات نيابية مبكّرة.
نجح حيث فشل عون
وحلّ ماكرون مكان عون في جمع الفرقاء المختلفين بعد لقائه الرؤساء الثلاثة في قصر الصنوبر (مقر السفير الفرنسي الذي منه أُعلن لبنان الكبير عام 1920)، فالتقى قادة المعارضة الذين كانوا امتنعوا عن تلبية دعوة الرئيس اللبناني قبل ستة أسابيع، والموالاة بمن فيهم رئيس الكتلة النيابية لـ"حزب الله" محمد رعد، وكرر مع هؤلاء ما سبق أن قاله للرؤساء، وأضاف "إنكم تختلفون في وقت الشعب يدفع الثمن، ولم يعد يثق بالطبقة السياسية، نتيجة الممارسات السابقة، وغياب الحوكمة".
وأبلغ هؤلاء بأن فرنسا البلد الوحيد الذي يتفهّم أوضاعكم، وإذا لم تحدث الإصلاحات فإنكم لن تجدوا من يتحرّك من الدول من أجل تجييش المجتمع الدولي لتقديم الدعم، وإذ استمع ماكرون إلى تقييم كل الحاضرين، ذكرت مصادر أنهم كرروا مواقفهم المعروفة، فاتفق المعارضون، (سعد الحريري، وسمير جعجع، ووليد جنبلاط، وسامي الجميل) على المطالبة بتحقيق دولي في انفجار المرفأ، نظراً إلى عدم الثقة بالأجهزة اللبنانية، فوافقهم الرئيس الفرنسي الرأي.
سلاح "حزب الله"
وأشار بعضهم إلى ضرورة معالجة سلاح "حزب الله" كل على طريقته، فدعوا إلى الدفع باتجاه إقرار الاستراتيجية الدفاعية، ليكون هذا السلاح بإمرة الجيش، كما دعوا إلى انتخابات نيابية مبكّرة، واستعاد جنبلاط مطلب ترسيم الحدود مع إسرائيل وسوري. بينما اعتبر رعد أن وجود المقاومة المسلحة حاجة من أجل الدفاع عن لبنان، خصوصاً أن إسرائيل تواصل خروقاتها الحدود، وجدد ماكرون تأكيد أنه لا يمكن مواصلة العداء للدول العربية، ثم مطالبتها بمساعدة لبنان ماليّاً.
وإزاء مطالبة المعارضين بتشكيل حكومة مستقلين وحيادية، اقترح الضيف الفرنسي قيام حكومة وحدة وطنية، تقود البلد نحو التعافي من جهة، وتغيّر من الممارسات السياسية، مكرراً أن ليس دوره هو اقتراح الاتفاقات على معالجة الأزمة السياسية، "هذا شأنكم أنتم كقادة منتخبين في البرلمان". وعرض ماكرون الاتصالات التي ينوي إجراءها مع الدول الكبرى من أجل المساعدة على إعادة إعمار ما تهدّم بعد انفجار المرفأ، وكذلك تقديم المساعدات الإنسانية مباشرة إلى المتضررين.
رعد وتأييد حكومة الوحدة وعقدة باسيل
وسجّل الحضور أن ماكرون تحدّث إلى بعض المدعوين إلى اللقاء قبل الجلوس إلى طاولة الحوار معهم، وبعدها، لدقائق، ومنهم نائب "حزب الله" محمد رعد، وترددت معلومات بأنه سأل الأخير إذا كان "حزب الله" يعترض على قيام حكومة الوحدة الوطنية، وأن رعد أجابه بأن هذا كان تمنّي الحزب قبل تشكيل حكومة دياب، وأن لا اعتراض لديه، "لكن المشكلة ليست عندنا".
وذكرت مصادر مواكبة للمداولات التي أجراها ماكرون لـ"اندبندنت عربية"، أنه فُهم من كلام رعد أن المقصود هو رفض الرئيس عون عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة، (هو المرجّح لرئاستها إذا كانت حكومة وحدة وطنية)، بينما الأخير ليس على استعداد لترؤس حكومة يكون في عدادها رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، الذي يصر عون على أن شرط عودة زعيم "المستقبل" هو عودة باسيل.
دعم مالي
وأوضحت المصادر إياها أنّ ماكرون على علم بهذه التفاصيل، التي أثارها رعد معه، وأنه إضافة إلى النشاط الذي سيبذله على الصعيد الدولي من أجل تأمين دعم مالي، لإعادة إعمار ما تهدّم بسبب انفجار الرابع من أغسطس، وانتظار الإصلاحات السريعة حتى الأول من سبتمبر، سيسعى إلى تذليل عقبة تأليف حكومة الوحدة من دون اشتراك باسيل فيها، نظراً إلى تبلور قناعة لدى الدول المعنية بلبنان بصعوبة حصول التوافق في ظل العراقيل التي يضعها باسيل على عمل الحكومات.
لكن، اندفاع ماكرون نحو حكومة كهذه سيصطدم برفض رموز المجتمع المدني، لقيام حكومة من الفرقاء السياسيين، فهو التقاهم وبعض ناشطي ثورة الـ17 من أكتوبر، بعد اجتماعه بقادة الأحزاب، وأصروا على "حكومة حيادية برئيسها ووزرائها"، رافضين عودة الحريري وسائر الأحزاب.