Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رواية فرنسية عن فشل الأكراد السوريين في الاندماج

"أخي الكبير"  تكشف بؤس العرب في ضواحي باريس وترجمتها صدرت ضمن "برنامج طه حسين"

إحدى الضواحي الباريسية (أ.ف.ب)

 رواية "أخي الكبير" في باريس عام 2017 وحصل كاتبها الفرنسي مِن أصل كردي ماهر جوفن (1986) عنها على جائزة غونكور للرواية الاولى 2018، وأخيراً ترجمها عن الفرنسية صابر رمضان وصدرت عن دار "العربي للتشر والتوزيع" في لقاهرة؛ ضمن سلسلة "كتب مختلفة/ روايات مترجمة" والتي قدمت حتى الآن أعمالاً من 45 بلداً حول العالم.

صدرت ترجمة "أخي الكبير" إلى العربية، بدعم من "برنامج طه حسين لدعم النشر" (المعهد الفرنسي في باريس) و"برنامج طه حسين لدعم الترجمة" (المعهد الفرنسي في مصر/ سفارة فرنسا في مصر)، وهي رواية يمكن إدراجها على نحو ما ضِمن "أدب الصدمة الحضارية"، إذا جاز التعبير، في شأن باريس تحديداً، كما في "تلخيص الإبريز في تلخيص باريز"، لرفاعة الطهطاوي، و"أديب" لطه حسين، و"عصفور مِن الشرق" لتوفيق الحكيم، و"الحي اللاتيني" لسهيل إدريس؛ على سبيل المثال.

تعكس رواية "أخي الكبير" إلتباس الهوية، بدءاً من الغلاف الذي يتضمن وجهاً بملامح شرق أوسطية؛ نصفه بلِحيةٍ، والنصف الآخر من دون لِحية، فيما يصنع العنوان إلتباسا آخر، بما أن المهيمن على فضاء السرد بضمير المتكلم هو الأخ الأكبر، ومن ثم كان من الأدق أن يكون العنوان "أخي الصغير"، ثم يترسخ الالتباس في "الخاتمة"، حين يجد القارئ نفسه أمام ما يشبه التصريح بأن كل ما ورد قبلها قد يكون توهمات شاب متشظي الهوية، يعاني من "الشيزوفرينيا"، أو "الفصام". وبحسب متخصصين، فإنه خلافاً للفكرة الشائعة، فليس الفصام انفصاماً في الشخصية، بل هو عبارة عن اضطراب نفسي (ذهان – Psychosis)، لا يستطيع الشخص المصاب به التفريق/ التمييز بين الواقع وبين الخيال، ومن أنواعه فصام المطاردة ويكون الأشخاص الذين يعانون منه غارقين في أوهام عن أنهم ملاحَقون/ مطارَدون من شخص آخر أو طرف معيّن، ومع ذلك، تبقى طريقة تفكيرهم، كلامهم ومشاعرهم عادية جداً. لكن يبقى أن هذا العمل يعكس واقعاً مريراً يعيشه كثير من الفرنسيين، من أصول غير فرنسية، في ظل تهميش مجتمعي ممنهج يفتح المجال واسعاً أمام استخدامهم وقوداً لأعمال إرهابية، تمولها وتقودها ميدانياً جهات غامضة، ترفع زوراً راية "الجهاد الإسلامي".           

كردي وفرنسية

يؤجل السرد ذكر اسمي الشخصين اللذين يتبادلانه إلى النهاية، لكن نعرف مبكراً أن أحدهما يكبر الآخر بعامين، وأنهما ولدا في ضواحي باريس لأب مهاجر من أصل كردي سوري، وأم من عائلة كاثوليكية فرنسية. في أواخر التسعينيات من القرن الماضي تنضم جدة الولدين لأبيهما وتدعى "زهيرة" إلى عائلة ولدها، وتلعب دوراً في تعليمهما الصلاة وحفظ آيات من القرآن. لكن الأب الذي يعمل سائق تاكسي رغم أنه يحمل درجة الدكتوراه، يرفض ما تفعله أمه بل ويعنفها عليه، بما أنه شيوعي. وفي تلك الأثناء تموت أم الولدين وهما في مرحلة المراهقة، ثم سرعان ما تعتل صحة الجدة "زهيرة" فيودعها الأب داراً لرعاية المسنين، ويصبح المسؤول الوحيد عن تنشئة ابنيه بعدما رفض أن يتزوج من جديد. ومن هنا يبدأ تعمق شعورهما بالغربة والفشل الذريع في الاندماج مع مجتمع يعاملهما بعنصرية. نعرف في الخاتمة أن السارد الرئيسي اسمه "آزاد"، ومعناه الحر الطليق، وتكمن المفارقة هنا في أننا بصدد شخص مراقَّب طوال الوقت من الشرطة، ووصل به الحال أنه لم يعد قادراً على مقاومة الضغوط التي تفرض عليه أن يتحول عينا للأجهزة الأمنية على سكان ضواحي باريس ممن يخالطهم بحكم الجيرة أو بحكم عمله كسائق. هذا العمل هو مشكلته الأكبر في الحياة بما أنه مهدد بفقده إذا توقف عن العمل مخبرا لضابط الشرطة الذي يدع لوجين".         

يقول الأخ الأكبر مؤكداً تمزق هوية قطاع واسع من الفرنسيين: "هذه الفرنسية المشوَّهة هي لغتُنا الأم، فعَلنا كلَّ ما في وسعنا كي نقومها لكن دون جدوى، عليك ألا ترهق نفسك في محاولة فهم لغة المهاجرين، فلغتهم أقل اندماجا منهم" صـ28. أما الأب فيشعر أن ابنه الأكبر قد خانَه عندما عمل سائقاً لدى شركة "أوبر"، وأن الابن الأصغر الذي يعمل ممرضاً، قد خانَ الجميع عندما توجَّه سراً إلى سوريا تحت ستار العمل الإغاثي ليجد نفسه متورطاً في قتال عبثي يتسربل بغطاء "الجهاد".

العائلة تعيش في إحدى ضواحي باريس، الأب من أصل كردي سوري، الأم من عائلة كاثوليكية فرنسية، تموت على أثر أزمة صحية، وتترك ولديها المراهقين مع أب يقسو عليهما وعلى أمه لأنها تعلمهما الصلاة، قبل أن يودعها داراً لرعاية المسنين. ويقول الأخ الأكبر أيضاً: "مِن المحزن أن يتم التعامل معنا على أننا زبالة فرنسا" صـ41. في ذلك الوقت كان قد بلغ الثلاثين من عمره، واهتمام الشرطة الفرنسية به وبغيره من سكان الضواحي تحوَّل مِن كونهم يتاجرون في المخدرات ويتعاطونها ويمارسون الدعارة، إلى أنهم إرهابيون. تزامن ذلك مع الهجوم على صحيفة "شارلي إبدو"، في بداية 2015 ما أدى إلى قتل وجرح نحو 20 شخصاً، ثم ظهر تسجيل مصوَّر تبنى فيه تنظيم "القاعدة في جزيرة العرب" العملية، وخرجت مسيرات مليونية في مختلف أنحاء فرنسا، وفي بلدان أخرى للتنديد بذلك العمل الإرهابي، الذي عزّز من دون شك من "الإسلاموفوبيا" في هذا البلد وغيره من بلدان الغرب. أما الطامة الكبرى فوقعت مع هجمات 13 نوفمبر من العام نفسه والتي شملت عمليات إطلاق نار وتفجيرات انتحارية واحتجاز رهائن، خصوصاً في مسرح "باتاكلان"، الذي شهد الحصيلة الأعلى في الخسائر البشرية (89 قتيلاً من إجمالي 130 قتيلاَ). وتعتبر تلك الهجمات هي الأكثر دموية في فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية، والأكثر دموية في الاتحاد الأوروبي منذ تفجيرات قطارات مدريد عام 2004. هذه الهجمات قيل رسمياً إنه جرى التخطيط لها في سوريا، بواسطة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) بحيث اعتبره الرئيس الفرنسي وقتها فرانسوا أولاند "عمل حرب، أرتكب على ترابنا بتواطؤ فرنسي". ورداً على تلك الهجمات، تمَّ إعلان حالة الطوارئ في البلاد للمرة الأولى منذ أعمال شغب 2005، ووضعت ضوابط مؤقتة للحدود. أبدى العديد من الأشخاص والمنظمات والحكومات تضامنهم، والبعض عبر وسائل التواصل الاجتماعي. أطلقت فرنسا يوم 15 نوفمبر(تشرين الثاني) أكبر سلسلة ضربات جوية ضمن عملية الشمال وهي العملية التي تساهم فرنسا من خلالها في حملة قصف أهداف داعش في سوريا والعراق، فضربت فرنسا أهدافاً للتنظيم في الرقة، انتقاماً للهجمات. في 18 نوفمبر، تم الإعلان عن مقتل المشتبه به المدبر للهجمات البلجيكي عبد الحميد أبا عود في مداهمات شنَّتها الشرطة الفرنسية في ضاحية سان دوني.

البطل المريض

وهكذا لا بد من وضع هذه الخلفية في الاعتبار عند قراءة رواية "أخي الكبير"، بما أنها العامل الأهم وراء تفاقم المرض العقلي لبطلها، الذي هو في الوقت ذاته ساردها الرئيسي، أو حتى "مؤلفها"، إذ يخاطب القراء الافتراضيين في الصفحة الأخيرة ليخبرهم بأنه هو الراوي الأوحد لـ"كل ما قرأتموه في هذا الكتاب". وضمن ما رواه: "بعد أحداث شارلي إبدو وأحداث 13 نوفمبر كان يتم استدعاؤنا على خلفية قضايا إرهاب"صـ 49 مع ملاحظة أنه إنما ينتمي إلى "عائلة بسيطة جداً" صـ 56. ثم يضع على لسان الأخ الأصغر قوله "هنا في فرنسا نعامل على أننا حثالة المجتمع" صـ67. ويحكي أن ذلك الأخ فوجئ بمنظمة "أطباء بلا حدود" توقف السفر إلى سوريا بعد خطف 14 فرنسيا كانوا يعملون معها هناك. خطفتهم جماعات مسلحة. ثم تقرَّب الأخ نفسه إلى منظمة إغاثية أخرى تدعى "الإسلام والسلام".

يقول الأخ الكبير: "نحن لسنا فرنسيين حقيقيين ولا سوريين حقيقيين ولا سكان أصليين حقيقيين ولا مهاجرين حقيقيين ولا مسيحيين ولا مسلمين... لسنا إلا خليطاً دخيلاً على هذا العالم" صـ 86. وحين سئل الأخ الأصغر: "ما رأيك في بشار الأسد؟"، قال: "إنه دموي مجنون"، فردَّ السائل وهو عنصر قيادي في العمل المسلح ضد نظام الحكم السوري: "إنه كافر، لكنه عدو جيد". في تلك الأثناء اشتد تبادل العنصرية بين يمينٍ متطرف تقوده مارين لوبان، ومسلمين مهاجرين يمقتون "البيض"، فنجد بعضهم وقد أوسعوا شاباً أبيض ضرباً حتى دخل في غيبوبة؛ "لأنه كان يتبادل القبلات مع صديقته في الشارع". من هؤلاء أشخاص أوروبيون دخلوا حديثاً في الإسلام ومنهم "يان" الذي كان زعيم عصابة قبل أن يعتنق الإسلام ويطلق على نفسه اسم "يونس" ويجاهر بكراهيته لمارين لوبان. وهناك "عصام"، وهو برتغالي اسمه الأصلي "بترو"، تظاهر باعتناق الإسلام ليكون عيناً للشرطة في أوساط المشتبه في أنهم متطرفون يدبرون في الخفاء لعمليات إرهابية.

الاخ المنفصم

الأخ الأصغر أشتهر في تلك الأوساط باسم "ضمادة" بما أنه ممرض، فيما أشتهر أخوه بـ"البريتاني" لأن جدته لأمه من مقاطعة "بريتانيا" كما أشتهر بلقب "الطيَّار لبراعته في قيادة السيارات"، وهو كان قد التحق بالجيش الفرنسي بعد أن فشل في احتراف كرة القدم وترك دراسته الجامعية، وخلال معارك في تشاد تتضح إصابته بالشيزوفرينيا، ومن ثم يتم تسريحه، لينجر لبعض الوقت إلى عالم تهريب المخدرات وتعاطيها، ويقبض عليه ضابط شرطة ليتحول إلى "مخبر" مقابل أن يعيش في أمان.   

لن يصل القارئ أبداً إلى يقين بخصوص الأخ الأصغر، بل ربما يحق له أن يتشكك في وجوده أصلاً رغم أن جزءاً لا بأس به من السرد يأتي على لسانه، فيما ينشغل به معظم السرد: "إنه أخي أكثر شخص أكرهه في العالم... إنه أخي الذي أحبه أكثر من أي شيء في هذا العالم" صـ 128- 129. الأخ الصغير كان الفرنسي الوحيد الذي يتحدث العربية ضمن طاقم طبي غير حكومي في شمال سوريا، وقد لاحظ أن اليوم الذي وقعت فيه هجمات "شارلي ايبدو" كان بمثابة "عيد عند المجاهدين" صـ 143. وبعد سبعة أشهر من العمل هناك، "أصبحتُ أشعر بأنني حاصلٌ على الدكتوراه في الطب" صـ 144. بعد أن نجح في توليد مجاهِدة بعملية قيصرية سأله زوجها: "لماذا لم تدرس الطب حتى تصبح طبيباً رسمياً؟ فقال له: "دراسة الطب في فرنسا ليست لأمثالي".

ذلك الأخ الأصغر الذي نعرف في نهاية الرواية أن اسمه "حكيم" يصفه أخوه أوصافاً توحي بأنهما وجهان لعملة واحدة وهو يسرد ما بينهما من اختلافات ربما تؤكد تشظي الهوية والفشل في الاندماج حتى على صعيد العائلة الواحدة: "كنتُ شاباً فاشلاً أعشق السيارات والفتيات الجميلات، أما هو فكان شاباً عاقلاً ورزيناً لا يفارق الكتاب، كان يقرأ ويعيد قراءة قصص الأنبياء.

المزيد من ثقافة