قلائل هم الشعراء العرب من الشبّان، من يملكون القدرة على تأسيس اتّجاه أو دعوة فنية، أو رسم مسار جمالي غير مطروق، أو غير مستنفد، أقلّه، ورفده - وهذا هو الأهم- بطاقة لغوية وقدرة إبداعية هائلة، كتلك التي يمتلكها الشاعر الإماراتي عادل خزام. إذاً، صدرت للشاعر الإماراتي عادل خزام، مجموعة شعرية جديدة بعنوان "الربيع العاري" (2019) عن دار المتوسط، إيطاليا، تُضاف إلى مجموعات شعرية عدّة من مثل: "تحت لساني" (1993) والوريث (1997) و"السعال الذي يتبع الضّحك" (2006)، وروايتان بعنوان "الظلّ الأبيض" (2013) و"الحياة بعين ثالثة" (2014)، وغيرها من الدراسات في الفنّ التشكيلي وترجمات.
في وصفه لقصيدة النثر وتعيينه قواعد انتظامها، يقول مايكل ريفّاتيرّ: "تُحدّد القصيدة بالتعارض مع القصائد المتعارف عليها، ليس لأنها نثرية، وإنما لأنها غير منظومة، وغير ذات إيقاع، ومن دون قواف..." . وفي وصفها الثورة التي أحدثها الشعر الفرنسي الحديث، وكلّ شعر ثائر على تقاليد مجتمعه ولغته، تقول جوليا كريستيفا، بما معناه إنّها "مجموع العلاقات اللاواعية والذاتية في وضعية الهجوم، والتدمير والبناء، والعنف الإيجابي...". ولو أضفنا إلى هذين التعريفين العامين لقصيدة النثر التي ينتمي شعر خزام إليها، أنّ فيه توازنات وفيه صوراً وخيوط أنواع غير الشعر، وفيه خطاباً عميقاً، لا يتكشّف إلّا للقارئ الدّرب، لخلصنا إلى نتيجة مفادها بأنّ مجموعة عادل خزام، تنطوي فعلاً على الأبعاد المُشار إليها أعلاه، وأنها كناية عن نهر هادر بالكلمات والصور والمشاهد والبنى والتراكيب والاستراتيجيات والإيقاعات الخافية وتلك الظاهرة، وأنها تجسّد ثورة قائلها، أي خطابه الثائر على الثبات والجمود والذكورية المفرطة والظلم ، وكلّ ما يضادّ الحرّية، وعلى العقم وانعدام المعنى وعلى الأمّية وغيرها مَمّا يستوجب الوقوف عنده، مع الإشارة إلى الكيفية الخاصة التي قيل فيها ودلالاتها الممكنة.
كائنات وأشياء
طبعاً، يعالج شعر عادل خزام، أعني نشيده الطويل، "الربيع العاري" (ص:9-75)، وقصائد النثر المعنونة "العتبات الصوفية فوق ممشى العدم" (ص: 77-129) مواضيع كثيرة ومتشعّبة ومتوالدة بعضها من بعض، في أسلوب يقرب أن يكون سوريالياً مضبوطاً، ورمزياً رغماً عنه، ما دام الشاعر يمحّض الكائنات والأشياء والأمكنة والشخوص المحمولة في شعره، التي تؤثّث عالمه الشعري، ظلّاً أو توشيحاً من رؤيته وخطابه الميّال إلى السوداوية، من دون التنكّر لوجود ذاتية نعيمية، مصدرها الأنثى الحبيبة. ولو عدّدنا، على سبيل المثال، الأشخاص، في المشهد الأول من النشيد القاتم في "الربيع العاري"- الذي يستدلّ القارىء على نهايته في علامة النجوم الثلاثة المطبعية، لوجدنا الآتي: شاعر القرية وطبيب البلاد وامرأة بكماء وانتحاريين وصغارنا والزهّاد وساسة، وهم في قلق دائم على مصيرهم، و"رؤوس فارغة تناحر بعضها/ وتراقب نهرَ الدم يجري صامتاً"، في ما يوحي بأنّ خطاب الكراهية المجانية سائد في المكان، وبأنّه مقابل الشخوص ذوات الدور المعدوم، ثمة كائنات غير إنسية، من مثل: البحر والسماء والأرض والجمَل والحمام وطفل وطفلة، تحمل جميعها في ذواتها عوامل العدم (الرماد) والفساد والقتل لما قبيل "القيامة".
بل يمكن القول إنّ القصد الأعظم للشاعر خزام في تغريبته الطويلة، التي سميتُها القصيدة الطويلة – وهي تشكّل القسم الأول من المجموعة الشعرية بعنوان "الربيع العاري"- هو تعميم الحالات السلبية التي تترصّدها عينه الثالثة - بالإذن من جبران خليل جبران- عين الرؤية العميقة، إذ يتمثّل الربيع العربي في تجلّياته ومظاهره السلبية الحاملة عوامل الفساد والنقصان والشقاق والعدوانية، جاعلاً لذاته، أو لصوته الصادح دور الكاشف عن مكامن الضوء والأمل، في الظلمة الموصوفة الحالكة، لمَن يحتاجون إليهما: "لا توقظيني أيتها الإبرةُ/ استكنْ، كنْ في مكانك، أيها الدبّوسُ/ سأظلّ أنفخُ بالونةَ الوردِ لأطفالِ الأمل/ أعطي للكلبِ مسطرتي، وقد صارت عظمةً صفراء/ أمنحُ الرّواةَ لعابَ أقلامي، كي يكملوا سردَ النميمة/ وإذا سألتِ النّجمةُ أينَ اختفى ظلُّها على الماء؟/ سأفتحُ لها فمي/ ناطقاً باسمِ الجفافِ الذي تفرّعَ في الوديانِ/ باسم المذاهبِ التي تتصارعُ على المذهبِ المغشوشِ/ كلّ الجماعةِ فردٌ/ والفردُ مفتاحٌ ضائعٌ، وضيّعناهُ/ والبابُ جدارٌ مخلوعٌ..." (ص:32)
ولمَن شاء المزيد في ما خصّ عالم الشاعر خزام، فإنّه ينطوي على خطاب ضمني يطاول نظرته إلى العالم واستحالة تغييره ومكانة المرأة الحبيبة الخلاصية وشيوع الفساد في السياسة والإعلام والجماعات وغيرها: "لا... لن يتغيّرَ العالمُ، حتّى لو جثتِ العاصفةُ على ركبتيْها/ حتّى لو استسلمَ الشّرُّ، وأخصيْنا حَلَماتِه/ وما لم نحرقِ القواميسَ، لن تتجدّدَ نعمةُ النارِ/ وما لم نعلّقِ الأكفانَ أشرعةً، لنْ نسبرَ فصاحةَ الموتِ " (ص:41)
وفي مقابل عالم مغلق، ومستَلَب وآيل إلى خراب، ترتفع الحبيبة مباركةً وسط أجواء طفولية ذات براءة أولى، أشبه ببراءة الخلق و"أوسع من فلك": "هذا لأننا نؤمنُ بعودة الشمس تشرق من مرايا قلوبنا/ لعلّ سهم الصواب يصيبُ الخطأ/ ولعلّ النهاية
تفكّ أزرارَ نهديْها، كي تبدأ القيامةُ من جديد.../ وعينا حبيبتي أوسع من فلَكٍ/ ومعطفُ القصيدة/ أطولُ من رجالٍ كانوا يصدّونَ خُطايَ..." (ص:73)
صور ومجانسات
ولئن صحّ أنّ الشاعر في قصيدته الطويلة، الخليط بين الغنائية والخطابية المضمرة، كان يسعى إلى توليف بيان، أو مانيفستو، يعلن فيه الشاعر خطوط أسلوبه الكبرى، في احتشاد من الصور والتراكيب والمجانسات واستراتيجية التداعي المتواترة الحضور، على نحو عزّ نظيره لدى شعراء جيله، فإنّه قصد إلى إبراز رؤيته القاتمة للربيع (العربي) العاري، يمكن تبيّنها بتأنٍّ في خطاب الشاعر الماثل تحت سطح الكلام الشعري.
أما القسم الثاني من المجموعة الشعرية وعنوانه "العتباتُ الصّوفية فوقَ ممشى العدم" (ص:77-129) الذي يستعير عناوين من الفكر الصوفي، مثل النفّري والحلّاج، فقد خصّه الشاعر بعدد من "العتبات" من حيث يطلّ على مواضيع فرعية لم تتسنَّ له معالجتها في ما سبق. ولدى القراءة المتأنية يمكن القول إنّ كلّ عتبة أو قصيدة نثر، قصرها الشاعر على ثيمة أو فكرة تفصيلية مثل: العدل والطلاق ورجل الدين والكذّاب والعبودية والشاعر والهوية الملتبسة وغيرها.
والشيّق في أمر الأسلوب فيها أنّ الشاعر، إذ يمضي على خطى بودلير في كتابته قصائد النثر الوجيزة، ولوتريامون في "أناشيد مالدورور" وغيرهما، ويصوغ كلّاً منها على شكل مقطع كبير ومتراصّ، فإنّه لا يتوانى عن رفدها بقدر من الإيقاع التفعيلي الذي لا يحسن القارىء المتسرّع التقاطه، ما دام غير متواتر وغير محسوب مطبعياً، والبنية هي مقطع نثري.
"العارُ نصفُ العارِ أنْ تقولَ حبيبتي: لنْ أجيء. ونصفُهُ الثاني أنْ تزلّ قدَمايَ في الكمَدِ. وأنا الذي فرشْتُ سريرَ ليلتِنا بلبلابٍ، وسقيتُ إسفلتَ المسافةِ بشمعٍ ذائبِ..." (ص:92)
ثمّ، يعود الشاعر ليذكّر بالإيقاع الخارجي، لدى كلّ قفلة من قفلات القصائد، فيجعلها في بيتين، أو سطرين متوازيين، ينتهيان بقافية أو رويّ يتجاوب مع قافية ختام المقطع، قبلهما... وعلى هذا النحو، من تفلّت كامل من قواعد النظم والتراكيب والصور البيانية والجرأة على توليد العبارات والتجنيس المبتكر، إلى الاستعانة بشيء من الجرس وتوقيع الكلام النثري في قالب ذي إيقاع نظمي غير خليلي، يترجّح أسلوب الشاعر عادل خزام ويتوسّع ويزداد عمقاً، من دون أن يسفّ أو يخفّ. حسبه أنه صاغ رؤيته، عن "ربيع عار"، عرفه وخبره بما ملكه من طاقات القول والابتكار والعرض. وما على القرّاء سوى الأخذ بها أو ردّها. وقد تكون له، في الآتي من الأيام، رؤى أخرى وتجارب جديدة.