تحل اليوم ذكرى إصدار الحكم بالسجن مدى الحياة على المناضل الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، لتتقاطع مع لحظة مروعة من التاريخ تقض مضاجع الأميركيين ذوي الأصول الإفريقية، مع استمرار الاحتجاجات في جميع أنحاء الولايات المتحدة وتصاعد أحداثها، رداً على مقتل جورج فلويد على أيدي رجال شرطة مينيابوليس.
ولد نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا عام 1918. توفي والده وهو بعدُ صغير، لكن ذلك لم يمنعه من تحدي العقبات التي ما فتئت تظهر أمام متابعة دراسته، ليتخرج في الجامعة حاملاً شهادة في القانون عام 1942. خلال فترة دراسته الجامعية ازداد وعي مانديلا بالظلم، وعدم المساواة الذي يواجهه أبناء جلدته من قبل البيض. فقد كانت جنوب إفريقيا آنذاك تخضع لحكم يرتكز إلى التمييز العنصري الشامل؛ إذ لم يكن يحق لأصحاب البشرة السمراء الانتخاب، أو المشاركة في الحياة السياسية، أو إدارة شؤون البلاد. في المقابل كان يحق لحكومة الأقلية البيضاء أن تجرد السود من ممتلكاتهم، ونقلهم من مقاطعة إلى أخرى، مع كل ما يعنيه ذلك من انتهاك لحق العيش بكرامة على أرض الآباء والأجداد.
بداية الكفاح المسلح
دخل مانديلا معترك المعارضة السياسية لنظام الحكم العنصري في جنوب إفريقيا عام 1943، بعدما انضم إلى "المؤتمر الوطني الإفريقي"، المنظمة التي حملت لواء الدفاع عن حقوق الأغلبية السوداء في البلاد. وقد استطاع الترويج لقضيته بشكل واسع بفضل درايته بالقانون. في عام 1948، فاز "الحزب القومي" المتشدد في الانتخابات العامة، فبدأ في تنفيذ مخططه الرامي إلى إقرار تشريعات عنصرية ضد السود داخل مؤسسات الدولة. في تلك الفترة كان مانديلا قد أصبح قائداً لحملات المعارضة السلمية ضد النظام العنصري.
في عام 1956 تم القبض على مانديلا بتهمة الخيانة، وبعد محاكمة طويلة تمت تبرئته، ليُطلَق سراحه عام 1961، وهو العام نفسه الذي حظرت فيه الحكومة العنصرية البيضاء "المؤتمر الوطني الإفريقي". لذا قرر مانديلا، بمعية زعماء المؤتمر، تبني خيار الكفاح المسلح ضد النظام العنصري، فأطلق حرب عصابات ضد النظام العنصري الحاكم. وفي عام 1963 ألقي القبض على مانديلا مرة أخرى، وحوكم بتهمة الخيانة، وتلقى حكماً بالسجن مدى الحياة. لكن محاكمته التي فضحت بشاعة نظام الفصل العنصري الظالم، حظيت باهتمام المجتمع الدولي وسلطت الأضواء على مأساة الأفارقة في بلادهم.
خلال سنوات سجنه السبع والعشرين، أصبحت المطالبة بتحرير مانديلا من السجن رمزاً لرفض سياسة التمييز العنصري. ومع تصاعد الضغوط العسكرية والدبلوماسية في عام 1985، عرضت السلطات العنصرية إطلاق سراحه مقابل تبنيه وقف المقاومة المسلحة، إلا أنه رفض العرض، وبقي في معتقله حتى 11 فبراير (شباط) 1990، عندما أثمرت جهود "المؤتمر الوطني الإفريقي"، والضغوط الدولية عن إطلاق سراحه بأمر من رئيس الجمهورية آنذاك فريدريك دي كليرك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كلمة السر: التسامح
شغل مانديلا منصب رئيس "المؤتمر الوطني الإفريقي" بين عامي 1991 و1997، وأصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا من مايو (أيار) 1994 إلى يونيو (حزيران) 1999. خلال فترة حكمه شهدت جنوب إفريقيا انتقالاً سلمياً سلساً من حكم الأقلية إلى حكم الأغلبية. كانت دولة العنصريين البيض في جنوب إفريقيا أحد المعاقل الأخيرة التي أفرزتها حركة الاستعمار الأوروبي الاستيطانية في أنحاء العالم، ولم يكن النضال المحلي في جنوب إفريقيا ضد الحكم العنصري مقتصراً على مقاومة ما تتعرض له غالبية السكان من اضطهاد فحسب، بل كان أيضاً نضالاً ضد الازدواجية، وممارسة الاستبداد في النظام السياسي العالمي الناتج من الحرب العالمية الثانية، وضد الاستعباد الذي يمثل أقصى ما وصل إليه الاستغلال المادي باسم النهضة الاقتصادية العالمية الحديثة.
مع إطلاق سراح مانديلا على أساس التفاهمات التي توصل إليها مع دي كليرك، لم تشهد جنوب إفريقيا نهر الدماء الذي كان العنصريون البيض يهددون به، كما لم تشهد البلاد الانتقام الجماعي من جانب مئات آلاف ضحايا الحكم العنصري من السود. إذ لم يكن "التسامح" الذي دعا إليه مانديلا مجرد شعار مؤقّت، بل كان منهجاً ثابتاً. استطاع مانديلا من خلال زعامته الشعبية أن يحد من رغبة الانتقام التي كان يمكن فهم أسبابها لو انتقلت إلى أرض الواقع، رغم الكشف لاحقاً عن حجم الفظاعات المرتكبة خلال عقود، التي وردت في تقرير "لجنة الحقيقة والمصالحة"؛ ومن ذلك، تجارب إبادة السود التي أجريت في مختبرات كيميائية، وحيوية، واستخدام السموم على نطاق واسع في الأغذية والأدوية، واللجوء إلى مواد تحد من نسل السود، بل حتى التفكير باستخدام القنابل النووية لإبادتهم.
أقوى من سجانيه
على خلاف عدد كبير من حكّام العالم، لم يخرج مانديلا من السجن من أجل ممارسة العنف ردّاً على الذين حرموه الحرية، رغم أن الأعوام السبعة والعشرون في السجن كانت كافية لتدمير أي شخص. تكمن أهمية مانديلا في أنّه كان أقوى من السجن والسجّان. لكنّ الأهمّ من ذلك كله، أن مانديلا علم أن مستقبل بلده مرتبط بالتسامي على الظلم، والابتعاد عن تصفية الحسابات والثأر، وأن المصالحة الوطنية هي مستقبل جنوب إفريقيا. كان همّه محصوراً في التخلّص من العنصرية، وليس من مجتمع جنوب إفريقيا المتنوع. أدرك الرجل باكراً أن ثروة بلاده تكمن في تنوعها؛ في السود كما في البيض، في المسلمين كما في المسيحيين، لقد صنع استقلال بلاده الثاني مع رجل أبيض يدعى دي كليرك.
كان لدى دي كليرك حسّ إنساني عميق كذلك، إضافة إلى بعد نظره. كان يعرف أنّ لا مستقبل للبلد في حال ظل مرتبطاً بالعنصرية، وأنه لابدّ من كسر حلقة التمييز العنصري المفرغة. لذلك، أقدم على المصالحة التاريخية مع الأكثرية السوداء، وأحسن اختيار الرجل القادر على القيام بهذه المصالحة التي تعطي كل ذي حق حقّه. كان مانديلا الشخص المؤهل لهذه المهمّة التاريخية التي مكّنت جنوب إفريقيا من المحافظة على تماسك مجتمعها وقوّة اقتصادها. تكمن عبقرية مانديلا في المحافظة على تنوّع المجتمع بعيداً عن العنصرية. لذلك تفوّق على الآخرين ودخل التاريخ من أبوابه الواسعة وصار استثنائياً.
الرياضة في خدمة الوحدة
لا تكاد تخلو مناسبة من دون أن يستغلها مانديلا أحسن استغلال، في سبيل أن يظهر لمن حوله معنى التنوّع، وأهمية المحافظة عليه في المجتمع. في عام 1995 فاز منتخب جنوب إفريقيا للرجبي ببطولة العالم على حساب نيوزيلندا تحت أنظار مانديلا، الذي كان يرتدي قميص قائد المنتخب فرانسوا بينار وعليه رقم 46664 الذي حمله في السجن خلال فترة التمييز العنصري. بعد المباراة، قدّم مانديلا كأس البطولة بنفسه لبينار، ليتلقف السود الرسالة، ويبدأوا بعدها في الانجذاب لرياضة الرجبي التي كانوا يمقتونها لأنها كانت محرمة عليهم لسنوات طويلة كانت خلالها حكراً على البيض فقط. بعد عام واحد فقط من انتزاع بطولة العالم للرجبي، استضافت البلاد بطولة الأمم الإفريقية لكرة القدم، ليفاجئ مانديلا الجميع بارتداء قميص اللاعب الأبيض نيل توفي، قائد المنتخب آنذاك خلال المباراة النهائية التي فازت بها جنوب إفريقيا على تونس، في مشهد آخر من المشاهد التي استغلها الزعيم الكبير للخروج من الرياضة بشعار "شعب واحد". ليطلق بعدها مقولته التي ترددت أصداؤها في ربوع البلاد: "كرة القدم والرجبي، وغيرها من الرياضات تمتلك القدرة على تضميد الجراح".
بعد تنحيه عن الرئاسة عام 1999، تابع مانديلا تحركه مع الجمعيات، والحركات المنادية بحقوق الإنسان حول العالم. وتلقى التكريم إثر التكريم من رؤساء وزعماء دول العالم. وكانت له كذلك آراء مثيرة للجدل في الغرب، مثل رأيه في القضية الفلسطينية، ومعارضته للسياسات الخارجية للرئيس الأميركي جورج بوش، وغيرها. وفي يونيو 2004 قرر مانديلا التقاعد وهجر الحياة العامة، مفضلاً قضاء ما تبقى من عمره بين عائلته، قبل أن يتوفى عام 2013.
ينتمي مانديلا إلى طينة مختلفة من الرجال. كان رجلاً صادقاً خلّص مواطنيه من العنصرية، وحذرهم من ممارستها. رفض الإقصاء، وكلّ ما له علاقة بالتمييز. كان عنواناً للتحرير الثاني للعبيد في بلد لا مستقبل فيه للبيض من دون السود، ولا مستقبل للسود من دون البيض بغض النظر عن الدين، والطبقة، والعرق. وفيما نحن نشاهد اليوم هبات أبناء إفريقيا من الأميركيين في وجه الظلم وآلياته، فإننا نستذكر الحاجة الملحة لاستلهام روح مانديلا المتسامحة؛ روح قائد يعرف أن لا مكان للثأر عند الكبار؛ روح زعيم يتبنى فكرة التلاقي مع الآخر في منتصف الطريق والتصالح بين أفراد الشعب الواحد من دون أن تخسر البلاد نفسها وهويتها، لأننا كما كان يردد دائماً "نقتل أنفسنا عندما نضيّق خياراتنا في الحياة".