"حياة الأسماك، مثل حياة الإنسان، تحتاج إلى بيئة مناسبة صالحة للعيش، وأي خلل يطال بيئتها، يعكر صفو الحياة لها في أعماق البحار، ويحيلها قفراً مائياً وقاعاً صفصفاً"، هكذا يقول "ريس المركب البحري" سعد الشبلي لـ"اندبندنت عربية".
التأثير السلبي لانتشار السلاح في ليبيا الذي يهدد كل أنواع الحياة على أرضها، امتدّ أذاه إلى البحر أيضاً، حيث انتشرت في السنوات الماضية، ظاهرة خطيرة، تُعد مهدداً حقيقياً للحياة البحرية، إذ بات الصيادون يلجؤون إلى استخدام نوع من الديناميت المصنَّع محلياً لصيد الأسماك، يخلّف انفجاره قاعاً بحرياً خاوياً ومدمَراً.
طريقة الصنع والاستخدام
يُصنّع الديناميت المحلي في ليبيا، حيث يسميه أهلها "الجولاطينة"، من مادة الـ تي أن تي "TNT"، التي تُستخرج من صواريخ المخلفات الحربية الصغيرة التالفة، قبل أن تُعبّأ في علب الطماطم أو الزيت، ويخرج منها فتيل صغير، يرمى بعد إشعاله على مجموعات كبيرة من الأسماك، لتحصد صيداً وفيراً بجهد قليل.
وساهم انتشار مخلفات الحروب في كل مكان بليبيا، في زيادة هذه الظاهرة، نظراً إلى سهولة الحصول على المادة المتفجرة، التي تُستخدم في هذا النوع المحرّم والمجرّم قانوناً من الصيد، بعدما كان الوصول إليها عسيراً خلال فترة حكم معمر القذافي، إذ يُعد ضبطها بحوزة أي شخص تهمةً سياسية عواقبها وخيمة.
دمار يحصد الأعماق
تُحدِث عمليات الصيد غير القانونية هذه، دماراً كبيراً في البيئة الصخرية والمرجانية، التي تعيش فيها الأسماك، وتضع فيها بيوضها، كما تقتل الأسماك الصغيرة والبيض الموجود، ما يسبب نقصاً حاداً في كميات الأسماك وتدميراً لبيئتها.
ويقول الشاب الليبي ياسر محمد وشقيقه منصور، اللذان يمارسان هواية الصيد منذ أكثر من 15 سنة "أصبح صيد سمكة بالسنارة إنجازاً، بعد انتشار هذه الظاهرة، لأن الصيد بالديناميت، دمر تماماً مواقع وجود وتعشيش الأسماك ووضع بيوضها، على مسافة كبيرة من الشواطئ، ما دفعها إلى البحث عن بيئة بديلة، في أماكن أبعد عن هذا الخطر المحدق في البحر". ويضيف الشابان "نطالب الدولة بالتحرك السريع، للتصدي لهذا الخطر، الذي يهدّد الثروة السمكية، التي تُعد مصدر رزق لكثير من الأسر الليبية، فتدمير البيئة التي تعيش فيها الأسماك، يعني البطالة لكثير من العاملين في البحر، فضلاً عن الهواة، الذين باتوا يهجرون هواية الصيد، نظراً إلى شحّ الأسماك وصعوبة الحصول عليها بالطرق التقليدية التي يجيدونها".
ويقول الصياد صلاح العمامي، المتخصص في الصيد بالشباك، إن شباكه باتت تخرج من البحر فارغة، إلا من القليل، في الأعماق القريبة من الشاطئ، التي كان يصل إليها سباحةً، ويعود محملاً برزق وفير، وذلك بسبب تدمير البيئة البحرية لكثرة استعمال الجولاطينة".
وأشار العمامي إلى أن هذا التغيير حمّله أعباء مالية مضاعفة، موضحاً أنه كي يحصل على صيد يجني منه مالاً كافياً، بات بحاجة إلى مركب يوصله إلى الأعماق الكبيرة، حيث توجد الأسماك، وهو غير قادر على تحصيل المبلغ المالي لشراء هذا المركب.
إنقاذ ما يمكن
قال الصحافي عماد بن عامر عضو فريق الغطس في نادي بنغازي البحري، إن "الغطس الذي كان متعتي الأكبر، قبل سنوات، تحول إلى رحلة مؤلمة بالنسبة إليّ، بسبب ما بتّ ألحظه من انهيار للبيئة البحرية وتناقص أعداد الأسماك، والدمار المخيف في أعماق البحر". وأضاف أن "هناك كهوفاً صخرية وشعباً مرجانية دُمرت بالكامل، بعدما كانت تعج بكل أنواع الأسماك، بسبب هذه الطريقة التي تُعد أشد أنواع الصيد جوراً، وفتكاً بالحياة البحرية، فقنبلة صغيرة منها، قادرة على تدمير بيئة بحرية بشكل كامل، في دائرة قطرها مئات الأمتار، وبما أن هذا الجرم، بات يقوم به الصياد الواحد، مرات عدة في اليوم، فلنا أن نقيس حجم الكارثة التي تحدث".
ورأى بن عامر أنه "على الرغم من كل هذا الدمار ما زال هناك أمل، إذ يمكن اتخاذ إجراءات عاجلة عدة، للحد من العبث بالحياة البحرية، مثل إنشاء المحميات الطبيعية، للحفاظ على الأنواع النادرة المهددة بالانقراض، وإنشاء مزارع الأسماك والقشريات، وإصدار قوانين تجرّم الصيد لأنواع ومواسم محددة، وفي عمر محدد، حتى تتكاثر هذه الأنواع، ورفع مستوى الوعي إلى أهمية الأحياء البحرية بهدف حمايتها، والمشاركة في كل الاتفاقيات الدولية، لترشيد الصيد في البحر". وتابع أن "هذه الخطوات نجحت في دول عدة، بإنعاش مناطق بحرية كانت مهددةً، بعوامل يتقدمها الصيد الجائر والتلوث وغيرهما".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مخزون ضخم غير مستثمَر
وتتمتع ليبيا بإطلالة بحرية، هي الأطول على البحر المتوسط، بساحل يبلغ طوله 2000 كيلومتر تقريباً، تتنوع فيه الأحياء البحرية من أسماك ورخويات وإسفنج وأعشاب بحرية.
ويُقدَّر المخزون السمكي المتاح للاستغلال في ليبيا، بحسب آخر البيانات الرسمية، بأكثر من 100 ألف طن، من مختلف الأنواع، بسبب قلة وسائل الصيد الحديث، والحاجة إلى وسائل المناولة والتجهيز والتسويق.
كما تشير هذه البيانات، إلى أن عدد العاملين في القطاع يبلغ 11 ألف شخص، بين صيادين وتجار سمك، 35 في المئة منهم ليبيون، يتوزعون على 113 منطقة صيد محددة، و12 ميناء للصيد على طول سواحل البلاد.
تعديات من نوع آخر
وتظهر آخر إحصاءات صادرة عن الشركة الليبية لصناعة الأسماك، التابعة للدولة، في عام 2013، أن الشواطئ الليبية تتعرض لنوع آخر من الصيد الجائر، حيث باتت تدخل قوارب من دول الجوار إلى المياه الإقليمية الليبية، وتصدّر ما تصطاده إلى الأسواق الأوروبية، بكميات تصل إلى 21 ألف طن، تناهز قيمتها سنوياً 155 مليون يورو، وتُباع بعد إدخالها إلى تلك الدول، بقيمة تصل إلى 488 مليون يورو، ما يعني خسارة حوالي 250 مليون يورو سنوياً، بسبب عمليات الصيد غير المشروعة.
ووفق تقارير دولية، يصل إنتاج السواحل الليبية مثلاً، إلى نحو 902 طن سنوياً من التونة ذات الزعانف الزرقاء، وهي الكمية المسموح باصطيادها، لكن كميةً أكبر يجري اصطيادها من قبل مراكب دول أخرى، من دون الحصول على تراخيص من السلطات المحلية.
وكانت ليبيا تصدّر في عام 2010، شحنات أسماك وصلت قيمتها إلى 240 مليون دولار، قبل أن تتراجع إلى 75 مليون دولار، وفق آخر الإحصاءات الرسمية، الصادرة قبل 7 سنوات، على الرغم من توفر أكثر من 450 نوعاً من الأسماك على الشواطئ الليبية، التي تعاني من عمليات صيد غير مشروعة، من قبل جرافات أجنبية.
ومن غير المرجح، أن يتغيّر الحال المتردي والانتهاكات بحق الشواطئ الليبية في وقت قريب، بسبب الحروب الدائرة على أراضيها منذ سنوات، التي شغلت السلطات عن الكثير مما يدور في البحر. وإلى حين تبدّل الأحوال، ستستمر "الجولاطينة" في سحق الحياة البحرية، بلا رقيب ولا حسيب.