مخاوف حقيقية تنتاب الأوساط الرسمية والشعبية في السودان من وصول فيروس كورونا إلى مناطق تعدين الذهب بالطرق اليدوية التقليدية، حيث تتمركز تجمعات بشرية ضخمة ضعيفة التنظيم وشحيحة الخدمات، وسط الصحاري والأصقاع النائية الموحشة. وفي هذه المناطق، هناك نحو ستة ملايين من المنقّبين والعاملين في الأنشطة المكمّلة، معظمهم من الشباب، الذين دفعت بهم ظروف المعيشة القاهرة إلى العمل في مهنة صعبة وخطيرة.
مخاوف وتدابير
إزاء هذا الواقع، ارتفعت أصوات عدّة تنادي صراحة بإغلاق تلك المناطق، وبصفة خاصة الأسواق التي تحيط بها، خوفاً من وصول العدوى إليها، تحسّباً للمآلات الكارثية.
ولم تخفِ وزارة الطاقة والتعدين انزعاجها وقلقها، من أن تجتذب أسواق الذهب في مناطق التعدين التقليدي، الأجانب من الدول المجاورة، مثل أفريقيا الوسطى وتشاد ومصر وإريتريا وإثيوبيا وجنوب السودان. وأكدت الوزارة أنها اتّخذت تدابير صحية احترازية للتصدي للوباء في 70 سوقاً في مناطق التعدين في 14 ولاية.
وبحسب مدير إدارة التعدين التقليدي عبدالله الأشم، فإنّه وعلى الرغم من اكتظاظ مناطق التعدين الأهلي بالعاملين في هذا المجال وملامسة أسواقها للحدود مع ست دول، إلّا أنّها لم تسجّل أي من حالات الاشتباه أو الإصابة بكورونا حتى الآن، غير أنّه أبدى مخاوفه من أن يصل إليها الفيروس عاجلاً أو آجلاً. وكشف عن أن وزارته تتواصل مع السلطات الصحية لتوفير المعينات اللازمة، مؤكداً الاستعداد لتطبيق الإجراءات الاحترازية المطلوبة كافة في تلك المناطق الحساسة.
وأوضح الأشم أن السلطات اتّخذت التدابير الأولية التي شملت إنشاء مكاتب لإدارة البيئة وتكثيف العمل التوعوي الوقائي وسط العاملين بالتعدين التقليدي، عبر نشر الملصقات والرسائل الصوتية وتوفير سيارات الإسعاف لضمان سلامتهم.
التحذير من كارثة
على صعيد متصل، قال البروفيسور حسن بشير، الاقتصادي ومدير جامعة البحر الأحمر، إنّ انتشار كورونا سيؤثر بشكل سلبي في الإنتاج والصادرات ومناطق التنقيب عن الذهب ومنتجات أُخرى. ودعا الشعب السوداني والشباب ولجان المقاومة إلى إعلان حالة الاستنفار وقيادة مبادرات لمحاربة ومنع انتشار الوباء، لأنّه في حال تفشّيه، فإن الأثر سيكون كارثياً في كل البلاد.
من جهتها، حذّرت تنسيقية لجان المقاومة والتغيير في محلية دلقو شمال السودان، من وصول العدوى إلى أسواق ومناطق التنقيب التقليدية المكتظة بطريقة عشوائية، والقريبة من الأحياء السكنية، وفي مواقع تفتقر إلى المرافق الصحية المهيّأة، وتعتمد على مستشفيات ومراكز صحية ضعيفة الإمكانيات.
وفي السياق ذاته، دعا عضو تجمع الأجسام المطلبية عصام الدين أبو زيد، إلى إغلاق أسواق التعدين، تطبيقاً لقرار مجلس الوزراء الخاص بالتدابير الاحترازية وتوصيات اللجنة العليا لتفادي انتشار الفيروس، التي تمنع التجمعات بصفة عامة. وأشار إلى أنّ أسواق التعدين مع اكتظاظها، تفتقر إلى أدنى شروط السلامة الصحية والبيئية، ويُنذر استمرارها بوضعها الحالي بوقوع كارثة حقيقية في حال وصول كورونا إليها.
الفقر والمغامرة
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفقاً لمصادر في اتحاد التعدين التقليدي، بات هذا النوع من التعدين على الرغم من خطورته وقساوة ظروفه، يسهم بشكل ملحوظ في دعم الاقتصاد وتخفيف حدة الفقر بتحسين الأوضاع المادية لعددٍ كبيرٍ من الأسر، فضلاً عن خفض نسبة البطالة والحدّ من الهجرة إلى المدن. ويُقدَّر عدد العاملين في هذا النشاط بحوالى ستة ملايين شخص، منهم مليون منقب، وخمسة ملايين آخرين يعملون في المهن المصاحبة والمكمّلة لعملية التعدين في 266 موقعاً بولايات السودان المختلفة، يمتدّ بعضها على طول الشريط الحدودي مع دول الجوار.
وتشكّل أسواق الذهب التقليدية المجاورة لمناطق التعدين، منافذ قريبة للشراء، تكتظ بمندوبي رجال الأعمال وصغار التجار والباعة الجائلين والمطاعم الشعبية، وهي تجمعات يرتادها كثيرون من الأجانب من الدول المتاخمة، ممّا يضاعف من حساسية الوضع واحتمالات التفشّي، خصوصاً أنّ العاملين في هذا القطاع يواجهون سلفاً مشاكل صحية واجتماعية، فضلاً عن تلوث التربة والسكن الناتج من إفرازات مخلّفات التعدين واستخدام بعض المواد السامة كالزئبق في عمليات التنقية والاستخلاص.
لعبة الحظ
ويُعتبر التنقيب عن الذهب بالطرق التقليدية، عملاً شاقاً وينطوي على مخاطر جمة، تبدأ بالاستكشاف عبر استخدام أجهزة الاستشعار المحمولة يدوياً سيراً على الأقدام، ونقل الحجارة وطحنها، ومعالجة طحين الحجارة بالزئبق والماء وصهره وتنقيته.
ويلعب الحظ في كثير من الأحيان الدور الأكبر في الحصول على كيلوغرامات عدّة من الذهب تفتح باباً للثراء، أو ربما يُسفر كل الجهد عن حفنة صغيرة وبضع أوقيات من الذهب، وربما يدفع المنقّب حياته ثمناً لطموحه وأحلامه. فتزهق روحه بلدغة ثعبان أو عقرب في الصحراء، وقد يُدفن حيّاً تحت أنقاض بئر متهدم.
قيود وشروط
وفي سبيل ضبط وتنظيم حركة الشباب وتدافعهم باتجاه التنقيب التقليدي، أدخل البرلمان السابق بعض التعديلات على قانون التعدين عام 2015، فرض بموجبها قيوداً على الراغبين في التعدين من فئة الشباب، بتجريم أي شخص يقوم بالبحث والاستكشاف من دون الحصول على ترخيص ساري المفعول من السلطات المختصة.
وعقب إعلان السلطات السودانية لحالة الطوارئ الصحية، توقفت حركة التنقل الداخلية بالباصات بين الولايات، ممّا حدّ من حركة الذهاب والإياب من مناطق التعدين الأهلي والأسواق المحيطة بها. وبحسب تقارير وزارة المعادن، يستوعب هذا القطاع عدداً كبيراً من الشباب العاطلين عن العمل، الذين نجح بعضهم في انتشال نفسه وأسرته من الفقر، فيما لا يزال البعض الآخر يواصل رحلة البحث عن الذهب.
وينتشر معدن الذهب في غالبية أودية وصحارى شمال السودان، التي تُعدُّ منجماً تاريخياً له. وتذخر أراضي البلاد بحكم طبوغرافيتها المتنوعة، بين الطبيعة الصحراوية والتلال والصخور البركانية والرسوبية، بعددٍ كبيرٍ من المعادن، أشهرها الذهب الموجود بنسب عالية في المناطق الشمالية. كما يُكتشف أحياناً مصحوباً بالفضة في جنوب ولاية النيل الأزرق وبعض المناطق الأخرى.