Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"السنوسية" حركة دينية غيرت وجه تاريخ ليبيا

رُفض مؤسسها في طرابلس واحتضنته برقة وشارك في القتال ضد الاستعمار

الملك إدريس السنوسي متقدماً أعضاء أول حكومة ليبية في خميسنات القرن الماضي (مواقع التواصل)

كان اليوم الذي دخلت فيه الحركة السنوسية إلى ليبيا، منتصف القرن السابع عشر، محورياً في تغيير مستقبل البلاد، إذ أحدثت ثورةً فكرية واجتماعية، أدت في النهاية إلى استقلال البلاد بعد قرنين من التقلبات، وظهور الدولة الليبية الحديثة بعد مخاض طويل.
كانت السنوسية في بدايتها، حركة دعوية دينية صوفية، ظهرت في ليبيا منتصف القرن التاسع عشر، ويرجع أصل العائلة السنوسية، إلى سلالة الأدارسة الذين حكموا المغرب في القرن التاسع الميلادي وعمّت مراكزها الدينية، شمال أفريقيا والسودان وتشاد والصومال ومكة المكرمة وبلاد إسلامية أخرى.


مرحلة التأسيس

تأسست دعوة السنوسية، بحسب ما ورد في كتب مؤسسها محمد بن علي السنوسي، سعياً إلى مواجهة الجمود والتخلف الفكري، الذي كان طابعاً للدول العربية والإسلامية، في كل مظاهر الحياة والفكر دينياً وسياسياً واجتماعياً.
ولِد محمد بن علي السنوسي، مؤسس الحركة السنوسية الدينية الصوفية في عام 1787 في مستغانم بالجزائر، وتوفي في ليبيا عام 1859، وعندما بلغ سن الرشد، تلقى العلوم الشرعية في جامعة مسجد القرويين بالمغرب، ثم أخذ يجول في البلاد العربية طلباً للعلم. زار السنوسي، تونس وليبيا ومصر والحجاز واليمن، ثم رجع إلى مكة وأسس فيها أول زاوية لما عُرِف في ما بعد بالحركة السنوسية، وله نحو أربعين كتاباً ورسالة منها، "الدرر السنية في أخبار السلالة الإدريسية" و"إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن".


الطريق إلى مكة

ارتحل محمد بن علي من المغرب، قاصداً مصر، واتجه إلى الأزهر الشريف، معلِماً ومتعلِماً،  قبل التوجه لأداء مناسك الحج، في عام 1825، وهي الرحلة التي غيرت حياته ومستقبل الحركة السنوسية إلى الأبد. وفي مكة، بدأ المنهجية الخاصة به، فأسس ما سماه الزاوية، التي أسهمت في ما بعد، بتأسيس ما عُرف بالحركة السنوسية.
 


مواجهة الاستعمار الفرنسي للجزائر

مكث محمد علي السنوسي في مكة 15 سنة، قبل أن يحاول العودة إلى الجزائر، للمشاركة في القتال ضد الفرنسيين. لكن أخبار عودته وصلت الاستخبارات الفرنسية، فأغلقت بوجهه الطريق، فغيّر وجهته، وأقام في طرابلس بليبيا.
ومن طرابلس، أخذ يمد الشيخ عبد القادر الجزائري، قائد المقاومة الجزائرية، بالمقاتلين والمال والسلاح، كما شرع بنشر أفكاره الدينية.


الصدام مع التطرف الصوفي

وعن هذه المرحلة المفصلية، في تاريخ الحركة وتاريخ ليبيا، يقول الباحث الأكاديمي الليبي فرج الجارح لـ"اندبندنت عربية"، إنه "في طرابلس الغرب، لم يلقَ المنهج الوسطي الجديد، الذي جاء به محمد علي، ترحاباً من علمائها وسكانها، بسبب سيطرة تيارات صوفية، تُصنف في أقصى يسار الحركة الصوفية، على المنابر والخطاب الديني، تميل إلى التشدد والتطرف في مسائل الأولياء والصالحين، التي كان ينبذها محمد علي السنوسي". أضاف "صدمت أفكار محمد علي التنويرية المجتمع الطرابلسي آنذاك، فحاربه حتى دفعه للخروج إلى مصر والحجاز ومنها إلى برقة، ولم يعد منذ ذلك التاريخ إلى طرابلس أبداً".
ويرى الجارح أن ما حدث في طرابلس وخروج السنوسي منها شبه مطرود، وفتح برقة ذراعيها له بعد ذلك، عوامل أدت إلى "فوارق مستقبلية في التكوين الثقافي والفكري والديني بين أهالي الاقليمَين الليبيين، وخلق بيئتين اجتماعيتين مختلفتين، ما زالت منذ ذلك التاريخ، تخلق تنافساً وخلافات فكرية وثقافية بينهما، حتى يومنا".
 

الاستقرار في برقة

بعد هذه الرحلة الطويلة، وخروج محمد علي السنوسي من طرابلس، استقر في إقليم برقة، شرق ليبيا، وأسس زوايا جديدة، تعلم الناس الدين. وكان السنوسي حريصاً، على بناء الزوايا، في الأماكن الاستراتيجية، عند التقاء الطرق، لتكون هذه المراكز الصوفية، نقطة انطلاق للقتال ضد المحتل، مع تعليم العلوم الشرعية لأهل البلد.
وكانت زاوية البيضاء في منطقة الجغبوب، جنوب شرقي ليبيا، قرب الحدود مع مصر، أول زاوية بُنيت للسنوسية الصوفية عام 1841 خارج الحجاز، ومنها انطلق أتباع السنوسية في بناء الزوايا، في كل أنحاء برقة. كما أنشأت الحركة السنوسية، أول جامعة إسلامية في ليبيا في مدينة البيضاء، شرق بنغازي، تحت اسم جامعة محمد بن علي السنوسي.
وعملت الزوايا الصوفية في برقة بدايةً على تنقية العقائد الدينية للسكان من الخرافات التي كانت تسيطر على عقولهم وثقافتهم، ونجحت بذلك، محدثةً نقلةً نوعيةً في حياتهم، على المستويات الفكرية والاجتماعية، لا تزال آثارها باقية إلى اليوم، وكان زعماء الحركة في ذلك الوقت، ملوكاً غير متوّجين لإقليم برقة، الذي كان يرزح تحت الحكم العثماني.


آثار باقية

واعتبر الصحافي الليبي عبد الرحيم نجم، أن الحركة السنوسية أسهمت في إعادة التكوين الثقافي لسكان برقة، نظراً إلى وجود عوامل عدة، فقال إنه "عندما حل محمد علي السنوسي في برقة، كانت القبائل فيها متنافسة ومتناحرة ومشتتة، يسيطر على ثقافة أبنائها التخلف والجهل، ونجحت الحركة السنوسية في معالجة كل ذلك بالجهود العلمية لزواياها، وتأثير قيادييها، الذين صارت لهم كلمة مسموعة في برقة". وأضاف نجم أن "أبرز نجاح للحركة السنوسية في برقة، كان في تحقيق عقد اجتماعي وثيق لقبائل الإقليم، بصوغ الميثاق، الذي وقّعت عليه قبائل الشرق الليبي وعُرف بميثاق "الحرابة"، الذي أسهم في خلق بيئة اجتماعية متماسكة حتى يومنا هذا، وأنهى الصراعات القبلية إلى الأبد".

وأشار نجم إلى أن "آثار ميثاق الحرابة ما زالت باقية. فحتى في الفوضى التي لم تشهد ليبيا لها مثيلاً في العقد الماضي، والتي أسهم بتأجيجها انتشار السلاح، خالقاً صراعاً على مستويات عدة رأسية وأفقية، وسياسية واجتماعية بين القبائل، لم يحدث أبداً صدام قبلي في برقة، ولا تزال موحدة ومتماسكة في مواقفها تجاه القضايا المتشعبة في المشهد الليبي".

