Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إعلانات "السوشيال ميديا" في السعودية... يد الاحتيال الناعمة

يفوت على من يبررون تقديم "المشاهير" على الإعلام "لكفاءتهم في الترويج" أن الدعاية لم تكن يوماً من مهام الإعلامي

يتلاعب بعض المعلنون بالمفردات لتجاوز أنظمة الإعلان الرقمي وفقاً لأخصائيي تسويق (غيتي)

لعبت المؤسسات في كل مراحل تطور الإعلام دوراً مهمة، في الحفاظ على ضابط المهنية في تقديم ما يظهر على وسائل الإعلام، إلا أنه مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي بدأت هذه الضوابط تتلاشى، وبدأت وجوه فردية تتصدر المشهد بدون أي ضابط أخلاقي وقيمي شخصي بعد غياب الضابط المؤسسي.

فراغ الضوابط هذا، انعكس على الدعايات الترويجية التي تقدم في المنصات الرقمية، إذ بات من المعتاد والدارج مشاهدة مخالفات لقوانين الإعلان والتسويق في هذه المنصات، سواءً من ناحية التظليل في الدعاية، أو حتى من ارتكاب مخالفات جسيمة في إطلاق وصوف صحية تسويقية على منتجات غذائية أو طبيعية دون موافقة الجهات المختصة في الفسح الدوائي.

هذه الفوضى التنظيمية تضعنا أمام أسئلة مهمة، حول دور المؤسسة الرسمية في تقديم معيار أخلاقي للناشطين الرقميين، يوزع الفرص الإعلانية بين الناشطين أنفسهم بشكل عادل على أساس قيمي، لصالح من حقق حضوراً في واجهة سوق الدعاية الرقمية دون الحاجة للتنازل عن قيمه الأخلاقية أو ممارسة سلوكيات خارجة عن القانون، وتنظم قوانين الدعاية دون السماح بارتكاب المخالفات الدعائية أسوةً بمنصات الإعلان التقليدية.

فوضى الإعلانات
لا تقتصر فوضى الإعلان لدى حسابات التواصل الاجتماعي، على غياب الضوابط الأخلاقية في اختيار المعلن، بل يتعدى ذلك في غياب الضوابط القانونية في طريقة الإعلان، على الرغم من سن وزارة التجارة السعودية قوانين جديدة لضبط التجارة الرقمية، تشمل عملية التسويق الرقمي.

إذ يدافع عبدالرحمن الحسين، المتحدث الرسمي باسم وزارة التجارة، عن اجراءات الوزارة في ضبط الأمر "سنت الوزارة أحكاماً لضبط التجارة الالكترونية، تشمل عملية الإعلان، إذ ينص نظام التجارة الإلكترونية الصادر العام الماضي، على غرامة تصل إلى مليون ريال وإيقاف مزاولة النشاط في حال مخالفة أحكام التجارة الإلكترونية بشكل عام"، ويجرم القانون في مادته الحادية عشرة أي عرض أو بيان كاذب أو مصوغاً بعبارات من شانه أن تؤدي بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى خداع المستهلك أو تضليله.

إلا أن المحامي نايف آل منسي يعلق على هذه الجزئية قائلاً "التظليل في الدعاية دون تبيان أنه إعلان مدفوع يتطلب تشريعاً خاصاً يجرم هذا السلوك، عن طريق إجبار المشاهير بإضافة كلمة إعلان تجاري أو شئ من هذا القبيل ليتبين للمتلقي أنه أمام إعلان مدفوع الثمن"، ويضيف "مشكلة النظام القائم الآن هو أنه لا يسمي التظليل الدعائي بأنه غش بشكل مباشر، بل يقصر الغش على عيبٍ في ذات المنتج".

وشدد آل منسي على ضرورة أن يفرق النظام بشكل واضح بين النصيحة والدعاية "الدعاية لا يشترط فيها أن يقتنع القائم به بفوائد المنتج أو إيجابيته ما دام ظاهراً على صيغة إعلان، لأن المتلقي على دراية بأن ما يعرض أمامه وظيفته تقديم دعاية إيجابية للمنتج"، أما النصيحة "النصيحة التي تقدم من قبيل أن المشهور جرب المنتج ويوصي به وبفوائده من باب استخدامٍ شخصي في حين أن قبض عليه مالاً، فهو شكل من أشكال الغش الذي يتوجب التجريم بشكل مباشر".

إعلانات قاتلة
الحديث عن فوضى الإعلان في مواقع التواصل الاجتماعي لا يتوقف عند التظليل في المنتج، بل يتعداه في كثير من الأحيان باقتحام رواده عالم الدعاية للمنتجات صحية، أحد "التابوهات" الأخلاقية التي لا يتورع كثير منهم التربح من ورائها دون أي مسؤولية، على الرغم من تحذير هيئة الغذاء والدواء السعودية من التلاعب الدعائي في هذا الصدد.

إذ يشير تيسير المفرج مدير التواصل في هيئة الغذاء والدواء من أن أنظمة الهيئة ولوائحها، لا تفرق بين المنصات في الاشتراطات الخاصة بالإعلان والترويج "تشدد لوائح الهيئة على ضرورة حصول الشركات والمؤسسات الصحية والممارسين الصحيين على تصاريح من الهيئة، قبل الإعلان عن المستحضرات الدوائية والأجهزة والمنتجات الطبية في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي"، مشيراً إلى عدة مواد في لائحة الهيئة ذات الصلة.

وتنص اللوائح على ألا تحتوي المادة الدعائية والإعلانية أو التسويقية على أي معلومات مضللة للمستخدم، حول إمكانات الأجهزة والمنتجات الطبية المحددة من قبل المصنع، وألا تحتوي على عبارات يمكن تفسيرها بصورة خاطئة، بما في ذلك المعلومات على شبكة الانترنت.

وتشدد الأنظمة التي أشار إليها المفرج، على اقتصار الإعلان للمنتجات الدوائية على المنتجات التي يسمح للطبيب صرفها بدون وصفة طبية دون سواها، على أن يحصل على الموافقة من الهيئة قبل نشر الإعلان، وللهيئة الحق في إيقاف الدعاية وتجميد رخصة المنتج في حال مخالفة ذلك.

إلا أن لسوق الدعاية والإعلان طرقه في التهرب من الأنظمة، بحسب عبدالرحمن المحاميد مدير الحملات التسويقية في شركة تسويق وإعلان سعودية، الذي حكي تجربته في تصميم الحملات التسويقية لشركات منتجات صحية "وفق تجربتي مع عملاء ينشطون في مجال المنتجات الصحية، كالمكملات الغذائية ومنتجات البشرة والمواد الغذائية ذات الفوائد الصحية كالعسل، يشدد العملاء دائماً على أن نتجنب ذكر مصطلحات كـ(يعالج) أو (يعزز) أو (يكافح)، لتجنب القوانين الصحية التي تشترط أخذ موافقة هيئة الغذاء والدواء على أي إعلان لمنتج يحوي هذا النوع من النتائج"، وتفضل استبدالها بكلمات أكثر عمومية تصب في نفس المعنى "بالمقابل يطلب العملاء استخدام مصطلحات مثل (يقوي) أو (يساعد على التغلب)، وهي مصطلحات تخدم نفس المعنى إلا أنها خارج إطار المصطلحات الصحية الممنوعة"، ومن الأمثلة التي يشير إليها المحاميد "على سبيل المثال، تستخدم شركات مستحضرات البشرة عبارات مثل (منتجات طبيعية لحياة صحية مليئة بالنشاط والحيوية)، فهي في هذا النموذج أشار لذات المعاني الصحية لكن بعيداً عن المصطلحات التي تستوجب الفسح المباشر من قبل الهيئة"، ويصبح الأمر أكثر سوءً عندما يتعلق الأمر بمواقع التواصل الاجتماعي، التي يلف نشاطها كثير من الغموض من ناحية الرقابة على المنتجات التي تتولى استعراضها، بحسب المحاميد.

صراع بقاء أم مطالب مشروعة؟
من جانب آخر يعبر كثير من الإعلاميين عن استيائهم، لتذويب المسمى المهني لحرفتهم بتوزيعه على أساس القدرات الدعائية.

إذ يبرر البعض هذا التصدر غير المشروط لـ"مشاهير" التواصل الاجتماعي، بأنه واقعٌ جديد تفرضه قدرتهم الكبيرة على توزيع المحتوى الإعلاني الذي يُدفع لهم لأجل ترويجيه، مقابل الإعلام الذي لم يعد المنصة الأكثر كفاءة في لعب هذه المهمة، ويغيب عن هؤلاء أن مهمة الدعاية والإعلان لم تكن يوماً مهمة وسائل الإعلام وإن كانت تمارسها لأجل توسيع المداخيل، وبالتالي فنجاح أفراد التواصل الاجتماعي في أدائها لا يجعل منهم إعلاميين بل نجوم إعلانات ناجحين.

ويشدد سعود الريس رئيس تحرير صحيفة "الحياة" السابق "تعامل البعض مع مشاهير التواصل كإعلام بديل  خطأ كارثي، فامتلاك أولئك أدوات التسويق لا يعني بالضرورة امتلاكهم أدوات الإعلام"، لاختلاف المهنتين وإن استخدموا نفس الأدوات.

ويتحفظ الريس على تعامل المؤسسات الرسمية معهم كمسوقين للخدمات العامة "أفهم أن تتعاقد شركة مع أحدهم لتسويق منتج، لكن ليس من المنطقي أن تفعل ذلك جهة حكومية لتسويق خدمات عامة، فليس مفهوماً أن يصبح تقييم الخدمات الحكومية العامة مرتبطاً بمدى التسويق الإيجابي التي حظيت به الخدمة لا بجودتها"، مستعرضاً تجربة وزارة الصحة السعودية في إدارة الأزمة الصحية الحالية في السعودية وكيف أنها لم تحتج لجهد ومال يصرف على التسويق لتنال تقييم شعبي جيد.

ويعلق المحامي آل منسي قانونياً على ظاهرة استئجار المؤسسات العامة للمروجين لتسويق الخدمات على المواطنين "علينا أن نبين أنه في حال ترتب على هذه الدعاية التزامات ما على المواطنين، فيتوجب على المعلن والمؤسسة تبيان أن هذا إعلان ترويجي مدفوع، كأن يقوم هذا المعلن بالتسويق لمنتج سكني تابع لوزارة الإسكان، فلا بأس إن لم يترتب عليه خديعة، بشرط أن يتم التوضيح بأن ما يتم تقديمه هو إعلان تجاري مدفوع"، وهو ما يغيب في كثير من الدعايات سواءً المرتبطة بالمؤسسات العامة أو الخاصة.

في ظل غياب الضوابط
يتبادر إلى الذهن حادثة جرت في الأيام الماضية، إذ أقدمت مؤسسة حكومية على التعاقد مع إحدى "المشاهير" على منصة سنابشات، لتغطية جهود المؤسسة في مكافحة فيروس كورونا، من داخل غرفة عمليات الأزمة، تبين لاحقاً أنها قد تلقت أوامر بالتزام الحجر المنزلي لمخالطتها حالات مصابة في فترة سابقة، إلا أنها كسرت الحجر لإتمام الصفقة الدعائية، وهو ما أحالها للتحقيق بحسب النيابة العامة السعودية.

 

 


تعيد هذه الحادثة عدة حوادث لمخالفات أمنية وأخلاقية قام بها مشاهير، أو مخالفات أدت لشهرتهم، وعلى الرغم من أن هذه المخالفات صارت سبباً في استمرار هذه الشخصيات على قمة سوق الدعاية والإعلان الرقمي، إلا أنها لا تمنع الجهات المعلنة من التعاقد معهم، ما يطرح تساؤل حول ضرورة وجود تنظيم من قبل المؤسسة الرسمية، يحدد من يمكن أن يستفيد من سوق الإعلان الرقمي لكسر ديمومة الحسابات التي تقتات على المخالفات في شهرتها.

ويرى الكاتب الصحافي خالد السليمان، أن المشكلة تكمن في غياب الأهلية الإعلامية لدى مستخدمي التطبيقات الرقمية "لا يوجد مشكلة في حال تم الجمع بين الأهلية الإعلامية، واستخدام منصات الذكية في التأثير، لأن الأهلية هي الضابط المهني في صناعة المحتوى الإعلامي ومن امتلكها فلديه حق الانتفاع بأي منصة على أساس صحافي"، وفي الحالة القائمة يعلق السليمان "أما الشهرة فهي صفة مشاعة لكل من اجتذب ضوءً سواء كان إعلامياً أو فناناَ أو لاعب كرة أو صاحب حساب في تطبيق ذكي أو حتى إنسان منعزل وجد نفسه فجأة تحت نقطة الضوء، ولا يمكن أن تكون صفة اعتبارية يمكن على أساسها أن يعامل صاحبها على أنها كامل الأهلية في صناعة المحتوى"، وهو ما يتطلب صناعة هذه الأهلية عن طريق ضابط رسمي.

وفي الحديث عن الأهلية التي تمنحها المؤسسات الرسمية، يتبادر إلى الذهن مشروع البطاقة المهنية التي أطلقتها وزارة الإعلام في فترة وزير الإعلام السابق تركي الشبانة، لتنظيم جميع القطاعات التي تنضوي تحت مظلتها بإعطاء صفات أهلية للإعلاميين والفنانين ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي على أساس التخصص، إلا أن المشروع فشل في التفريق بين الإعلامي ومشهور التواصل الاجتماعي، ويعزو سعود الريس سبب فشل التنظيم الجديد إلى "المشروع فشل لأنه أخفق في التفريق بين الإعلامي ومتسلق جدار الإعلام"، وهو ما يطرح تساؤل حول معيار منح هذه الهويات، وهل راعت جوانب غير الشهرة كصفة أهلية تمنح بفضلها، الأمر الذي حاولنا طرحه على وزارة الإعلام إلا أن متحدثها الدكتور عبدالله المغلوث، الذي اعتذر مبدئياً لانشغاله في مؤتمر وزارة الصحة المتعلق بكورونا، توقف عن الرد على اتصالاتنا حتى نشر هذه المادة.

وينادي خالد السليمان بضرورة بناء هوية مستقلة للممارس الإعلامي "اليوم لا نستطيع تجاهل أن انهيار أسوار الإعلام واقتحام ساحاته أصبح واقعاً، والحل لن يكون ببناء أسوار جديدة بقدر ما يكون بتعزيز هوية ممارس مهنة الإعلام عن طريق محددات"، يترك للعبث فرصة لكن خارج هذه المحددات.

الخلاصة، المناداة بالضوابط ليست مناداة بالتعسف والتضيق، فالتنظيم لا يتصادم مع حماية استقلالية سوق الدعاية والإعلان الرقمي، ومراعاة خصائص النشر الرقمي التي تتطلب المرونة، إلا أن غياب الضوابط يضر بالنشاط ويقوده إلى الانهيار تنظيمياً وبالتالي انهيار القطاع ككل.

 

المزيد من تحقيقات ومطولات