مفاجأة جميلة صنعها البنك المركزي التونسي بإصدار ورقة نقدية من فئة العشرة دنانير عليها صورة أول طبيبة تونسية توحيده بالشيخ. إذ اعتاد التونسيون منذ إصدار الدينار التونسي بعد الاستقلال عام 1956، على صور أول رئيس للجمهورية الحبيب بورقيبة، وصور لزعماء وقادة تاريخيين تصدروا الأوراق النقدية، وآخر شخصية تونسية وضعت صورها على العملات القيادي النقابي فرحات حشاد، الذي اغتيل عام 1954.
الطبيبة التي تحدت الواقع
لم تكن رحلة الوصول لنيل شهادة الطب سهلة مقارنة بواقع الحال، وتوحيده بالشيخ المولودة عام 1909، كانت أول تونسية تحصل على شهادة الثانوية العامة عام 1928، وسافرت إلى فرنسا حيث درست في كلية الطب بباريس وتخرجت عام 1936، وتخصصت بطب النساء والتوليد والأطفال. عادت إلى وطنها وافتتحت عيادة لها في وسط أحياء مدينة تونس. وبعد الاستقلال عُيّنت رئيسة لقسم التوليد في أكبر مستشفى حكومي، وكانت من رائدات سياسة التنظيم العائلي وتحديد الولادات التي انتهجتها تونس منتصف سنوات الستينيات، وأسهمت في تأسيس المستوصفات الصحية في أغلب القرى والأرياف، وكان لها الفضل بخفض عدد وفيات النساء أثناء الولادة ووفيات الرضع مقارنة بدول الجوار.
الحبل السري لأحلام مستغانمي
الكاتبة والروائية الجزائرية أحلام مستغانمي نشرت تدوينة كشفت فيها عن علاقتها بالطبيبة التونسية بالشيخ، معلقة عن إصدار ورقة نقدية من فئة عشرة دنانير في تونس، تحمل صورة أول طبيبة في تونس، وقالت "لم أصدّق أن الدولة التونسية اختارت أن تكون صورتها على عملة العشرة دنانير، أعدتُ قراءة الإسم، وعندما تأكدّت منه وجدتني أبكي، بإمكاني أخيراً أن أتعرّف إلى ملامحها، ها هي ذي توحيده بن الشيخ أخيراً! يا له من اختيار موفّق، أن تكون الدكتورة توحيده بن الشيخ رمزاً لتكريمٍ مزدوج للمرأة التونسية، و لـ"حُماة الحِمَى" العاملين في المجال الصحيّ في مواجهة الكورونا".
مستغانمي قالت "بيني وبين هذه المرأة حبلٌ سريّ، هي التي قطعته لتُخرجني إلى الحياة، هي من سمعت صرختي الأولى، هي من عايشت مخاضَ أمي، هي من طمأنت أبي".
وأضافت "لم يكن بورقيبة رئيساً بعد، بل زعيماً يقود تونس بأفكاره التقدمية. وكانت توحيده بالشيخ عائدة لتوّها من كلية الطب في فرنسا، وكان أبي بمحاذاة نضاله الجزائري، بورقيبيّ الهوى، دستوريّ الانتماء. كان يُصرّ أن أولد في المستشفى لا في البيت، على يد أول طبيبة تونسية، بل وربما أول طبيبة في المغرب الكبير كله، لكأنه في انحيازه للعلم كما للمرأة، كان يريدني مذ مولدي من الأوائل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"تلك التي سترون بعد الآن صورتها على الأوراق النقدية، لي قرابة بها. حفظت اسمها، بعدد المرات التي سمعت أمي تذكرها حتى آخر سنوات حياتها. فقد كانت توحيده إحدى مفاخر أمومة أمي وأنوثتها، وأجمل ذكرياتها، حتى خلتها صديقتها. فقد ولدتُ أنا وأختي صوفيا على يدها. وذلك الرضيع الذي ترونه على الورقة النقدية بجوارها في قماطه، لعله أنا. كنت أصغر من أن أشكرها، فلا أنا كنت أعرف من تكون، ولا هي كانت تدري ماذا سأغدو. تلك المرأة التي كانت أيضاً طبيبة أطفال، والتي كبرتُ على يدها، لم تكن سوى تونس، الأم الحاضنة لنا في منفانا، والتي أهدتني حواسي الخمس، وأصغت إلى أولى كلماتي، ورأتني وأنا أخطو أولى خطواتي، وأرضع حليب أمي وأنا أتشمّم رائحة الياسمين، الذي كانت تقطفه من حديقتنا الصغيرة، وتخبّئه تحت الوسائد لتعطّر سريرها. أتوقّع أن تكون توحيده على مدى طفولتي، قد قامت بوزني لتتأكد من نُمُوّي الطبيعي، ولم تدرِ بما سيحمله جسدي الصغير لاحقاً من أحزان هذه الأمة.
احتواء التاريخ خصوصية تونسية
خديجه بن حسين أستاذة الفلسفة في الجامعة التونسية والناشطة في المجتمع المدني، أوضحت لـ"اندبندنت عربية"، أن تونس بشكل عام، كانت دائماً تحتوي تاريخها وهذه خصوصية تونسية بحتة، وتتمثل بالاعتزاز بالشخصيات التونسية.
وذكرت بن حسين أن هذا القرار اتخذ منذ أكثر من سنة، بوضع صور شخصيات وطنية أثرت في معركة الاستقلال وبناء الدولة الحديثة، ووضع صورة الطبيبة توحيده هو اعتراف للمرأة بدورها في مجال الصحة، والذي اعتبر تاريخياً ذكورياً، وأن بالشيخ التي تربت يتيمة، هي نتاج لموقف والدتها واعتراف للمرأة التونسية ودورها التاريخي، ووضع صورتها على ورقة نقدية من فئة العشرة دنانير، والأكثر تداولاً في الأسواق، له تأثير مجتمعي وفيه رسالة وموقف سياسي لمن حاول تقزيم دور المرأة في المجتمع أو تجاهله، وخلق تحولاً في المستوى السياسي بإجبار كل الأطراف على التأقلم مع الشخصية المجتمعية التونسية الأساسية والتي للمرأة فيها نصيب الأسد.
تكريم لجيش الرداء الأبيض
أما الإعلامية وفاء دعاسة فقد نوهت باختيار البنك المركزي، واعتبرتها بادرة تندرج في سياق رفع التحية لقطاع الصحة ولجنود الرداء الأبيض، الذين يبذلون كثيراً من الجهد والتضحية في سبيل إنقاذ حياة المصابين بفيروس كورونا، لكن بدرجة أولى تكريم للمرأة التونسية عبر شخص توحيده بالشيخ، أول طبيبة في تاريخ البلاد التونسية.
وقالت دعاسة لـ"اندبندنت عربية"، "يحق لتونس أن تفتخر بالريادة في تكريم المرأة التونسية بوضع صورتها على العملة منذ فجر الاستقلال، ويحق للمرأة التونسية كذلك أن تنال مثل هذا التكريم والافتخار به، إذا ما قارنا ذلك بالدول العظمى في العالم، فمثلاً لم تقرر الولايات المتحدة وضع صورة المرأة على نقودها إلا عام 2016".
وتضيف "تجدر الإشارة إلى أن هذه المبادرة ليست الأولى، وتوحيده بالشيخ ليست أول امرأة تظهر ملامحها على العملة التونسية. بل كانت الفنانة أنيسة لطفي هي صاحبة لقب أول امرأة توضع صورتها على النقود".
فمنذ الاستقلال، قرر بورقيبة تكريم المرأة عبر وضع صورتها على عملة البلاد. ولعل ما يجهله الكثيرون هو أن صورة الممثلة أنيسة لطفي مرسومة على العملة التونسية، وذلك بعد أن رشحها الرئيس الحبيب بورقيبة لهذا الشرف على إثر مشاهدته لها على المسرح، لتكون صورتها مطبوعة على الورقة المالية "الدينار"، التي توقف التعامل بها، وكذلك القطعة الحديدية من قيمة الدينار، والتي لا يزال التعامل بها متواصلاً إلى حد اليوم.
عشر سنوات على وفاتها
الدكتورة توحيده التي فارقت الحياة نهاية عام 2010، أعادت تونس تخليد ذكراها. وتزامن إصدار الورقة النقدية مع حرب يخوضها العالم الأجمع ضد وباء كورونا، يتقدمه جيش من الأطباء. وكان في هذا التزمن غير المقصود رسالة تقدير واعتراف بالجميل للعلم والطب ودوره في حماية أرواح البشر.