Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الدولة التي أعادت تموضعها بهدوء... قراءة في التحول السعودي المعاصر

من الداخل إلى الخارج كيف أسست رؤية الأمير محمد بن سلمان لسياسة دبلوماسية اقتصادية عالمية مختلفة

ظهرت نتائج التحول في السعودية بوضوح على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية (اندبندنت عربية)

ملخص

يرصد التقرير مسار التحول السعودي من التأسيس إلى الرؤية، مع صعود محمد بن سلمان، وكيف انعكس التحديث الداخلي على سياسة دبلوماسية عالمية أعادت تموضع الدولة إقليمياً ودولياً.

قبل 80 عاماً التقطت مجلة "لايف" الأميركية صورة عرَّفت العالم بالملك عبدالعزيز. كانت تلك اللحظة عام 1943، أول خروج سعودي نحو مسرح السياسة الدولية. وقف المؤسس أمام عدسة لم تعرف من الشرق سوى الحكايات الاستشراقية، وقدم نفسه بوضوح وبساطة رجل دولة يدرك موقعه في زمن مضطرب.

تحدث عن فلسطين ووحدة العرب ومعنى العدالة، وتطرق إلى كيفية إدخال التغيير والحداثة في مجتمع شديد التحفظ، وكأنه يدرك أن الكلمات التي ينطق بها ستتجاوز زمن الحرب العالمية إلى زمن آخر لم يُولد بعد.

ملامح التحول

لم يكن ذلك اللقاء مجرد مقابلة صحافية، بل لحظة ميلاد الرواية السعودية الأولى أمام العالم، اللحظة التي كسرت فيها السعودية عزلتها الإعلامية وقدمت نفسها كما تريد أن ترى، لا كما يكتبها الآخرون.

واليوم، وبعد ثمانية عقود من إعلان الملك عبدالعزيز هوية الدولة الناشئة، عبرت البلاد عهداً بعد آخر قاده أبناء المؤسس الذين راكموا ملامح الدولة الحديثة، من زمن سعود، حيث اتسعت مؤسسات الحكم، إلى عهد فيصل الذي ترسخ فيه الحضور الخارجي ورسمت فيه السياسة النفطية، ثم مرحلة خالد التي استقر فيها البناء الداخلي، وصولاً إلى نهضة البنية الإدارية والاقتصادية في زمن فهد، فسنوات عبدالله التي شهدت إصلاحات اجتماعية وتعليمية وتحولات إقليمية عميقة.

 

 

ومع تولي الملك سلمان دخلت البلاد طوراً جديداً من التغييرات الاجتماعية والاقتصادية لبناء مرحلة مختلفة من الدولة العصرية، برز فيها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بوصفه "مهندس التحول" عبر رؤية 2030، لتأخذ السعودية إلى مداها الأوسع، من المدن الذكية إلى اقتصاد الابتكار، ومن حضور إقليمي ثابت إلى دور دولي فاعل، مستنداً إلى إرث المؤسس الذي قدم هوية الدولة، ليقدم هو اليوم ملامح مستقبلها.

وإذا كان لقاء "لايف" مع الملك عبدالعزيز قدم للعالم صورة الدولة السعودية في لحظة تأسيسها، فإن العقد الأخير يرسم صورة أخرى للبلد النفطي وهو يدخل مرحلة إعادة اكتشاف ذاته، بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.

السعودية في العقد الأخير

ظهرت نتائج التحول في السعودية بوضوح على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، عبر تغييرات عملية أعادت تشكيل طريقة عمل الدولة وموقعها في الداخل والخارج. ولم يعد هذا التحول يقرأ بوصفه استجابة ظرفية، بل مساراً متكاملاً يعكس إعادة صياغة عميقة لدور الدولة السعودية في محيطها الإقليمي والدولي.

يرى عضو هيئة التدريس في قسم العلوم السياسية بجامعة الملك عبدالعزيز، إياد الرفاعي، أن ما تشهده السعودية يتجاوز تحسين الصورة أو إدارة الأزمات، ليصل إلى إعادة بناء جذرية للهوية السياسية السعودية. ويقول لـ"اندبندنت عربية" إن هذا المسار يعكس رؤية استراتيجية تقودها قيادة حازمة، أعادت رسم موقع السعودية داخل معادلات القوة الإقليمية والعالمية.

ويلفت الرفاعي إلى أن صعود ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى قلب صنع القرار عام 2017 شكل نقطة تحول مفصلية، نقلت البلاد من نموذج محافظ يعتمد أساساً على النفط والتحالفات التقليدية مع الغرب، إلى لاعب أكثر جرأة وتأثيراً في الساحة الدولية. ويوضح أن هذا التحول لم يكن عفوياً، بل نتاج استراتيجية مدروسة جمعت بين الحزم في التعامل مع التحديات الإقليمية، خصوصاً في مرحلة ما بعد الربيع العربي، والانفتاح على شراكات دولية جديدة مع الصين وروسيا، مع الحفاظ في الوقت ذاته على العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.

على الصعيد الإقليمي، يؤكد الرفاعي أن السياسة الخارجية السعودية شهدت تحولاً نوعياً، انتقلت فيه من منطق المواجهة إلى التهدئة الدبلوماسية. ويستشهد باتفاق استئناف العلاقات مع إيران بوساطة صينية في مارس 2023، بعد قطيعة استمرت سبع سنوات، وهو ما أسهم في خفض مستوى التوتر على رغم استمرار أزمات معقدة في غزة واليمن. وامتد هذا النهج إلى إنهاء الأزمة مع قطر عام 2021، وتعزيز الشراكات مع تركيا بين عامي 2023 و2025 في ملفات الاستقرار الإقليمي والتعاون الاقتصادي.

وبحلول عام 2025، بحسب الرفاعي، أكدت الرياض وطهران التزامهما بالاتفاق، مع دور سعودي في تسهيل مسارات الحوار، بما في ذلك المحادثات النووية الإيرانية - الأميركية، ضمن دبلوماسية مرنة تسعى إلى إدارة الصراعات بدلاً من تأجيجها. ويضيف أن هذا الدور توازى مع استمرار الجهود السعودية في مكافحة الإرهاب، ودعم مسارات السلام في السودان واليمن، مع الحفاظ على موقف واضح تجاه القضية الفلسطينية وحق قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.

 

داخلياً، يشير الرفاعي إلى أن الإصلاحات الاجتماعية شكلت أحد أكثر أوجه التحول وضوحاً، وفي مقدمها توسيع حقوق المرأة منذ عام 2019 في مجالات العمل والتنقل، ووصولها إلى مواقع قيادية في القطاعين العام والخاص. ويرى أن هذه التحولات أسهمت في تغيير الصورة النمطية عن المملكة، ونقلت النظرة الدولية إليها من دولة محافظة تقليدية إلى دولة حديثة تعيد صياغة بنيتها الاجتماعية بما يتوافق مع اقتصاد أكثر انفتاحاً وتنوعاً.

وتزامن هذا المسار مع تحولات ثقافية لافتة، شملت عودة دور السينما، وتنظيم مواسم فنية وترفيهية كبرى، واستضافة فعاليات عالمية مثل سباقات "فورمولا 1" ومهرجان البحر الأحمر السينمائي. ويؤكد الرفاعي أن هذه التغييرات لم تكن تحديثاً شكلياً، بل جزءاً من إعادة بناء شاملة للعلاقة بين المجتمع والاقتصاد والدولة.

ويعتبر الرفاعي أن الدبلوماسية الاقتصادية أدت دوراً مكملاً لهذا التحول، من خلال استثمارات صندوق الاستثمارات العامة في قطاعات التقنية والرياضة والترفيه، مما عزز موقع السعودية كشريك اقتصادي فاعل داخل مجموعة العشرين، ورسخ نموذجاً تنموياً يوازن بين الحزم السياسي والانفتاح الاقتصادي، ويقلص الاعتماد على النفط عبر تنويع مصادر الدخل.

ويأتي التحول الأعمق، وفق قراءة الرفاعي، مع رؤية 2030 التي أعادت منذ إطلاقها عام 2016 تعريف موقع السعودية في الاقتصاد العالمي، عبر الاستثمار في الطاقة المتجددة والسياحة والتقنية، وتعزيز دور الاقتصاد غير النفطي. وعلى الصعيد البيئي، أسهمت مبادرات مثل "السعودية الخضراء" و"الشرق الأوسط الخضراء" في ترسيخ مسار الاستدامة وخفض الانبعاثات، بما يعكس تحولاً في دور السعودية من مجرد منتج للطاقة إلى فاعل في صياغة سياسات المناخ العالمية.

التعامل مع التحديات

وعلى رغم اتساع مسار التحول، لم تكن التجربة السعودية بمنأى عن التحديات، إذ واجهت السعودية انتقادات غربية. ويقرأ بعض المحللين هذه الحملات في سياق تغير موازين القوة الاقتصادية العالمية.

وفي هذا الإطار، يرى الرفاعي أن تراجع اعتماد السعودية على الغرب وتوسع استثماراتها في آسيا وأفريقيا أسهما في تقليص نفوذ أطراف تقليدية، مما انعكس في تصاعد خطاب نقدي يستند في كثير من الأحيان إلى صور نمطية قديمة عن السعودية. ويضيف أن هذه السرديات تتجاهل التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المتسارعة، وتعكس أحياناً محاولات لفرض معايير خارجية على سياق مختلف.

 

وأكد المتخصص في مجال العلوم السياسية بالقول إن الخطاب الغربي بدأ خلال عام 2025 يميل تدريجاً إلى الاعتراف بحجم التغيير الجاري في السعودية، في وقت يواصل فيه الإعلام السعودي، التقليدي والحديث، تفكيك هذه الصور النمطية عبر إبراز منجزات تحققت في زمن قياسي.

وختم حديثه عن مستقبل السعودية قائلاً إن المرحلة المقبلة مرشحة لتعزيز نموذج "القوة المستقلة المؤثرة" عبر دبلوماسية عالمية متعددة الأقطاب، تتجاوز منطق التحالفات التقليدية، مع توسيع الأدوار القيادية للسعودية في الشرق الأوسط. وأضاف أنه إذا واصلت السعودية هذا النهج المرن والمنفتح، المدعوم بالحزم السياسي والواقعية الأمنية، فإنها تسير بثبات نحو التحول إلى محور للاستقرار الإقليمي وقطب أوسط صاعد في السياسة العالمية.

بناء الضبط والتغيير

إعادة هندسة مجتمع واقتصاد بهذا الحجم تحتاج إلى وقت لاستيعاب التحولات وتجاوز العقبات الطبيعية المرتبطة بتغيير أنماط راسخة. ومع ذلك تؤكد تجربة السنوات الأخيرة أن رؤية 2030 لم تكن مجرد خطة تنموية، بل مشروعاً واسعاً لإعادة صياغة شكل الدولة الحديثة في الجزيرة العربية، وإعادة تعريف علاقة السعودية بالعالم، ووضع البلاد على مسار يصعب الرجوع عنه.

وقد وصف عدد من الباحثين هذا المسار بأنه من التجارب اللافتة في التحديث العربي المعاصر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن زاوية إدارة التغيير الاجتماعي يبرز نهج يقوم على الإقناع حيناً، وعلى إحداث صدمة محسوبة حيناً آخر، في مقاربة تستحضر مقارنة لافتة بين جيلين مختلفين من القيادة. فالملك عبدالعزيز أدرك مبكراً أن التحديث لا يمر عبر الفرض أو الصدام، بل من خلال تطويع الحساسية الاجتماعية وطمأنة المتوجسين من كل جديد.

وتأتي قصة الراديو، الواردة في مقابلة مجلة "لايف"، مثالاً دالاً على هذا النهج، حين واجه المؤسس اعتراضاً واسعاً من بعض العلماء. ولتفادي التصادم، طلب بث تلاوة قرآنية عبر الجهاز، فكان الصوت الديني نفسه جسراً أنهى الشكوك وفتح الباب أمام اندماج التقنية في المجتمع الناشئ. لم تكن تلك خطوة تقنية فحسب، بل درساً مبكراً في بناء القبول الاجتماعي لتغييرات عميقة من دون كسر البنية المحافظة.

وفي زمن الحفيد، تتكرر الفكرة بمنطق العصر نفسه، إصلاحات واسعة تُدار بقراءة دقيقة للمجتمع، وبمسارين متوازيين، الإقناع من جهة، والصدمة المحسوبة من جهة أخرى.

فبعد قرار السماح للمرأة بقيادة السيارة، كتبت "نيويورك تايمز" عام 2017 أن قرارات من هذا النوع جاءت "بعد نقاش داخلي طويل، ومرت بسلاسة لأنها لم تصطدم بالبنية التقليدية للمجتمع".

 

وذهبت "واشنطن بوست" بعد ذلك بعامين إلى أن ولي العهد "أعاد تعريف دور المؤسسة الدينية لتكون جزءاً من الإصلاح لا عائقاً أمامه"، مضيفة أن "ولي العهد قلص نفوذ المؤسسة التقليدية، لكنه جعلها شريكاً ضمن إطار جديد يفتح الباب للإصلاح".

وعلى رغم التعقيدات التي يفرضها تسارع التحول، وتقلبات البيئة الإقليمية، والضغوط الاقتصادية العالمية، يظل المشروع الإصلاحي الذي يقوده الأمير محمد بن سلمان من أكثر مشاريع التغيير إلهاماً في المنطقة. فالتحديث، بطبيعته، يتطلب قدرة دائمة على المراجعة وإعادة التقييم، وهي سمة باتت واضحة في النهج السعودي الذي يوازن بين الطموح وإدارة الأخطار، ويختار تعديل المسار عندما تقتضي المصلحة العامة ذلك، من دون التخلي عن الهدف الأكبر.

وقد عبر ولي العهد بوضوح عن هذه المرونة الاستراتيجية حين قال "الاقتصاد السعودي يتقدم، ولا تردد في تعديل أي برنامج لا يخدم المصلحة العامة"، مؤكداً أن نجاح الرؤية لا يقوم على الجمود، بل على القدرة المستمرة على التصحيح وإعادة الضبط.

وفي السياق نفسه، كشف تصريح وزير المالية محمد الجدعان، خلال مؤتمر الموازنة لعام 2026، جانباً مهماً من النضج المؤسسي الذي بات يميز عملية صنع القرار، حين أكد أن السعودية لا تتردد في مراجعة بعض المشاريع أو حتى إلغائها إذا اقتضت الظروف، قائلاً: "ليس لدينا أي غرور... إطلاقاً ليس هناك غرور. إذا أعلنا شيئاً ونحتاج إلى تعديله أو تسريعه أو جعله أولوية، أو تأجيله أو إلغائه، سنفعل ذلك من دون تردد".

ويعكس هذا التوجه، في نظر عدد من المراقبين، إدراكاً متقدماً بأن التنمية الحديثة لا تقوم على قرارات جامدة، بل على قدرة مستمرة على المراجعة والتكيف، بما يضمن استدامة التحول وحماية مكاسبه في مواجهة المتغيرات. وعلى رغم أن بعض الأطراف قد تفسر هذه المراجعات بوصفها تراجعاً، فإنها تقرأ في سياق أوسع كجزء من نهج واقعي يضع المصلحة العامة فوق الاعتبارات الشكلية.

كيف يقرأ الغرب رؤية 2030

يوضح الرئيس الإقليمي للمركز الأوروبي للدراسات الدولية والاستراتيجية CERIS، علي صالح الضريبي، أن الغرب أعاد قراءة المشهد السعودي بمنطق مختلف. فوفق رؤيته، لم تعد التحولات السعودية تفهم كتحديثات سطحية أو خطوات تكتيكية، بل كمسار استراتيجي يعيد تعريف دور الدولة واقتصادها وموقعها في النظام الدولي. ويشير إلى أن الرؤية انتقلت سريعاً من خانة "النية السياسية" إلى "مشروع الدولة" لأنها قدمت بخطط تنفيذ واضحة وقياسات دقيقة تتابعها المؤسسات الغربية باهتمام.

وفي قراءة الضريبي لتقييمات مراكز الفكر الأوروبية، يتضح أن ثلاثة ملفات شكلت جوهر التحول السعودي. فهو يرى أن التحول الاقتصادي العميق أعاد بناء العلاقة بين الدولة والسوق وفتح قطاعات نوعية غير مسبوقة. ويضيف أن التحول الاجتماعي المنضبط وسع المشاركة الاقتصادية وفتح الباب لتمكين المرأة بطريقة غير مسبوقة مع الحفاظ على الاستقرار. أما الملف الثالث، وفق الضريبي، فيتعلق بالسياسة الخارجية الجديدة التي باتت أكثر براغماتية وأشد ارتباطاً بالمصالح الاستراتيجية.

ويؤكد المحاضر في السياسة الدولية أن الدراسات الصادرة عن ECFR وChatham House والمجلس الألماني للعلاقات الخارجية DGAP ربطت بين هذا التحول وبين أسلوب القيادة لدى ولي العهد، الذي تعتبره هذه المؤسسات صاحب رؤية واضحة وقدرة تنفيذية لافتة، وهو ما يمنح مشروع التحديث السعودي قوة دفع نادرة في المنطقة.

ويمضي الضريبي إلى القول إن ما يجري ليس تغييراً داخلياً فحسب، بل إعادة تشكيل للمشهد الخليجي كله. فالسعودية، كما يصف، ترفع سقف الطموح الإقليمي وتدفع الدول المجاورة إلى مراجعة نماذجها التنموية، مستندة إلى اقتصاد ضخم، وسرعة قرار، واستثمار استراتيجي في الجغرافيا وربط التنمية بالتموضع الدولي.

 

 

وفي ما يتعلق بالعلاقة مع أوروبا، يشرح الرئيس الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط للمركز الأوروبي للدراسات الدولية والاستراتيجية CERIS ببروكسل، أنها تشهد إعادة صياغة جوهرية. ولم تعد العلاقة محصورة في التعاون التقليدي، بل تطورت إلى شراكة استراتيجية متعددة الأبعاد تشمل الطاقة التقليدية، والهيدروجين الأخضر، والصناعات المتقدمة. ويشير إلى أن مسار "الكتلة مع الكتلة" EU–GCC تعزز بعد قمة بروكسل عام 2024، مع تحضير لقمة خليجية أوروبية في السعودية عام 2026. ويرى الضريبي أن هذا التقارب يعكس إدراكاً أوروبياً بأن السعودية أصبحت شريكاً أساساً في الملفات المرتبطة بالاقتصاد الأخضر والتنمية المستقبلية.

ويوضح الباحث البحريني أن المؤسسات الغربية باتت تنظر إلى ولي العهد السعودي بوصفه لاعباً مركزياً يصعب تجاوزه في ملفات الطاقة والاستثمار والجغرافيا السياسية. ويشير إلى أن الأمير نجح في مخاطبة الغرب بلغته السياسية المعتادة: الواقعية الذكية، أو ما يسميه "Ideal Realism"، وهو منهج يدرك الغرب منطقه ويمنحه ثقته.

وفي قراءته للسياسة الخارجية السعودية الجديدة يرى الضريبي أنها أصبحت أكثر استقلالية من دون أن تبتعد عن شركائها التقليديين أو تدخل في قطيعة معهم. ويصف هذا التوازن بأنه توجه يفهمه الأوروبيون ويقدرونه، لأنه يجعل السعودية دولة واضحة الأولويات وقابلة للتنبؤ في سلوكها الدبلوماسي.

أما على مستوى الصورة الذهنية فيشير الضريبي إلى أن مشاريع مثل نيوم والبحر الأحمر لم تعد تقرأ غربياً كمشاريع سياحية فحسب، بل كأدوات لإعادة تموضع جيو اقتصادي على واحد من أهم الممرات البحرية في العالم، إذ تتحول الجغرافيا إلى نفوذ، وتتحول التنمية إلى استراتيجية مكان.

ويشرح الضريبي أن الغرب، على رغم تقديره لمسار التغيير، لا يتجاهل التحديات التي تنتظر السعودية، وأبرزها، استدامة التنفيذ، بناء المهارات الوطنية، جذب الاستثمارات التقنية المتقدمة، وإدارة الصورة الدولية، لكنه يؤكد أن التقييم السائد في المؤسسات الأوروبية يشير إلى قناعة بأن القيادة السعودية الحالية تمتلك الإرادة والقدرة على تحويل هذه التحديات إلى مراحل إنجاز جديدة.

ويستعيد الضريبي نقاشاً دار داخل CERIS حين طرح سؤالاً محورياً: كيف يستمر الغرب في تصنيف السعودية كـ"قوة متوسطة"، بينما مؤشرات الطاقة والاقتصاد والجغرافيا تضعها عملياً في خانة "القوة العظمى"؟ ويؤكد أن المشاركين في النقاش اتفقوا على وجود تناقض واضح بين التصنيف التقليدي والواقع المتغير. وما يجري اليوم، بحسب الضريبي، هو محاولة سعودية واعية لإعادة تعريف موقعها العالمي كما هو، لا كما اعتادت الأدبيات القديمة أن تصفه.

 

 

ما بين "لايف" و"فوكس نيوز"

وعند المقارنة بين صورتين إعلاميتين تفصل بينهما ثمانية عقود، تتضح الطريقة التي تغير بها الخطاب الغربي تجاه السعودية. ففي عام 1943، قدمت مجلة "لايف" واحدة من أولى الإطلالات الأميركية على السعودية عبر مقابلة مع الملك عبدالعزيز، ورسمت فيها صورة لبلد يتشكل في قلب الصحراء.

