Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العالم المذعور و"لعبة الوباء" الرائجة

أطلق الطفل الصغير على الفيروس القاتل الحاصد للأرواح اسم "مستر فتحي"، مدرس الرياضيات الذي يمقته!

تعتمد فكرة اللعبة الإلكترونية على قدرة اللاعب على تخليق عامل ممرض يقضي على أكبر عدد ممكن من سكان المعمورة (أ.ف.ب)

في عرف الألعاب الإلكترونية والتطبيقات العنكبوتية، مرّت سنوات طويلة جداً منذ طُرح "الوباء" في السوق العالمية. ثماني سنوات في عمر التطبيقات الترفيهية طويلة جداً وتكفي لطرح بدل التطبيق آلاف. لكن هذه المرة، يُعاد "الوباء" ليقدّم نفسه باعتباره إثارة يُقبل عليها الصغار، وصرعة يمارسها الشباب، وصدمة لا تستوعبها الأجيال الأكبر سناً، التي لا تعرف من الوباء إلا احتمالاته القاتلة ومن التطبيقات إلا ما ينفع ولا يضرّ، ولو كان الضرر نفسياً.

شركة الوباء

نفس اللعبة التي طُرحت للمرة الأولى في عام 2012 تعود بقوة لتفتح أبواب الشراء على مصاريعها، والتحميل بنجاح مبهر، والقيل والقال والتنظير والتحليل، بشكل يليق بوباء يدقّ أبواب الكوكب بعنف. وبينما يتابع سكان المعمورة بقلق بالغ وخوف شديد خط سير فيروس كورونا المستجد 2019 أو "كوفيد-19"، تحقق مبيعات "شركة الوباء" أو "Plague Inc" أرباحاً لم تكن في الحسبان.

اللعبة العنكبوتية القائمة على فكرة المحاكاة الاستراتيجية للوقت، تم ابتكارها وطرحها من قبل شركة "إندميك كرياشينز" البريطانية المستقلة قبل ثماني سنوات. وكغيرها من الألعاب اشتراها البعض. وكغيرها أيضاً من الألعاب، استمتع بها البعض، ولم تعجب البعض الآخر. لكن كل مَنْ يسمع عنها هذه الآونة، ينتابه حب الاستطلاع الرهيب لاستكشاف اللعبة التي يقولون عنها إنها تنبأت بفيروس كورونا، أو يتمكّن منهم هلع شديد على اعتبار أن هناك من يخطط لنهاية الكوكب و"يتكتك" لسبل القضاء على البشرية عبر دقات أزرار لا يمكن السيطرة عليها.

كانت هذه اللعبة هي الإصدار الأول للشركة، وحققت مبيعات غير مسبوقة، إذ تعدى عدد لاعبيها الـ120 مليون، ما جعلها إحدى أفضل خمس ألعاب مدفوعة الأجر في مجال التطبيقات على الإطلاق.

تخليق وتطوير

فكرة اللعبة قائمة على قدرة اللاعب على تخليق وتطوير عامل ممرض يتمكن من القضاء على أكبر عدد ممكن من سكان المعمورة. تبدو فكرة اللعبة مرعبة؟! نعم، بكل تأكيد! وهل هذا الرعب يعني أن هواة وعشاق الألعاب الإلكترونية تجنبوا أو قرروا الابتعاد عنها؟ لا بكل تأكيد، بل العكس هو الصحيح. وإذا كانت اللعبة وقت طرحها قبل ثماني سنوات جذبت 120 مليون لاعب، فإن أعداداً مضاعفة تُقبل عليها هذه الآونة باعتبارها صرعة مواكبة للفزعة الكبرى، فزعة كورونا 2019.

فزعة كورونا 2019 ضاعفت مبيعات الأقنعة الطبية، والمنظفات الكيمياوية، والسلع التموينية بغرض التخزين خوفاً من صدور تعليمات تنصّ على التزام البيوت، لكنها أيضاً دفعت بلعبة الوباء إلى القمة مجدداً، إن لم يكن بغرض اللعب والترفيه، فتلبيةً لحب الاستطلاع، ومن باب معايشة ما يقول عنه البعض إنها اللعبة التي تكشف مؤامرة.

مؤامرة الفيروس

مؤامرة القضاء على الجنس البشري ليست وليدة "كورونا 2019" أو "سارز" أو "إيبولا" أو "الإيدز" أو "السل"، كما أنها لا تقتصر على الأوبئة والفيروسات والأمراض المعدية على سطح الأرض، فلها رصيد كبير وأرشيف واسع في عالم الروايات والدراما. فمن فيلم "التفشي" أو "Outbreak"، حيث يحاول الأطباء العسكريون الوصول إلى علاج فعال لفيروس اجتاح كاليفورنيا منقول من قرد أفريقي، إلى "الاجتياح" أو "The Invasion"، حيث تكتشف طبيبة أمراض نفسية في واشنطن أن العلاج الوحيد للفيروس القاتل المنقول للأرض من كائنات فضائية يكمن في ابنها، إلى "عدوى بالملامسة" أو"Contagion "، حيث يستيقظ الأطباء والمواطنون ذات صباح على فيروس قاتل ينتشر بسرعة رهيبة، ويدخل الجميع في صراع مع الزمن للعثور على علاج حاسم، وغيرها المئات من الأفلام.

لكن مئات أفلام الخيال العلمي ليست كلعبة إلكترونية تخلع رداء المحاكاة وتتحول إلى واقع. هذه المرة، الواقع يبرح "آيفون" و"آي باد" و"أندرويد" ونظام "ويندوز"، ليفرض نفسه على مدن ومقاطعات ودول وشركات طيران وحركة تجارة دولية وبورصات عالمية، والأهم أرواح آلاف البشر المرشحين للزيادة يومياً.

دعوة لإصابة العالم

هل بإمكانك أن تصيب العالم بالعدوى؟ السؤال الذي أثار حب استطلاع ابن التاسعة ودفعه ميله الفطري للاستكشاف أن يطلب من أبيه سداد مبلغ تسعة جنيهات مصرية و99 قرشاً (أكثر من نصف دولار) من أجل أن يثبت قدرته على إصابة العالم بالعدوى أثار هلع الأب واستنكار الأم. في البداية، ظن الأب أن الأمر لا يعدو كونه لعبة كغيرها من الألعاب الإلكترونية يجرى تحميلها، ويلعب الصغير عليها متحدياً العمالقة في جزيرتهم، أو الحيوانات المفترسة في غابتهم، أو الأشرار في وكرهم. لكن حتى اقترب من الصغير وهو يدقّ على الأزرار بكل همة ونشاط، ولمح عبارة "هل لك أن تساعدنا على نشر الفيروس في أكبر عدد ممكن من الدول في العالم؟" كاد قلبه يتوقف. فقد فرغ لتوه من متابعة موقع إلكتروني متخصص لرصد سرعة وقوة انتشار "كورونا- 2019" عبر الإنفوغرافيكس التفاعلية. وحين لمح شاشة الهاتف المحمول في يد الصغير، حيث يلعب لعبته، اعتقد أنها للموقع الذي كان يتابعه بقلق بالغ، ولكن السؤال المطروح على شاشة المحمول أفزعه.

لعبة مميتة

الأب المصري الذي اكتشف أن اللعبة تحوي أوجه تشابه تصل إلى حد التطابق في ما يختص انتشار "كورونا"، بالإضافة إلى المعلومات الطبية والعلمية التي تحفل بها اللعبة، ولكن في إطار يصفه بـ"الشرير" و"الأعوج"، حيث يدفع اللاعب إلى قتل المزيد من البشر، وكلما أصاب بضعة ملايين إضافية انتقل إلى مرحلة أكبر وأحرز نقاطاً أكثر وتم الاحتفاء به باعتباره "بطلاً"، فزعُه لم يلقَ صدى يذكر لدى الصغير.

الصغير لم يجد ما يدعو إلى القلق أو الوجل سوى عدم قدرته على تحقيق المرجو، وهو قتل حفنة من الملايين، أو الوصول إلى المبتغى عبر نشر الفيروس في عدد أكبر من الدول والأمم، أو تسريع وتيرة العدوى بشكل يتفوق فيه على صديقه المتباهي بالـ200 مليون الذين قتلهم فيروسه.

اللعبة تتيح للاعب أن يطلق الاسم الذي يختاره على الفيروس، لذلك أطلق عليه الصغير اسم مدرس الرياضيات الذي يمقته، فبات اسم الفيروس القاتل الحاصد للأرواح والهادم للاقتصاد والناشر للفزع "مستر فتحي"!

التلاعب بالكوكب

اللعبة سارية المفعول منذ إطلاقها في عام 2012 لم تتغير قواعدها. يختار اللاعب اسم الوباء، ودرجة حرارة الجو التي تساعد على بقائه حياً وانتشاره، ويبدأ اللاعب في توجيه الفيروس إلى دول بعينها، محاولاً حصاد أكبر عدد ممكن من الإصابات القاتلة، ثم الإصابات الحرجة، وهكذا. ثم تظهر نشرة سريعة بإنجازاته، مشيرة إلى أن الفيروس قتل 50 مليوناً في دولة كذا، وأن 20 مليوناً حالتهم حرجة، وأن حركة الطيران من وإلى هذه الدولة أدت إلى تعاظمم احتمالات إصابات بأرقام مضاعفة في 20 دولة... وهلم جرا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى الرغم من أن الدراسات والأبحاث التي تجرى في الكثير من الدول حول أثر ألعاب الفيديو العنيفة في تنامي العنف لدى لاعبيها، لا سيما من الصغار والمراهقين، لم تجزم بوجود علاقة مباشرة بين الإقبال على الألعاب الإلكترونية التي تحمل مفاهيم عنف، وميل اللاعبين إلى العنف.

ويشار إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب كان قد اتهم ألعاب الفيديو العنيفة بأنها تعظّم من شأن ومكان العنف في المجتمع الأميركي، وذلك في أعقاب حادثي إطلاق نيران في ولايتين أميركيتين العام الماضي. بعدها بساعات، كان قد تم تدشين هاشتاغ "لا يمكن إلقاء اللوم على ألعاب الفيديو"، والذي وجد رواجاً كبيراً محققاً مكانة في الترند.

الترند في الوباء

الترند في أزمة "كورونا- 2019" الحالية ليس ألعاب الفيديو، ولا حتى لعبة "الوباء". لكن اللعبة تنتشر وتنتعش وتحقق مبيعات لم يكن أصحاب الشركة يحلمون بها بعد انقضاء سنوات على طرحها في 2012. والمثير أنه وقت بداية انتشار الفيروس في الصين - التي تعد المصدر الأول للفيروس- وذلك في يناير (كانون الثاني) الماضي، وبحسب شركة "آبيتكا" المتخصصة في تحليل معلومات التطبيقات، فإنه في اليوم الذي تم وضع مدينة "ووهان" الصينية في العزل الصحي وتم إيقاف كل رحلات الطيران والقطارات، ارتفعت مبيعات تطبيق "الوباء" ارتفاعاً غير مسبوق لدرجة أنها أطاحت تطبيق لعبة "ماين كرافت"، الذي ظل متصدراً القائمة على مدى سنوات. والأكثر إثارة هو أن مبيعات التطبيق في الصين شهدت ارتفاعاً كبيراً، حيث أقبل على شرائها وتحميلها ولعبها ملايين الصينيين المعرضين للفيروس، بل كانت اللعبة رقم واحد انتشاراً في الصين.

وقبل ساعات، اختفت اللعبة من على "آب ستور" في الصين. وأصدرت شركة "إندميك" الصانعة للتطبيق بياناً قالت فيه إنها علمت من "إدارة الفضاء المعلوماتي" الصينية أن التطبيق يحتوي على مادة مخالفة للقوانين الصينية، لكن من دون تحديد المحتوى المخالف.

الأخبار الكاذبة

إلا أن خبراء متابعين لتطبيقات الألعاب الإلكترونية رجحوا أن تكون خاصية "الأخبار الكاذبة" الموجودة في لعبة الوباء هي السبب وراء الحجب في الصين.

يشار إلى أن خاصية "الأخبار الكاذبة" في اللعبة تتيح للاعبين إمكانية اختلاق قصة غير حقيقية تسهل لهم عملية نشر الفيروس باستخدام أدوات حديثة وخدع نفسية. مسؤولو الشركة البريطانية مبتكرة تطبيق الوباء يقولون إن هذه الخاصية "تعليمية"، حيث تبرهن للاعبين ما يمكن أن تفعله الأخبار الكاذبة والمعلومات المغلوطة في نشر الذعر.

 

المعلومات من الواقع

يشار إلى أن الشركة البريطانية الصانعة للتطبيق "إندميك" أصدرت بياناً في بداية انتشار الفيروس جاء فيه أنه رغم أن بناء اللعبة يرتكز على قواعد حقيقية ومعلومات علمية موثقة، فإنه ينبغي على اللاعبين أن يبحثوا عن المعلومات الخاصة بالمشكلات الصحية الحقيقية من مسؤولي القطاعات الصحية في العالم. ورغم أن اللعبة شهدت زيادة ملحوظة في المبيعات واللعب غير مرة مع تفشي فيروسات قاتلة على مدار السنوات الماضية، فإن الزيادة التي تشهدها مع تفشي "كورونا- 2019" هي الأعلى.

عربياً، تنتشر اللعبة بين فئات بعينها من الصغار والمراهقين والشباب. بعضهم يدفعه الفضول، والبعض تحركه الرغبة في الإثارة وأن يصبح فاعلاً افتراضياً ولو لساعات محدودة في عملية انتشار الفيروس. وفريق ثالث اتخذ من اللعبة مدخلاً للدقّ السياسي، فأطلق اسم فصيل أو زعيم سياسي يعارضه على الفيروس، وفي كل مرة ينجح في نشر فيروسه القاتل يبتهج لقراءة "لقد نجح الزعيم فلان في قتل 200 مليون شخص".

أخلاقيات اللعب

وعلى الرغم من أن أخلاقيات ألعاب الفيديو ما زالت مثاراً للشدّ والجذب، والرفض والتأييد، فإن لعبة "الوباء" تطرح تساؤلات عدة في هذا الشأن. هذه الألعاب التي حققت مبيعات تقدّر بنحو 150 بليون دولار في عام 2019، ما زالت مجالاً غير مطروق في ما يختص بقواعدها وأخلاقياتها. وعلى مدار العقدين الماضيين، عبّر كثيرون عن مخاوف من أن تؤدي ألعاب بعينها إلى تعليم الصغار والمراهقين العنف أو تجمّل قيماً سيئة، مثل العنصرية أو العنف ضد المرأة أو تعظيم عوالم افتراضية على حساب الواقع.

لكن هذه الأيام، تثير لعبة "الوباء" أسئلة أخلاقية من نوع جديد. هل تهوّن اللعبة من خطورة انتشار الفيروسات؟ وهل تدعم ميولاً شريرة تجعل من إصابة المزيد من البشر بفيروسات قاتلة إنجازاً يستحق الإشادة وحساباً مصرفياً يكتنز النقاط الإضافية؟ وهل تقتل مثل هذه اللعبة في نفوس اللاعبين المشاعر الطبيعية التي تتوّلد لدى معرفة أن العالم يتعرّض لوباء قاتل؟ وهل مثل هذه الألعاب وتشابهها مع الواقع لدرجة التطابق المميت أحياناً يعني أن ما يشهده العالم من فيروسات قاتلة هي لعبة كبيرة أو مؤامرة طبية أو تخليق فيروسي خرج عن السيطرة، أو ربما تم إخراجه عن السيطرة؟

وبينما العالم منشغل بمتابعة مجريات مخاطر "كورونا- 2019" على أرض الواقع، وجانب منه غارق في إصابة المزيد من البشر بتحميل لعبة "الوباء"، وفريق ثالث يضرب أخماساً في أسداس حول ما إذا كان كورونا مخلّقاً بغية القضاء على البشرية أم طبيعياً اختارته السماء ليختبر الأرض ومَنْ عليها، يصرخ الصغير فرحاً "مستر فتحي قضى على 300 مليون شخص وإعلان 20 دولة موبوءة به".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات