يوم الثلاثاء الماضي، عقد البروفيسور بيتر هوربي، أستاذ الأمراض المعدية الناشئة في جامعة أكسفورد ورئيس فريق الباحثين فيها، مؤتمراً صحافياً أعلن خلاله تحقيق طفرة في علاج مرضى فيروس كورونا المستجد، بعدما أثبتت التجارب السريرية التي أجراها فريقه قدرة عقار يدعى "ديكساميثازون/ ستيرويد" على تحسين فرص إنقاذ حياة المرضى المصابين بأعراض شديدة بالفيروس.
وأوضح هوربي أن "ديكساميثازون/ ستيرويد" سيصبح من الآن فصاعداً معياراً للرعاية الصحية في مواجهة الجائحة، إذ يمكن استخدامه على الفور لإنقاذ الأرواح في جميع أنحاء العالم، ذلك أنه لا يتكلف أكثر من خمسة جنيهات إسترلينية (6.17 دولار أميركي) للمريض الواحد خلال مدة العلاج التي تمتد إلى عشرة أيام.
تجارب هوربي وفريقه من باحثي جامعة أكسفورد، حملت الاسم الرمزي "ريكوفيري"، واشتملت على زهاء 6400 شخص مصاب بفيروس كورونا، وخلصت نتائجها إلى أن منشطاً يدعى "ديكساميثازون" يمكن له أن يجنب وفاة المرضى الموضوعين على أجهزة التنفس الصناعي بنسبة الثلث، وتقليل نسبة وفاة المرضى الذين يحصلون على الأوكسجين بنسبة الخُمس. وللتدليل على أهمية هذه الأرقام، قدّر الباحثون أنه لو استخدم "ديكساميثازون" لعلاج مرضى المملكة المتحدة منذ بداية انتشار فيروس كورونا لأمكنه إنقاذ حياة ما يصل إلى 5 آلاف شخص.
عقار رخيص استُخدِم منذ الخمسينيات من القرن الماضي لعلاج الحيوانات، قد يُشكِّل حلقة جديدة في معركة البشرية ضد الجائحة القاتلة، بمساعدته في إنقاذ حياة مرضى الحالات الحرجة للمصابين بفيروس كورونا المستجد
عقار لفئة محدودة
كما بات معلوماً، يتعافى زهاء 19 مريضاً من بين كل عشرين مصاباً بفيروس كورونا المستجد من دون حاجة إلى دخول مستشفى، فيما يشفى معظم الذين يدخلون المستشفى للعلاج. لكن جزءاً مهماً من الفئة الأخيرة يحتاج إلى جرعات من الأوكسجين أو إلى مساعدة جهاز تنفس صناعي للبقاء على قيد الحياة. ويستطيع عقار "ديكساميثازون" مساعدة الفئة الأكثر عرضة لخطر الوفاة، ذلك أنه يعمل على وقف الأضرار التي يتسبب في حدوثها جهاز المناعة حين يحاول مقاومة الفيروس ويُبالغ في رد فعله.
في إطار تجربة "ريكوفيري"، تناول 2100 مريض كانوا يعالجون داخل المستشفيات عقار "ديكساميثازون". وقورنت حالة هؤلاء مع 4300 مريض آخر تم إعطاؤهم الرعاية القياسية العادية التي تتضمن مسكنات الألم وفي بعض الحالات، المضادات الحيوية. وكانت النتيجة أن العقار أنقذ حياة ما بين 28 إلى 40 في المئة من المرضى الموصولين بأجهزة تنفس صناعي، وما بين 20 إلى 25 في المئة من المرضى الذين كانوا يحتاجون إلى الأوكسجين. وتتواصل حتى الساعة تجربة "ريكوفيري" على أكثر من 11500 مريض يعانون أعراض كورونا داخل 170 مستشفى يتبع هيئة الخدمات الصحية البريطانية، لتكون بذلك أكبر تجربة سريرية في العالم لاختبار عقار موجود بالفعل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كيف يعمل "ديكساميثازون"؟
عقار "ديكساميثازون/ ستيرويد" نوع من المنشطات المضادة للالتهابات، يُستخدم لعلاج مجموعة واسعة من الحالات الصحية ويتم إعطاؤه عن طريق الحقن أو الأقراص مرة واحدة يومياً، ويُباع تحت أسماء تجارية متعددة. يقلّل هذا المنشّط التهابات الرئتين لدى المصابين بأعراض كورونا الشديدة التي تنتج جراء رد الفعل المفرط لجهاز الجسم المناعي. ويُعتقد أن واحداً من كل 10 مرضى مصابين بفيروس كورونا، يعاني من هذه الأعراض الشديدة، المعروفة باسم "متلازمة الضائقة التنفسية الحادة"؛ إذ يحفز الجسم الخلايا المناعية على مهاجمة خلايا الرئتين السليمة، ما يجعل التنفس صعباً، ليبدأ رحلة كفاح مضنية للحصول على ما يكفي من الأوكسجين لتغذية أعضائه الحيوية. هنا يأتي دور "ديكساميثازون" الذي يكبح إطلاق المواد التي تسبب الالتهاب في الجسم، بالتالي وقف التهاب الرئتين.
تم تصنيع منشط "ديكساميثازون" للمرة الأولى عام 1957، وتمت الموافقة عليه للاستخدام الطبي في عام 1961. بداية استخدامه كانت لعلاج الحالات التي تسبب الالتهاب وتلك المتعلقة بنشاط جهاز المناعة. وقد استُخدِم على نطاق واسع لتعويض نقص الهرمون في حالات: رد الفعل التحسسي والتهاب المفاصل الروماتويدي والصدفية والأكزيما والذئبة والتهاب القولون التقرحي والتصلب المتعدد، وكذلك للحد من الالتهابات والآثار الجانبية لحالات العلاج الكيميائي الناتجة عن أدوية السرطان.
ومنشط "ديكساميثازون" هو مركب صناعي أقوى 25 مرة من مضادات الالتهاب الأخرى التي تتولد بشكل طبيعي. وتعد المنشطات القشرية مثل "ديكساميثازون" مهمة في البروتين الطبيعي والكربوهيدرات والتمثيل الغذائي للدهون، لذا فقد استخدم "ديكساميثازون" بشكل شائع في الطب البيطري للحيوانات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، من مثل القطط والكلاب والخيل، وهو غالباً ما يُعطى لأجسامها العليلة بوصفه مضاداً للتشنجات العضلية أو علاجاً للحساسية الموسمية أو المزمنة. ومنذ سبعينيات القرن الماضي، شاع استخدام "ديكساميثازون" لغرض إنقاص الوزن وحرق الدهون. وكان لاعبو كمال الأجسام يتناولونه غالباً رغبة في الحصول على قوام مثالي خالٍ من الدهون خلال وقت قصير، أو بغرض تضخيم حجم عضلاتهم من دون المرور بطريق التغذية الكافية.
الحذر مطلوب
رغم الضجة الكبيرة المثارة حول منشط "ديكساميثازون" وقدرته على تحجيم وفيات فيروس كورونا، فإن العديد من الباحثين يشدّدون على ضرورة توخي الحذر بشأن نتائج دراسة أكسفورد الجديدة. فمع اندفاع العلماء لتحديد علاجات ناجعة للفيروس التاجي حول العالم، تضاربت الكثير من المعلومات والنتائج وجرى التراجع عن بعض الاستنتاجات الطبية البارزة في الأشهر الأخيرة.
وعلى سبيل المثال سحبت "إدارة الغذاء والدواء" الأميركية يوم الإثنين الماضي، ترخيص استخدام الطوارئ لعقار "هيدروكسي كلوروكوين"، الذي أشاد به الرئيس الأميركي دونالد ترامب بوصفه علاجاً فعالاً لفيروس كورونا. وفي وقت سابق من هذا الشهر سحبت دوريتا "نيو إنغلاند جورنال أوف ميدسين" و"ذي لانسيت" الدراسات الرئيسة لبعض العقاقير بسبب بياناتها المعيبة. ويشدد الباحثون على أن عقار "ديكساميثازون" قد يمثل بالفعل اختراقاً كبيراً، لكنهم يتريثون ريثما تُنشر بياناته بشكل كامل لتتم مراجعتها من قبل الأقران العلميين. ويبدو أن مستشفيات الولايات المتحدة تنتظر مراجعة دراسة أكسفورد الكاملة قبل إجراء أي تغيير في بروتوكولات علاجها الحالية.
ويرغب الباحثون تحديداً في معرفة المزيد من المعلومات حول الآثار الجانبية للعقار، فمن المعروف أن "ديكساميثازون" يسبب عدداً من الآثار الجانبية الخفيفة إلى المعتدلة، بما في ذلك القيء وحرقة المعدة والقلق وارتفاع ضغط الدم وضعف العضلات والأرق. وتقول دارسات موثقة إن تناول كميات وفيرة من منشط "ديكساميثازون" على المدى البعيد، تُحدِث مجموعة من التغيرات داخل الدماغ من شأنها التأثير في الناقلات العصبية، التي تلعب دوراً كبيراً في نقل المشاعر والأحاسيس، خصوصاً الإشارات الحسية، من الدماغ إلى أعضاء الجسم والعكس. وتؤثر هذه التغيرات بشكل مباشر في مزاج الشخص وسلوكه فضلاً عن إحداث مجموعة من الأضرار الأخرى على المدى البعيد.
ويقول الباحثون إن "ديكساميثازون" لا يساعد مرضى كورونا الذين يعانون أعراضاً خفيفة. مع ذلك، فقد أصبح في جعبة "الجيش الأبيض" سلاحٌ ثانٍ في معركته ضد الجائحة التاجية، إلى جانب دواء "ريمديسفير" الذي تم إعادة هندسته كيميائياً الشهر الماضي. في انتظار اللقاح القاتل - الحاسم للفيروس المتوقع ظهوره أوائل العام المقبل.