Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عودة إلى "النظرية العامة للشغل والفائدة والنقد" لجون كينز

كلّ الأزمات أعادته إلى الواجهة ولن يشذّ كورونا عن ذلك

الاقتصادي المعروف جون مينارد كينز (اندبندنت عربية)

في كل مرة يجد العالم نفسه يمر بأزمة خانقة على الصعيد الاقتصادي، لا يجد أمامه سوى اسمين يرى أن عليه العودة إلى مؤلفات صاحبيهما، علّه يجد فيها الترياق: أولهما كارل ماركس، انطلاقاً من كتابه "رأس المال"، وليس من أي نصّ أيديولوجي أو فلسفي أو سجالي أو نضاليّ له، إذ تلوح فرصة حقيقية لتخليص ذلك المفكر الألماني من كل ما عَلِق باسمه، وما اُقترف تبعاً لفهم أو سوء فهم نظرياته وأفكاره. والثاني جون مينارد كينز الباحث الاقتصادي الإنجليزي، انطلاقاً بالنسبة إليه من مجمل دراساته التي شغلت الباحثين الاقتصاديين خلال النصف الأول من القرن العشرين، سلباً وإيجاباً، التي عادة ما يُلجأ إليها في كل مرة تشتد فيها الأزمات الاقتصادية، ما يجعل الحاجة إلى كينز أكثر موسمية من ماركس.

وعلى هذا النحو، في ظل الأوضاع العالمية الراهنة التي تتجاوز في حدّتها، ومن بعيد، كونها أزمة تستشري داخل النظام الرأسمالي ما يستدعي اللجوء إلى تحليلات ماركس، نجد أنفسنا أكثر اهتماماً هنا بالعودة إلى كينز أسوة بكل أولئك المفكرين الاقتصاديين الجادين الذين يرون أننا مهما بلغ "ابتكارنا" الحلول التي من شأنها أن تخفف عن البشرية أعباء الأوضاع الاقتصادية والمالية، بل ربما نقول حتى الاجتماعية المعيشية، التي ترزح تحت عبئها معظم أمم الأرض سواء كانت ذات اقتصاد حرّ أو موجّه أو مختلط، لا بدّ لنا من مرجعية نستند إليها.

ومن الواضح أن كينز يوفّر لنا تلك المرجعية، كما فعل بعيد الحرب العالمية الأولى، ثم خلال سنوات الثلاثين حين صعقت العالم تلك الأزمة الاقتصادية التي دمّرته، وأدّت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية ومذابحها.

الفكرة الأساس وراء الحلول الروزفلتية
والحقيقة، أننا مهما كان من شأن تحليلنا تلك "الصفقة الجديدة" التي أنقذ بها الرئيس الأميركي روزفلت بلاده من الكارثة الاقتصادية وشبح الجوع المخيّم على رؤوس عشرات الملايين من مواطنيه، لا بدّ من الاعتراف بأن الكلمة المفتاح في ذلك الحلّ الذي اُعتبر سحرياً حينها إنما كان يتعلق بـ"تدخلية الدولة"، تلك التدخلية التي ظلّت على الدوام العمود الفقري لنظريات كينز الاقتصادية والنقدية، وذلك طبعاً على الضد من استيلاء الدولة كلياً على الاقتصاد (في المنظومة المسماة اشتراكية)، ومن ترك الحرية التامة لاقتصاد يدمّر ما تبقّى من البلاد والعباد (في المنظومة الرأسمالية الفالتة).

و"تدخّلية" الدولة هذه هي المبدأ الأساس الذي يحوم من حول كل فصول كتاب كينز العمدة "النظرية العامة للشغل والفائدة والنقد" الذي صدر عام 1936، ليلخص فيه جون كينز مجمل أفكاره التي كانت موزّعة في عديدٍ من كتبه السابقة، كما سنشير بعد سطور.

المهم هنا أن نشير إلى جملة تجديدات في علم الاقتصاد، اعترف كثر من كبار علماء القرن العشرين، من بينهم إريك هوبسباوم في كتابه "عصر التطرفات"، بفضل كينز في ابتداعها أو ربطها معاً على الأقل. وذلك في مجالات مستوى الطلب الفعلي، وتأثيره في الشغل، ودراسة غياب التعديل المتواصل للتوازن بين العرض والطلب، ونظرية للنقود تقوم على تفضيل السيولة، ومفهوم الفعالية الهامشية لرأس المال مفسّراً لمبدأ الاستثمار، بجعله سبباً حاسماً في عملية الادخار، ناهيك بتحليل عميق للسيكولوجية التأسيسية التي تؤكد أن المدخول يتنامى حين يتنامى الاستهلاك.

ومن الواضح هنا أن كل هذه المبادئ إنما تفترض تدخلية الدولة ليس فقط حكماً بين شتّى أطراف اللعبة الاقتصادية في المجتمع، بل فاعل حاسم ومقرر في ترجيح كفة طرف على طرف في لحظة معينة.

العودة مع كورونا
من الواضح في أيامنا الصعبة هذه أنّ دولاً كثيرة تتبع تلك المبادئ حتى من دون أن تعرف أنها الأسس التي بنى عليها كينز نظرياته الثاقبة، ومن هنا نتساءل: أين كينز اليوم من ذلك كله؟

في الحقيقة، جون مينارد كينز، الابن المدلل للنخبة اليسارية البريطانية خلال فترة ما بين الحربين، وأعظم باحث اقتصادي أنجبته بلاد الإنجليز في القرن العشرين، من شأنه اليوم أن يهتز في قبره إن هو لاحظ، كما يلاحظ الجميع، كيف أن ثمة دولاً لا تزال تتردد قبل البدء بالتدخل. فهو كان أسس كل نظرياته الاقتصادية على تدخل الدولة، لا سيما خلال أزمنة التأزم، كما قلنا. إذ رأى في كتابه الذي نتناوله هنا، وعلى عكس ما كان يفعل الاقتصاديون الكلاسيكيون، أن التشغيل الكامل للعمال لا يمكنه أن يكون معطى تلقائياً، ما يجعل تدخل الدولة ضرورياً في أزمنة اشتداد البطالة، حتى لو أدّى ذلك إلى حدوث عجز في الأموال العامة.

والحال، أن نظرية كينز هذه إذا كان روزفلت صاغ بناءً عليها "الصفقة الجديدة" فإن أوروبا بأسرها تبنتها خلال فترة ما بعد الحرب الثانية. وهذا ما جعل كينز يعتبر أكثر صاحب ثورة في علم الاقتصاد، وجعل نخبة المجتمع البريطاني المتحلّقة من حول "جماعة بلومبسبوري"، الليبرالية - اليسارية، تفخر بانتسابه إليها، حيث كان بيرتراند راسل يقول عنه إنه "الكائن الأكثر ذكاءً، والأكثر حيوية، الذي قيض لي أن أتعرف إليه. أنا عندما أتجادل معه يخامرني شعورٌ بأنني أنما أضع حياتي بين يديّ".

وكان كينز لفت إليه الأنظار بشكل استثنائي خلال مؤتمر الصلح في فرساي حين كان عضواً في الوفد البريطاني وانسحب، إذ وجد أن ما تنصّ عليه الاتفاقيات سوف يدمّر أوروبا، لا سيما منه ما يتعلق بالبنود التي ستذل الشعب الألماني. ولم يكن ذلك آخر مؤتمر يعلن موقفاً ضده، إذ سنراه يفعل الشيء نفسه بعد ذلك في مؤتمر بريتون وودز، حين وقف ضد الأميركيين مطالباً بنقود عالمية، بدلاً من الاعتماد على الدولار. لكن، في الحالتين كان كينز خاسراً، وفي الحالتين تبيّن للعالم لاحقاً أنه كان على حق.

هل كان يكره الطبقة العاملة؟
تقول لنا سيرة كينز إنه وُلد عام 1883 في كامبريدج، ودرس حتى 1920 في إيتون، ثمّ في كلية الملك في كامبريدج (حتى 1906)، حيث بدأ ينضم إلى حلقات الحزب الليبرالي. وفي 1908 التحق بالمكتب الهندي، وفي 1909 بدأ العمل في الصحافة، ثم أسس نادي الاقتصاد السياسي في كامبريدج، في الوقت الذي انضم فيه إلى "جماعة بلومبسبوري" مع فرجينيا وولف والأخوة ستراتشي وروجر فراي وغيرهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في 1912 نشر واحداً من أوّل كتبه الاقتصادية "النقد الهندي والمالية"، وبين 1914 و1919 أضحى واحداً من كبار موظفي وزارة المالية، وهو بهذه الصفة أسهم في الإعداد لاتفاقية فرساي، لكنه وقف يعارض النتائج التي أسفر عنها مؤتمر الصلح، ونشر في 1919 كتابه الشهير "النتائج الاقتصادية للصلح". ومنذ ذلك الحين لم يكف عن نشر الكتب والدراسات التي كانت تطالب جميعها بتدخل الدولة وتعزيز القطاع العام من أجل خلق فرص عمل كاملة ودائمة للعمال.

والطريف، أن هذا الاقتصادي الفذّ الذي أنفق عمره يدافع عن حقّ العمال في العمل، كان يكره العمال، أو هذا على الأقل ما تقوله لنا دراسة نُشِرت قبل سنوات في بريطانيا تحت إشراف جون توي، الأستاذ في كامبريدج، الذي جمع عديداً من النصوص التي كان كينز كتبها في 1913، وجاء فيها أنّ العمال ليسوا أكثر من "سكارى وجهلة يجب أن يخضع ازدياد عددهم لرقابة الدولة".

مهما يكن من كتابات كينز المكتشفة حديثاً، فإن ذلك لا يقلل من قيمته باحثاً اقتصادياً أثّر في أجيال بأسرها من الباحثين، وربما في مجموع الأحزاب الاشتراكية الأوروبية، خصوصاً عبر كتب مثل "دراسة حول الإصلاح المالي" (1923)، و"النتائج الاقتصادية لنظرية السيد تشرشل". وفي هذا النصّ يقف بوضوح ضد سياسة تشرشل الاقتصادية، وإضافة إلى هذا النشاط الاقتصادي خاض معترك الحياة الفنية من خلال مساندته الجمعيات والمجلات وشرائه اللوحات، ومساندته إقامة مسرح الفن في كامبريدج، وزاد اهتمامه بالفنون الاستعراضية منذ زواجه من راقصة الباليه الروسية ليديا لوبوكوفا في 1925.

وعُيّن كينز في 1941 واحداً من مديري بنك إنجلترا، وفي 1945، وقبل وفاته بعام، فاوض الأميركيين بشأن القروض والمساعدات التي كانوا يريدون تقديمها إلى البريطانيين، فقالوا عنه إنه ليس دبلوماسياً في تفاوضه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة