حراك الشارع في السودان والجزائر يبدو كأنه "الموجة الثانية" مما سُمي "الربيع العربي"، على طريقة "ربيع الشعوب" في أوروبا. وما يطالب به المتظاهرون لا يزال في حدود التركيز على تنحّي الرئيس السوداني عمر البشير، بعد 30 سنة على قمة السلطة، وامتناع الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عن الترشح إلى عهدة خامسة بعد 20 سنة رئاسية. ولا أحد يعرف إن كان ما حدث في الموجة الأولى ولها، مرشحاً للتكرار في الموجة الثانية. لكن الكل يعرف ما كرسته الوقائع من تشارك الأنظمة في بعض العالم العربي، على الرغم من اختلافها، في أمرين: أولهما أن أكبر رأسمال للأنظمة هو خوف الشعوب من البدائل الأصولية المتطرّفة واللعب على هذا الخوف وأحياناً اختراعه. والثاني أن أقوى سلاح في يدها هو العمل المنهجي على قتل حيوية هذه المجتمعات، لتصبح مجرد كائنات بيولوجية، وتصير الأحزاب والنقابات والجامعات فيها مجرد هياكل فارغة.
في المقابل، فإن من الثوابت التي كشفها الربيع العربي، بصرف النظر عن الاختلاف في المواقف منه، صعوبة الانتزاع الكامل للحيوية من المجتمعات. إذ قاد تراكم القهر إلى الانفجار واستعادة الحيوية في الشارع. ألم يقل ألكسيس دو توفيل "إن كل جيل هو شعب جديد"؟
الموجة الأولى بدأت في العام 2011 في تونس، ثم في مصر وليبيا واليمن وسوريا. كان القاسم المشترك بين أوضاع تلك البلدان هو طول إقامة الحكام في السلطة، وهي إقامة راوحت بين 30 إلى 40 سنة. تونس بدت الاستثناء، إذ نقلت "ثورة الياسمين" البلد من السلطوية إلى الديمقراطية، فلم يرد الجيش خطف الثورة، ولا تمكّن الإخوان المسلمون من الاستئثار بها.
في مصر، خطف الإخوان "ثورة يناير" فاستردها الجيش في "ثورة يونيو". في ليبيا، أكلت الميليشيات الجهوية والمتطرّفة الثورة ومنعت قيام الدولة، ولا تزال الفوضى سائدة. في اليمن، تمّ انقلاب حوثيّ مدعوم إيرانياً على الثورة، فوقع البلد ولا يزال في حرب أهلية. وفي سوريا، عمل المتطرّفون من جهة والنظام من جهة أخرى على "عسكرة" الثورة، بحيث غرق البلد في حرب محلية وإقليمية ودولية دمرته. كان رهان النظام على أن الخيار بينه وبين النخبة المدنية المعتدلة ليس في مصلحته بالنسبة إلى العرب والعالم، في حين أن الخيار بينه وبين تنظيم "داعش" سيكون لمصلحته. وكان رهان المتطرّفين على أن العنف هو المناخ الوحيد الذي يمكن أن يتيح لهم فرصة أخذ السلطة.
القاسم المشترك بين الموجتين الأولى والثانية هو الاعتراض على تعثّر التنمية البشرية ورغبة الأنظمة في أن تتحوّل التظاهرات السلمية إلى حركات عنيفة، ليصبح التغلب عليها سهلاً، إضافة إلى تعامل الأنظمة مع الدساتير كأنها من مطّاط. وأكثر المواد عرضة للتعديل هي المتعلقة بالولايات الدستورية للرؤساء. حتى في لبنان، حيث كان موعد تسليم الرئيس للسلطة بعد ست سنوات محدَّداً بالساعة، فإن المادة 49 من الدستور تمّ تعديلها ثلاث مرات للسماح بتجديد الولاية أو تمديدها. فكلما اقترب رئيس عربي من نهاية الولايتين المحددتين له دستورياً، دفع مجلس النواب إلى تعديل الدستور للسماح له بالترشح مجدداً. لا أحد عمل بالنموذج العجيب، الذي "اخترعه" الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما امتنع عن تعديل الدستور بعد نهاية ولايته الثانية، ورشح صديقه ورجله رئيس الحكومة ديمتري ميدفيديف إلى الرئاسة، وشغل هو منصب رئيس الوزراء حتى نهاية ولاية ميدفيديف، ثم ترشح وعاد إلى الرئاسة وأعاد ميدفيديف إلى رئاسة الحكومة. كلهم لجأوا إلى التعديل. والوحيد الذي كان صريحاً مع نفسه ومع الشعب هو الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، الذي عدّل الدستور مرة واحدة وصار رئيساً مدى الحياة، إلى أن انقلب عليه زين العابدين بن علي، وصار رئيساً يمدّد لنفسه حتى خلعه الثوار.
ذلك أن الرئيس السوداني لم يُعلن في شكل محدّد أنه لن يرشح نفسه من جديد، حتى بعدما انطلق الحراك في الشارع. والرئيس الجزائري، المريض الجالس على دولاب متحرّك والعاجز عن مخاطبة شعبه مباشرة، لا يزال راغباً في الترشح. البشير جاء بانقلاب عسكري تحت عنوان "الإنقاذ" من حكم الأحزاب، التي تدعو اليوم إلى "الإنقاذ " من حكمه. وبوتفليقة، الذي كان وزيراً للخارجية أيام الرئيس هواري بومدين، قام بإنجازات مهمة، لكنه صار واجهة لفريق صغير يحكم باسمه حفاظاً على مصالح أفراده. وهو احتفظ لنفسه بحقيبة الدفاع على غرار بومدين، الذي كان وزيراً للدفاع فانقلب على الرئيس أحمد بن بلّة، وبات يخشى من أن يسلم الوزارة إلى سواه لئلا ينقلب عليه. والحاكم الفعلي في النهاية هو الجيش.
ولا معنى للردّ على المتظاهرين بأن لهم الحرية في التظاهر، لكن الفيصل هو الاحتكام إلى صناديق الاقتراع. فمن الصعب الحديث عن نزاهة الانتخابات في العالم الثالث. وحتى في أميركا، فإن التشكيك في نزاهة الانتخابات لم يعد مكتوماً. وأبلغ توصيف لخداع الناس في الانتخابات هو المعادلة التي خلاصتها: "مرشحون بلا أفكار يستأجرون مستشارين بلا اقتناعات لإدارة حملة بلا محتوى". أما تيموثي سنايدر، فإنه يقول في كتاب جديد عنوانه "الطريق إلى اللاحرية في روسيا وأميركا وأوروبا" إن الدول "الليبرالية تعيش على صنع الأعداء".
ولا شيءَ يوحي بأن الحكام، مع استثناءات محددة، يتعلمون الدرس الذي تركه الرئيس الأميركي جون كينيدي، وهو "الذين يفشلون في جعل الثورات السلمية ممكنة ينجحون في جعل الثورات العنيفة محتومة".