وتابع "كان ميثاق الحرابة، عقداً اجتماعياً فريداً سابقاً لعصره، كان دوره بارزاً حتى في فترة مقاومة الاستعمار، التي طالت في برقة، أكثر من أي منطقة أو إقليم جغرافي آخر في ليبيا، بسبب التماسك الاجتماعي، والقتال تحت راية موحدة هي راية السنوسية، التي حمل لواءها أسد الصحراء الشيخ عمر المختار، 20 سنة كاملة، حتى القبض عليه وإعدامه".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


الصدام مع المستعمر
بعد وفاة مؤسس الحركة السنوسية محمد علي، توالى على قيادتها ابنه الأكبر محمد المهدي، وخلفه ابن أخيه أحمد الشريف حتى عام 1911 حين بدأت إيطاليا حربها على ليبيا، ودكت البوارج المدن الليبية، بخاصة بنغازي وطرابلس ودرنة. فشكلت الحركة السنوسية في برقة تحديداً، جيوشاً محلية قليلة التسليح، لمواجهة المستعمر الإيطالي، كانت قيادته السياسية لأحمد الشريف السنوسي والعسكرية بقيادة الشيخ عمر المختار، المنتمي إلى قبيلة المنفة في برقة.

وخاضت جيوش المقاتلين المحليين الليبيين، بقيادة عمر المختار، صراعاً طويلاً ومريراً وشرساً، ضد الاستعمار الإيطالي، الذي أفرط في عنفه، منتهجاً ما يشبه الإبادة بحق السكان المحليين، لإنهاء المقاومة، التي خفتت جذوتها بإعدام المختار، في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1931.
 

مخاض سياسي

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وقعت تغييرات جذرية، في الفكر السياسي للحركة، مع بروز إدريس السنوسي، بدأت بخلاف بينه وبين ابن عمه أحمد الشريف، الذي كان يفضّل الوقوف إلى جانب الحكومة العثمانية وحلفائها الألمان، في مواجهة الإنجليز.

في المقابل، كان إدريس السنوسي، يفضّل عدم دعم العثمانيين، وعدم الدخول في معركة مع الإنجليز، بسبب حنقه على تركيا، التي سلمت ليبيا لإيطاليا، إثر اتفاق "أوشي لوزان" في عام 1912. وأفضى هذا الخلاف إلى مبايعة إدريس السنوسي، أميراً على السنوسيين، بينما ارتحل أحمد الشريف إلى إسطنبول، ومنها إلى الحجاز وتوفي في المدينة المكرمة.


إدريس السنوسي

يُعتبر إدريس السنوسي أبرز القادة السياسيين للحركة السنوسية على الرغم من أنه لم يتخل عن المقاومة، فأدخل منهجاً سياسياً جديداً للحركة، لا يغفل عقد التحالفات السياسية واستخدام التفاوض السياسي، حتى مع روما في عز الجهاد الليبي ضدها.
عقب الحرب العالمية الثانية، عزز إدريس السنوسي نشاطه السياسي، لنيل استقلال ليبيا، مدركاً ومستغلاً التبدلات السياسية التي طرأت على الساحة الدولية، نتيجة هذه الحرب.
كان بداية هذا النشاط، بعقد اجتماع في داره في الإسكندرية، بحضور 40 شيخاً، من المهاجرين الليبيين في مصر. وانتهى الحاضرون إلى تفويض الأمير، بالتفاوض مع الحكومتين المصرية والبريطانية، لتكوين "جيش سنوسي"، يشترك في استرجاع الوطن، على أن يخوض المعارك ضد الألمان والإيطاليين في صف الجيش البريطاني.

وبدأ الأمير إدريس بإعداد الجيوش المساندة، وعند انتهاء الحرب بهزيمة ألمانيا وإيطاليا، عاد على الفور إلى ليبيا في عام 1944، واستقبله الشعب في برقة استقبالاً حافلاً. وخاض بعد ذلك، مع عدد من الزعماء الليبيين، صراعاً سياسياً ضد عدة قوى دولية، مطالباً بمنح ليبيا الاستقلال. ونجح بدايةً في انتزاع استقلال برقة في عام 1949، قبل أن تتحد ليبيا تحت راية الاستقلال وحُكم الملك إدريس السنوسي، برعاية الأمم المتحدة في 24 ديسمبر (كانون الأول) 1951.

المزيد من تحقيقات ومطولات