Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الوباء الذي سيغير صورة العالم

سيطالب البشر بدول شفافة ترعاهم وسيريدون إعطاء معنى أكثر إنسانية لوجودهم على الأرض

كشف "كورونا" عيوباً فادحة في الأنظمة الاجتماعية والصحية وفضح ديكتاتوريات (أ.ف.ب)

يقود التفكيرُ في الوقائع التي فرضها وباء كورونا على البشر إلى التكهن بأشكالٍ جديدة مُحتملة لمستقبل الحياة الإنسانية وانتظامها في أنماط مختلفة عن التي عرفتها حتى الآن.

فرض الوباء قوانينه الخاصة على الكرة الأرضية: منعَ التجوّل على ما يقارب نصف سكّان الأرض، وهو قد يفرض هذا المنع على الكرة كلها، وساوى بين أبناء البشر، لا فرق بين غني وفقير، أو بين أبيض وأسود أو أصفر، ولا تمييز بين غني وفقير، بين حاكم ومحكوم، بين ظالم ومظلوم.

وساوى بين أتباع الديانات جميعاً، فجعلهم يعودون إلى ممارساتهم الأولى الفردية في البحث عن الخالق ونسج الصلة معه، فلا صلاة جماعية في الجوامع والكنائس، ولا زيارات حاشدة للأولياء والمقامات.

لقد صدر الأمر بالتزام أماكن الإقامة الأولية، في المنزل وضمن حدود العائلة الضيقة، والاكتفاء بالحاجات الأولية البديهية من الماء والغذاء وأدوات النظافة الشخصية واللباس الضروري، إذ لا حاجة إلى الأموال المجمّعة في البنوك، ولا إلى السيارات المركونة أمام القصور، ولا ضرورة لليخوت والمراكب والصواريخ النووية، فقط ما يكفي للحياة واستمرارها هو ما يفرضه نظام كورونا المُستجد.

فرض الوباءُ نظامَه على حكومات العالم، ولم يستثن واحدة منها. لم تتمكّن واحدة من الحكومات التي تملك حق النقض في مجلس الأمن الدولي من ممارسة "الفيتو" أو حتى التفكير به. أطاح الصين أولاً، ثم أكمل نحو دول أوروبا العريقة: سقطت إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا، ولحقتها أميركا وروسيا.

ساوى "كورونا" بين أقوياء العالم وضعفائه، وحوّل الأمم المتحدة للمرة الأولى إلى منظمة أممية جدية، لا يسري فيها إلا قانون وحيد هو قانون "التعاون والتضامن" بين متساوين في وجه خصمٍ فَرَض عليهم هذه المساواة.

تدفع وقائع العالم الجديدة كثيرين إلى إعمال الفكر، بالبحث عن أشكالٍ أكثر تقدماً للانتظام البشري، فالوباء كشف العيوب الفادحة في الأنظمة الاجتماعية والصحية، وفضح أنظمة ديكتاتورية لم تضع شعبها والعالم في صورة الحقائق والتطورات، وكشف تهافت ووحشية أنظمة الاستغلال الرأسمالي التي تغتنم مناسبات المصائب البشرية لتجعلها فُرصاً للربح ومراكمة الأموال.

لقد تراجع الفكر السياسي، يقول الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، أمام النيوليبرالية واقتصاد السوق، وبات الربح السريع هو الهدف، فتآكلت الدولة، وانكمشت التيارات السياسية الكبرى، هُزل اليسار، وتشتت وانكفأ اليمين في مصلحة غوغاء شعبوية.

لم يكن مفاجئاً أن نسمع رئيس وزراء المملكة المتحدة بوريس جونسون منبهاً مواطنيه إلى أنهم سيفقدون أحبة لهم، قبل أن يصاب شخصياً بالوباء، ولم نفاجأ عندما بدأ كبار الغرب في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا يتحدّثون عن "بقاء الأفضل" في "معركة كورونا"، بمعنى التخلي عن المتقدمين في السن لمصلحة الأصغر عمراً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا الخطاب يجد تتمته في انكشاف النظام الصحي "الغربي" وانفضاح قصوره، فلا استعداد ولا تجهيزات ولا إمكانات تسدّ الحاجات الطارئة، والفروق الاجتماعية بين أشخاص وحّدهم المرض ستظهر في إمكانية توفّر العلاج للأغنى، وسينتظر الأفقر دوراً ربما يأتي متأخراً.

في جانب آخر من الكرة، شهدنا سلوكاً آخر يدافع عن نهج قائم بدل التفكير في التغيير. اغتنم المرشد الإيراني علي خامنئي خطابه السنوي في عيد النوروز ليمضي عميقاً في استثارة الغيبيات بين أنصاره.

صنَّف المرشد أعداء حكمه ضمن مجموعتين هما الجن والإنس، اللذان "يتعاونان استخباراتياً"! وقال إن هؤلاء الأعداء "استخدموا شتّى الوسائل لجمع بيانات عن التركيبة الجينية الإيرانية، واستخدموا هذه البيانات لتصميم سلالات خاصة بإيران".

لو كان الوباء مَسّ إيران وحدها لربما وجد المرشد مَنْ يصدّقه، لكن المشكلة عالمية بامتياز، ومع ذلك يمضي خامنئي في طرح تهويماته على الشعب الإيراني، مُطوراً نظرية المؤامرة التي في إطارها اتهم ناطقٌ صينيٌّ أميركا باختراع الفيروس ونشره، واستند خامنئي إلى تلك "الفلتة" من الناطق الصيني، ولم ينتظر الاتصال الودّي بين الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الأميركي دونالد ترمب، وفيه أكدا ضرورة التعاون لمحاصرة الوباء، وهو ما شددت عليه قمة العشرين بقيادة الملك سلمان بن عبد العزيز، في كلمات الأعضاء، وفي مقررات الختام.

هزّ الوباء وسيهز ركائز حياة البشر، وفي الشهور المُقبلة بعد محاصرته والقضاء عليه سنكون بالتأكيد أمام صورة جديدة للعالم، سيطالب البشرُ بدول شفافة ترعاهم، وحريات تتيح لهم المشاركة، وقول ما يريدون بعد حجز إلزامي سلبهم مكتسبات وأعاد تقويم معناها، وسيريدون إعطاء معنى أكثر إنسانية لوجودهم على هذه الأرض.

ربما نشهد وقفاً للحروب، وهو ما قصده أمين عام الأمم المتحدة في رسالة إلى العالم، لكن ذلك لن يكون سهلاً في وجود قوى ما زالت تتحدّث عن تحالف الإنس والجن، أو تغتنم اليأس البشري لتوطّد سلطتها ومكاسبها. إنها في أي حال معركة بدأت وستحسم نتائجها مع هزيمة الوباء.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء