Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الخطاب السياسي والغوغائية

صُممت هذه اللغة للدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه

انتهج ترمب أسلوب المناشدة بالعاطفة للخروج من مواقف حرجة خصوصاً قبل الاستحقاقات الانتخابية (غيتي)

تشكل اللغة أساس العملية التواصلية بين البشر، نحن نستخدمها إما للتخاطب بصورة تلقائية بهدف إيصال معنى محدد وواضح لتحقيق غاية التواصل الفعال والمنتج، أو بصورة أكثر دقة وتنظيماً من خلال الخطاب الذي يصمم مسبقاً بهدف التأثير والإقناع ودفع المتلقي إلى تعديل وجهة نظره بناء على ما يخبره المتحدث والطريقة التي يخبره بها، اعتماداً على ما يسمى البلاغة التي غالباً ما تستخدم لإثارة استجابات عاطفية لدى الجمهور، والمثال الأشهر في هذا السياق، هو خطاب مارتن لوثر كينغ، "لديّ حلم بأنه ذات يوم على تلال جورجيا الحمراء سيتمكن أبناء العبيد السابقين وأبناء أسياد العبيد السابقين من الجلوس معاً على طاولة الإخاء، لديّ حلم بأنه في يوم ما سيعيش أطفالي الأربعة في دولة لا يُحكم فيها على الفرد من لون بشرته، إنما من صفاته وأفعاله".

الخطابة والبلاغة

عرّف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو "الخطاب"، وهو أول من حدد تكوينه وبنيته، على أنه "منظومة فكرية تُكوّنها مجموعة آراء ومواقف واتجاهات عمل ومعتقدات وممارسات، تبني أو تنظم منهجياً الموضوعات والشؤون الحياتية".

وإذا ما أردنا معرفة المرتكزات الأساسية للخطاب المقنع، الذي يُكسب التواصل قدراً جيداً من الصدقية والقوة والتأثير، سنجد الفيلسوف اليوناني أرسطو قد حددها بدقة في مثلثه البلاغي الذي يمثل بناء الثقة "Ethos" أحد مرتكزاته، إذ يركز هنا على المتحدث والطريقة التي يؤثر بها في جداله من خلال خلق صدقية وقوة مقنعة، تُمكّن الجمهور من اكتشاف شخصيته ودوافعه ومعتقداته وقيمه، والمرتكز الثاني مناشدة العاطفة "Pathos"، في هذه الحالة يوضع الجمهور في الاعتبار أثناء التخطيط للخطاب بدءاً من اختيار المفردات والمصطلحات وصولاً إلى العاطفة التي يراد إثارتها واستغلالها من خلال الحكايات وربما الفكاهة والقصص الشعبية، أما الثالث هو اعتماد المنطق "Logos" الذي يحاول المتحدث من خلاله إيجاد أفضل قناة اتصال تمكّنه من إيصال رسائل تجذب عقل المتلقي وتناشد ذكاءه، اعتماداً على أفكار مبنية بشكل جيد ونقاش واضح (التركيز هنا على السياق)، لأن الجمهور في هذه الحالة سيبحث عن الحجج المبيّنة والأدلة والادعاءات وسيفكر في الحجج المضادة المحتملة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن أكثر الاستخدامات الشائعة للخطابات هي تلك التي نراها في السياسة، لكن السياسي يحاول استثمار تعدّد معاني اللغة وقوة استعاراتها بشكل مختلف، من خلال عملية فصل مدروس للكلمات عن معناها لإحداث فجوة بين الأهداف المعلنة والأخرى المضمرة، "لقد صُمّمت لجعل الكذب يبدو صادقاً والقتل مشرّفاً، وللدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه"، لهذا الهدف يلخّص الكاتب البريطاني جورج أورويل السبب الذي أوجدت من أجله "اللغة السياسية".

الخطاب السياسي

وقد تحدث أورويل منذ العام 1949 في مقاله (Politics and the English language) عن الأسلوب الفضفاض واللغة الركيكة المشحونة بالمصطلحات التخصّصية والتعابير المجازية المستخدمة في اللغة السياسية، بالإضافة إلى استخدام أسلوب المقاطع المطوّلة التي تفتقر إلى المعنى بصورة كاملة.

كما تُستغل ألفاظ ذات دلالات سياسية متعدّدة لتستخدم بشكل مغلوط بغرض التلاعب، فكلمة مثل "الفاشية" لا معنى لها اليوم أكثر من إشارتها إلى شيء مرفوض أو غير مستحب، وكذلك كلمات مثل الديمقراطية والاشتراكية والحرية والوطنية والعدالة والمساواة وغيرها، هي مفاهيم يحمل كل واحدة منها معاني عدة لا يمكن أن تتماشى مع بعضها، أي أنه لا يوجد تعريف متفق عليه، حتى أن محاولة الاتفاق تُقابل بمقاومة كبيرة من قبل جميع الجهات، لتظل هناك إمكانية لتوظيف المصطلحات ذات المعاني المتعددة "المتنازع عليها" في سياقات مختلفة هدفها خداع المتلقّي والتحايل على المعنى.

أما الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي فيرى أن كل مصطلح في الخطاب السياسي له معنيان، أحدهما حرفيّ والآخر غالباً ما يكون مختلفاً عنه تماماً، فالشيوعية كمبدأ تمثل في معناها الحرفيّ سيطرة العمال على الإنتاج وتركّز على دور المجتمع في صنع القرار، لكن ما يطبّق عكس ذلك تماماً، كما أن الديمقراطية "كمفهوم" تفترض مشاركة غالبية الشعب في الحكم "حكم الشعب"، لكن الحقيقة أن 70 في المئة من السكان ليس لها أي تأثير في السياسة.

اللغة الخشبية

في السياق ذاته، يُطلق على الخطاب النمطي الذي يكتنفه الغموض، ويهدف في مضمونه إلى حرف الانتباه عن القضايا البارزة، وصف "اللغة الخشبية"، وقد حدّدت الأكاديمية الفرنسية "فرانسوا توم" أربع صفات مميّزة لها، التجريد والغموض، وتجنب الوقائع، والتكرار والحشو، والتعابير والمجازات الرديئة والميل إلى تقسيم العالم إلى الخير والشر.

واستخدمت العبارة الفرنسية  "langue de bois"على نطاق واسع خلال سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، وارتبطت بقوة بالسياسيين، خصوصاً خريجي النخبة "المدرسة الوطنية للإدارة" من كبار المسؤولين الفرنسيين، بمن فيهم الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، الذين يُتهمون باستخدام لغة اصطلاحية ومصطلحات مبهمة، إذ يقول المفكر الفرنسي ميشال بوتور "لقد كان من بين مصائب فرنسا، قيام الجنرال ديغول بإنشاء" المدرسة الوطنية للإدارة "التي تحتكر تدريب السياسيين، فهم يذهبون إلى هناك لتعلم "اللغة الخشبية".

كما وصفها المؤرخ الإنجليزي وأستاذ التاريخ البريطاني المعاصر بيتر هينيسي بأنها "كلام فارغ مُحمّل بعبارات منمقة".

الأسلوب الرنان

ويذكر أورويل أساليب لغوية عدة يتبعها المتحدثون، بدءاً من تغليف الآراء المنحازة بطابع علمي كإقحام كلمات معينة توحي بالحيادية، مثل (فعّال، حاسم، واقعي، أولي)، إلى استخدام المبالغات والأوصاف الملفتة لتعظيم نهج دنيء متبع في السياسات الدولية مثل (عهد جديد، بطولي، تاريخي، لا ينسى، مكلل بالنصر، لا يقهر، لا مفرّ منه)، وكذلك كلمات تضفي طابع العظمة وقِدم العهد على الحروب (مملكة، عرش، عربة، أهازيج، رايات)، أو استخدام كلمات أجنبية دخيلة مُستقاة من لغات أخرى، لغاية مواكبة الحضارات وعكس مناخ ثقافي متنوع.

وهنا لا بدّ أن نمرّ سريعاً على خطابات الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فله حصة الأسد في استثمار أساليب اللغة الطنانة ومهارات التلاعب اللغوي، فبحسب صحيفة واشنطن بوست، قدم ترمب حوالى 2140 ادعاء زائفاً أو مضللاً خلال عامه الأول فقط، بمتوسط 5.9 يومياً، ووصل بحسب آخر تحديث 29 أيار(مايو) 2020 إلى 19128 ادعاء كان آخرها "كان لدينا أكبر اقتصاد ليس فقط في تاريخ أي بلد أو في تاريخ بلدنا، بل كان الأعظم في تاريخ العالم"، إضافة إلى انتهاجه أسلوب المناشدة بالعاطفة للخروج من مواقف دقيقة وحرجة، خصوصاً قبل الاستحقاقات الانتخابية، الأمثلة كثيرة آخرها استعانته بالكتاب المقدس أمام كنيسة القديس يوحنا في واشنطن بعد حادثة مينيابوليس، في محاولة لاستمالة المتدينين وجذب عواطفهم واستهداف قيمهم الأساسية للتأثير في قراراتهم، الحركة التي سبقه عليها سياسيون آخرون في العالم العربي.

 وأخيراً، هناك نكتة أميركية قديمة تقول "كيف يمكنك معرفة ما إذا كان السياسي يكذب؟" الجواب "شفتاه تتحركان".

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل