Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ريجينا بورتر تستعيد سؤال التمييز العرقي في أميركا

"المسافرون" جدارية روائية... تقدم حياة عائلتين

الكاتبة الاميركية ريجينا بورتر (دار النشر)

إن طُلِب منا انتخاب نص واحد من الإصدارات الروائية الحديثة في الولايات المتحدة، لاخترنا بلا تردّد رواية ريجينا بورتر الأولى، "المسافرون" (2019). رواية صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "غاليمار" بعنوان "ما نزرعه"، وشيّدت هذه الكاتبة الشابة صرحها على شكل جدارية عائلية طموحة بقدر ما هي مبتكَرة تمنحنا، بربطها قصص شخصياتها بأحداث التاريخ الكبرى، صورة شاملة ودقيقة لأميركا من منتصف خمسينيات القرن الماضي وحتى مطلع ولاية باراك أوباما الأولى.

لبلوغ هذا الهدف، ركّزت بورتر سرديتها على قدر عائلتين أميركيتين: الأولى من أصول إيرلندية، والأخرى من أصول أفريقية، وعلى الطريقة التي سيتقاطع بها مسارَهما ويتباعد ليعود فيلتقي مجدداً وفقاً للمصادفات والزمن. في البداية، لدينا جايمس فينسنت الذي يفرّ من فوضى دار والديه لدراسة الحقوق في نيويورك ويصبح محامياً لامعاً. زير نساء منذ فتوّته، ينجب جايمس من زوجته الأولى ابنه روفوس، ومن مغامرة عابرة، ومن دون أن يدري، ابناً آخر، هانك. المصادفة ستجمع روفوس بشقيقه، لكن قبل أن يحصل ذلك، نراه يلهو مع صديقات أمّه التي انفصلت عن والده واستقرّت معه في لوس أنجلوس، قبل أن يحضر هذا الأخير يوماً للعودة به إلى نيويورك وإنهاء مرحلة طيشه. وكي لا يشعر ابنه بالملل خلال رحلة العودة، يضع جايمس في يده كتاب "بورتريه الفنان شاباً". هكذا يصبح روفوس أستاذاً جامعياً مختصّاً بجيمس جويس.

في العائلة الأخرى، لدينا أنييس ميلر، وهي شابة ذات مستقبلٍ واعد يتحوّل موعدها العاطفي الأول مع كلود إلى كابوس على طريق مهجورة في ولاية جورجيا، حين يوقف سيارتهما شرطيّان عنصريان يعتديان عليها جنسياً وعلى كلود ضرباً. ولا عجب إذاً في الأثر البليغ الذي ستتركه تلك الليلة المشؤومة في حياتها وحياة ذرّيتها، بدءاً بابنتها كلوديا التي ستقترن بروفوس وتنجب منه طفلين ينظر جدّهما جيمس إليهما كـ "خلاسيين"، على الرغم من أن ابنه حظّر عليه استخدام هذه الكلمة.

أجيال متعاقبة

انطلاقاً من هنا، توسّع الكاتبة طيف شخصياتها ليشمل الأحفاد وأبناء وبنات العم والأصدقاء والعشيقات الحاليات أو السابقات، ما يعني قصص حبّ وزواج وطلاق وحيوات موازية إضافية غزيرة. ومع أن لون البشرة يشكّل موضوعاً مركزياً في روايتها، لكن بورتر تشحذ داخلها لغةً جديدة كلياً لمقاربته تجعل من الصعب علينا تمييز شخصياتها وفقاً لهذا المعيار العنصري، فتحضر كلّ شخصية في الرواية كامرأة أو رجل فحسب، وبالتالي كإنسان قبل أي شيء. وأحياناً، تتقدّم مسألة الطبقة الاجتماعية على السؤال العرقي وتشكّل سبباً لخناقات داخل العائلة الواحدة، كما حين تنتقد بيفرلي شقيقتها كلوديا على "الهذيان الاجتماعي الأبيض" في سلوكها.

لكن قيمة هذه الرواية لا تقتصر على ذلك، بل تعود أيضاً إلى الصراحة المؤثِّرة لبعض شخصياتها. فخلال لقائه الأول بزوجته أنييس، وبهدف إقناعها بالمجيء للعيش معه في حيّ "برونكس" في نيويورك، يقول إيدي لها: "عليك أن تعرفي شيئاً حول هذا الحيّ: إنه بشع، لكن العيش فيه جميل وممتع"، فتحزر أنييس أن هذا الرجل غير الوسيم يصف في الواقع نفسه. تعود قيمة الرواية أيضاً إلى استكشافها بعمق وحساسية السلوك الجنسي المتنوِّع لشخصياتها ومشاعرها العاطفية المحكومة غالباً بالفشل، كما هو الحال مع إيلويز، وهي شخصية مثلية آسِرة سواء بمسيرتها أو بقدرها المأساوي الناتج من حبّها المستحيل لأنييس.

باختصار، "المسافرون" رواية محبوكة بعناية انطلاقاً من لحظات حادّة من حياة هاتين العائلتين. ففصولها التي تتنقّل بنا بين نيويورك وكاليفورنيا وجورجيا وبرلين وهانوي (من هنا عنوانها)، هي عبارة عن ومضات تنير مشاهد خاطفة نصغي خلالها إلى واحد من أصواتها المتعددة، وأحداثها تتتابع ضمن فوضى زمنية منظّمة وفقاً لحركة ذهابٍ وإيابٍ محمومة بين ماضٍ وحاضر تعكس قلقاً أمام فرار الزمن.

وهذه الهندسة الحاذقة هي التي تمنح هذا النص كل حيويته، وقد استوحتها بورتر من روايات ويليام فوكنر وتوني موريسون، باعترافها. أما "باب المصادفات المفتوح دائماً" داخل سرديتها، فيستحضر إلى أذهاننا رواية مواطنها أنتوني مارّا، "كوكبة من الظواهر الحيوية" (2013)، بينما تستحضر حواراتها بجانبها المشوِّق روايات أرنست همنغواي. وإلى هذه المراجع، يمكننا أن نضيف الكاتب الألماني وينفريد جورج سيبالد في ما يتعلّق بالصور الفوتوغرافية التي تزيّن بعض صفحات الرواية وتحضر كمعالم جغرافية ــ زمنية واقعية هدفها تعزيز بُعدها التاريخي.

وفعلاً، تمنحنا "المسافرون" أيضاً فرصة فريدة لولوج كواليس مجهولة من تاريخ أميركا الحديث، بتصويرها بدقة وبصيرة نادرتين الأحداث الصادمة التي اختبرها أبناء هذا البلد على مدى أجيال، وبتوقّفها بذكاء عند الاضطرابات والتحوّلات العميقة التي شهدها مجتمعه خلال أكثر من نصف قرن (من 1955 حتى 2009). وحول سبب اختيارها هذه الحقبة تحديداً، تقول بورتر: "بينما تميّزت الخمسينيات بتنامي الإقصاء العنصري تجاه ذوي البشرة السوداء، أحلّت سنوات ولاية أوباما الأولى بعضاً من التفاؤل. وبين هاتين المرحلتين، تورّطت أميركا بحرب فيتنام ثم عانت من تفشّي وباء الإيدز ومخدِّر الـ "كراك" (crack) الذي دمّر مستقبل شبّان كثر وخلّف عنفاً لا سابق له في المدن". وإلى ذلك، نضيف النضال المضني من أجل انتزاع الحقوق المدنية أو ذلك الخاص بسيرورة تحرّر المرأة اللذين لا تهملهما الكاتبة، ويفسّران قول كلوديا في مطلع الألفية الثالثة: "نحن متعبون. وحين يكون المتعبون في حالة فرار مستمّر، يتعذّر عليهم توصيف أنفسهم".

يبقى أن نشير إلى أن العنوان الفرنسي للرواية، "ما نزرعه" (Ce que l'on sème)، هو أفضل في نظرنا من عنوانها الأصلي، نظراً إلى تعدُّد دلالاته وتلخيصه بعبقرية مضمونها. ففعل "زرع" (semer) فيه يستحضر عملية النقل والتوريث الفاعلة في النصّ، بسلبياتها وإيجابياتها. وعلى المستوى السمعي، يحمل هذا العنوان معنى آخر، باطن، يعبِّر جيداً بشحنته الساخرة عن الحقبة التاريخية المقارَبة: "كم أننا نحب بعضنا بعضاً!" (Ce que l’on s’aime !).

المزيد من ثقافة