Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حبيبات كافكا شخصيات من ورق وألم شخصي

رواية جاكلين راوول دوفال تكشف سر شغفه بكتابة الرسائل العاطفية عند توقفه عن الإبداع

كافكا وخطيبته ميلينا (موقع كافكا)

تلعب الترجمة دوراً مركزياً في رواية "كافكا الخاطب الأبدي" للكاتبة الفرنسية جاكلين راوول دوفال، فما قامت به الكاتبة بتأليفها سيرة عاطفية لكافكا بالاعتماد على مراسلاته ويومياته أقرب ما يكون إلى فعل ترجمة؛ من حيث هي عملية تأويل يخرج منه المُوؤل بعمل هو نفسه العمل الأصلي، لكنه يختلف عنه أيضاً، عمل يمتزج فيه جهد خالقَيه؛ المؤلف والمترجم: كافكا وجاكلين. رجل براغ والحائكة التي نبشت ما خلَّفه من شظايا ومِزَق، ونسجتها معاً بمهارة لتحيك منها سيرة روائية له انطلاقاً من علاقاته بالنساء. ولا يفوتنا هنا الانتباه إلى أن مفردة "الترجمة" في اللغة العربية تشير أيضاً إلى تدوين سيرة شخص ما.

نقرأ رواية راوول دوفال، الصادرة عن منشورات تكوين ومرايا (الكويت) بترجمة ممتازة للكاتب والمترجم المغربي محمد آيت حنَّا، فنتعرف على كافكا العاشق، أي على وجهه الأنيق، المبادر، المغازل والمنفتح على الآخرين حين يلائمه الأمر. ونلمس هذا التوق الموجع للتواصل مع المحبوبة، وهذا العطش الذي لا سبيل لإروائه للتعري النفسي والرمزي أمامها. يسأل عن كل شيء بفضول لا حد له، يحكي كيف يأكل، كيف يلبس، ويسرد تفاصيل يومه ومواطن ضعفه. يسرد أفكاره وأعمق مخاوفه وعذاباته، أو يكتفي بلغوٍ حميم يكشف عن رغبة جامحة في العيش بالكلمات وفيها.

وقود الكتابة

كانت العلاقات العاطفية عند كافكا وقوداً للكتابة، وكم كان ماكس برود محقاً حين قال لفيليس باور في لقائها الأول بصديقه إنه ليس إلا أدباً. العبارة التي قُصِد بها الإطراء، يلائمها أكثر أن تكون تحذيراً، ففي غرامياته ينخرط كافكا في تراسل مسعور، يكاد يكون هوسياً، كأن كتابة الرسائل هي الغاية والحبيبات المفترضات مجرد وسيلة لتحقيقها. يبدو الأمر مضحكاً حين يتعلق بالعابرات: يقول لغريت بلوخ مثلاً: "آنستي، هل أستطيع أن أكتب إليكِ في فيينا؟ إن مهمتك لم تنتهِ بعد". ولإيرنا شقيقة فيليس: "هل تسمحين لي بأن أكاتبك؟"، ومن فوره يغرق في حُمى التراسل، على هامش كتابته لأعماله الأدبية.

من علاقته بفيليس باور خرج بنصوص عديدة منها "الحكم" و"التحول" و"المحاكمة"، ودفعه فشل علاقته بيولي لكتابة "رسالة إلى الوالد"، في حين كتب "القلعة" عقب انفصاله عن ميلينا.

على الرغم من هوسه بالتراسل وانغماسه في علاقات عديدة، كان كافكا مدركاً لأولوياته، فالكتابة الأدبية محور حياته ومبرر وجوده، لذا يقرر مثلاً وقف رسائلة لفيليس لتوفير الوقت لكتابة "الوقاد": "بين سعادة أن يرى المرأة التي يحبها، وسعادة أن يُخرِج للعالم بطلاً، اسمه كارل أوسمان (...)، لم يتردد لحظة. لقد مدّته فيليس بالقوة، بالحماسة اللازمة. لقد أشعلت الشرارة، عاد المحرك المعطل إلى الاشتغال".

شخصيات ورقية

كانت الكلمات المكتوبة درعه في مواجهة الحياة، ووسيلته للحب؛ حب ملتهب على الصفحات ومنزوع من مخاطر التجربة المباشرة معظم الوقت. بوصفه شخصاً يُحب أن يعذِّب أو يعذَّب، انجذب كافكا دوماً إلى الحب المتعذر عليه بلوغه: علاقة تعيش المحبوبة فيها في بلد آخر أو تكون متزوجة أو ثمة عوائق طبقية بينه وبينها.

قوَّت الرسائل رباطه بفيليس، لكن حضوره أذاب تلك الروابط كحمض، وكانت سبباً في الحكم على علاقته بميلينا بالانتهاء لأنهما عجزا "عن الخروج من كل هذه الرسائل".

بطريقة ما أحالتْ الكتابة كافكا وحبيباته إلى شخصيات ورقية؛ وأعطتْ الرسائلَ اليد العليا في تسيير العلاقات حتى نهايتها: "غريت حرّرت فرانتس من فيليس. وميلينا خلصته من "الصغيرة" (يولي). فعلتا بالطريقة نفسها: بالأسلحة نفسها التي وضعها بين أيديهنّ: الرسائل".

وتكاد علاقته العابرة بالسويسرية غِرتي، تكون هي العلاقة الوحيدة التي لم تلعب فيها الكلمة المكتوبة دوراً يُذكر: "لن نتقابل مرة أخرى أبداً. لن نكتب بعضنا لبعض أبداً، ولا حتى سطراً واحداً. ولن تكتب أو تقول عني أي شيء". تلك كانت شروط الصبية السويسرية التي لم تُكشَف هويتها إلا بعد عقود، لأنه لم يدون عنها في يومياته سوى عشرة سطور مكتفياً بالحروف الأولى من اسمها.

سر ميلينا

من يقرأ "كافكا الخاطب الأبدي" أو يجمع بنفسه تفاصيل علاقات رجل براغ العاطفية من يومياته ومراسلاته وما كُتِب عنه، سوف يتساءل حتماً عن سبب المكانة المركزية التي مُنِحت لميلينا ييسِنسكا في سردية حياته، فواقع الحال يقول إن علاقته بفيليس امتدت وقتاً أطول وألهمته أعمالاً أكثر، وعلاقته بدورا ديامانت كانت واحة أمان له في نهاية حياته، هذا بخلاف أنها المرأة الوحيدة التي عاش معها متجاوزاً خوفه المرضي من الزواج، فما سرّ ميلينا إذن؟ ولماذا يحلو للكثيرين أن يتكلموا عنها كما لو كانت حبيبته الوحيدة، بل وأن ينسبوا إليها أحياناً ما يخص علاقاته الأخرى؟

قد يعود الأمر، في جزء منه، إلى شخصيتها القوية التي مثَّلت، أكثر من سواها، نداً لكافكا، فهي عاصفة ومتسلطة ومتطلبة و"شعلة حيَّة" أو إعصار ما عادت به القوة ليساكنه. كما أنها كاتبة ومترجمة، حتى وإن كان هناك شبه إجماع على أن ترجمتها لأعماله حرفية. لكن في ظني أن السبب الأساسي لمركزيتها في السردية الشائعة عنه يرجع إلى أن هذه العلاقة تحديداً توافق الصورة التي تروق لمعظمنا النظر إلى صاحب "التحول" في إطارها: فرانتس المسكين والمُعذَّب الملاحَق بالأشباح، فبينما قام بدور المُعذِّب أو الجلاد في كثير من محطات علاقتيه بفيليس ويولي، استعذب أن تكون ميلينا السكين التي يديرها في جرحه، وأجادت هي لعب هذا الدور في علاقة لم تستمر سوى لأقل من ثمانية أشهر.

التماهي مع رجل براغ

حياة فرانتس كافكا العاطفية رواية كانت في انتظار مَن يكتبها على هذا النحو البسيط والشغوف تحديداً، مَن يترجمها ناقلاً إياها من حالتها الشذرية في الرسائل واليوميات إلى حالة تصير فيها نصاً متماسكاً، ترجمة هي نوع من الحياكة التي تتعامل مع ثوب موجود بالفعل، لكنها تفكّك نسيجه، كي تعيد حبكها في تصميم جديد وشكل مختلف، وهو ما أجادته راوول دوفال بمهارة أوصلتها إلى التماهي مع موضوعها والاندماج به، ففي تذييلها للعمل كتبت أنها، بعد سنتين من إنهائها إياه، ما زالت تخالط أسرة كافكا، وعدّدت التشابهات بينها وبينه، ولم يفتها التأكيد على أنها أبعد ما تكون عن فك شفرة أعماله، التي ستظل ملغزة لقرون.

وهي بالفعل لم تنشغل بتقليل إلغاز أعماله الأدبية، لكنها نجحت في إضاءة شخصيته المعقدة، بجمعها نثار كلماته واعترافاته وتشكيلها في صيغة روائية، وعلى منوال المؤلفة نفسه، سار المترجم محمد آيت حنّا، إذ تتبع طريقتها نفسها "في جمع متن لا يقدم نفسه إلا كمِزَق متناثرة، وأن أعود كل مرة إلى النصوص التي عادت إليها..."، كأن مهمته اشتملت على التحقيق إلى جانب الترجمة.

ومثلما تماهت جاكلين راوول دوفال مع رجل براغ خلال كتابتها للعمل، نكتشف بقراءة الحاشية الختامية للمترجم أنه تماهى هو الآخر مع كافكا ومع كتابها عنه، لدرجة أغرته بمضاعفة تمويه الحدود بين التأليف والترجمة من خلال كتابة رسالة موجهة إلى المؤلفة، رسالة تبدو كجزء أصيل من متن العمل، ربما لأنها نابعة بالفعل من صميمه، أو لأنها تتصادى مع رغبة كل قارئ شغوف في الاستجابة لعدوى التراسل الكافكاوي، ومحاولة مجاراة الكاتبة والمترجم في سعي كل منهما إلى جمع المِزَق والشظايا وإعادة ترتيبها، من أجل الوصول إلى ما يعين على حل أحجية كافكا؛ ليس بالضرورة الرجل الذي عاش وكتب في براغ في الربع الأول من القرن العشرين، إنما بالأساس كافكا المُشتهَى والمُخترَع؛ مَن تسابق معظم من عرفوه على إعادة تشكيل صورته وفق أهوائهم، وكان ثمة صراع رمزي وفعلي (وصل إلى ساحات المحاكم) على إرثه وعلى أحقية رسم صورته وامتلاك أرشيفه الخاص. والمفارقة أنه على الرغم من وصيته الشهيرة بإحراق مخطوطاته، فإن كل كلمة خطها أو شخبطة تركها على ورقة ما سُعِي لنشرها باستثناء ما ضاع أو استولى عليه النازيون لاحقاً.

المزيد من ثقافة