وخصصت المجلة حيزاً لافتاً لوصف مكة، معتبرة إياها "أقدس مدن الإسلام" و"قلب الجزيرة العربية وروح العالم الإسلامي"، وأشارت إلى أنها مدينة لا يدخلها غير المسلمين، وأن قدسيتها تمنح السعودية مكانتها الروحية الفريدة.

ورأت المجلة في الملك المؤسس "شخصية غامضة بالنسبة إلى الغرباء، لكنها مركز قوة يعيد تشكيل الجزيرة".

 

وفي المقابل قدمت "فوكس نيوز" عام 2023 صورة توضح التطور في البلاد. فقد خصصت القناة تغطية موسعة امتدت ليومين داخل السعودية، تخللتها مقابلة مع عدة مسؤولين ووزراء إضافة مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.

خلال الحوار قال المذيع الأميركي بريت باير: "لقد أصبحتم بالفعل لاعباً كبيراً على المسرح العالمي".

وفي توصيفه للمشهد العمراني، قدم باير صورة مكثفة: مدن تبنى من الصفر، مشاريع عملاق يمتد أثرها من الساحل إلى الصحراء، وحركة تطوير لا تهدأ، قبل أن يختصر ذلك بالقول إن "هذا البلد يضم أكبر عدد من الرافعات في العالم".

وباستخدام لغة وصفية تذكر بنبرة "لايف" القديمة، ولكن في سياق مغاير، تحدث باير عن السعودية بوصفها دولة تتسارع فيها مشاريع البناء والتحول، قائلاً إنها "من أكبر منتجي النفط، وأصل الإسلام، وتضم أكبر صحراء رملية وأكبر واحة وأكبر مطار في العالم"، مضيفاً أنها "سياسياً واحد من أهم الأماكن على الكوكب، كمركز ثقافي للعرب والمسلمين، وبسبب موقعها الاستراتيجي المحوري".

وبين مقابلة "لايف" مع الملك عبدالعزيز ومقابلة "فوكس" مع ولي العهد، تتبدل زاوية النظر الأميركية، من دولة ترى كامتداد للعالم القديم تكتشف للمرة الأولى، إلى دولة تقرأ اليوم باعتبارها قوة صاعدة تعيد صياغة ملامح الاقتصاد والسياسة في المنطقة والعالم.

المؤسس والحفيد

ما فعله الملك عبدالعزيز حين فتح أبواب الرياض لـ"لايف" عام 1943 يشبه في جوهره ما يفعله الأمير محمد بن سلمان اليوم، كلاهما أراد أن يعرف العالم بالسعودية من خلال الرواية السعودية نفسها.

الأول قدم نفسه وهو يبني الدولة من الصفر، والثاني يقدم البلاد وهي تخوض عملية إعادة صياغة مستقبلها. وبين الرجلين مسافة زمنية طويلة، لكنهما يشتركان في روح واحدة، روح القائد الذي يواجه العالم بلا خوف، ويكتب مسار بلاده بدلاً من انتظار أن يكتبه الآخرون.

وفيما يتعلق بشخصية ولي العهد ودوره المستقبلي، تشير كارين إليوت هاوس في كتابها الجديد "الرجل الذي سيصبح ملكاً: محمد بن سلمان وتحول السعودية" إلى أن الأمير محمد بن سلمان مرشح لأن يكون أحد أكثر القادة تأثيراً في الساحة الدولية خلال العقود المقبلة.

وترى هاوس، وهي الصحافية الأميركية الحائزة جائزة "بوليتزر" والرئيسة السابقة لصحيفة "وول ستريت جورنال"، أن ولي العهد يقود مشروعاً تحويلياً غير مسبوق، ومن المتوقع أن يترك أثراً اقتصادياً وسياسياً واسعاً يتجاوز حدود المنطقة.

وتوضح هاوس في تحليلاتها أن الأمير محمد بن سلمان يتصرف كزعيم عالمي الطموح يمتلك رؤية واضحة لموقع السعودية في النظام الدولي الجديد، مشيرة إلى أن حضوره المتصاعد في ملفات الاقتصاد والطاقة والاستثمار يؤكد أنه لا يميل إلى التباطؤ، بل يتجه نحو دور قيادي أكبر في رسم ملامح المرحلة المقبلة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات