في المشهد الافتتاحي لفيلم الصرخة "سكريم" (1996)، يعمل متّصل مجهول يحمل دوافع مشينة على محاولة إغواء فتاة أميركية ساذجة للغاية عبر الهاتف، لكنها تصدّه، ما يجعلها تعاني عواقب وخيمة من جرّاء ذلك.
ويحتل المشهد الذي تظهر فيه الممثلة درو باريمور مرتدية باروكة شقراء وبلوزة صوفية بلون أبيض، باعتباره اللباس الأفضل لإظهار بقع الدم التي ستلطخ ثياب الفتاة لا محالة، مكانة مهمة في تقاليد أفلام الرعب. وكذلك يشكّل استعارة لتوصيف هوليوود نفسها. إذ لم تصبح الحكاية الفرعية قصة أساسية إلا بعد أربع سنوات، مع ظهور فيلم "الصرخة 3".
إلى جانب ما قدمه المخرج كوانتين تارانتينو والممثلة غوينيث بالترو وأعمال مثل "غود ويل هانتينغ" (1997)، كانت سلسلة أفلام "الصرخة" بمثابة جواهر ترصع تاج الأفلام التي أنتجتها في فترة التسعينيات من القرن العشرين شركة "ميراماكس فيلمز" التي يمتلكها بوب وهارفي وينشتاين.
شكّل فيلما "الصرخة" و"الصرخة 2" (1997) الصادران عن " دايمنشن فيلمز" الذي يملكه الأخوان وينشتاين والمتخصص بهذا النوع من الأعمال، أحد أنجح أفلام التقطيع على الإطلاق، التي تتمحور حول قاتل مهووس يضرب الضحايا بأداة حادة، وبقيا كذلك إلى أن صدر فيلم الرعب الشهير "هالوين" في 2018.
بفضل ذكائها وسخريتها ومحبة الناس لها بطريقة نقدية، استغلت الأفلام نوعاً معينة من الأعمال المثيرة للجيل الممتد من ستينيات القرن العشرين إلى ثمانينياته، مع تلميح إلى تقاليد روايات الجريمة التي كرستها أفلام أغاثا كريستي وفترة القصص الدموية لسلسلة أفلام "يوم الجمعة الثالث عشر". كانت الأعمال تدور أيضاً حول المشاهير والثقافة الشعبية وكراهية النساء، كما ترتكز على نساء بطلات يعمل رجال سيئون للغاية على استهدافهن إلى ما لانهاية. وعرض اسم هارفي وينشتاين في الشارة ضمن أسماء الإنتاج يشعرك بمفارقة رهيبة.
لكن بعد مرور 20 عاماً على إصدار "الصرخة 3" الذي كان النهاية المبدئية للسلسة (قبل عرض فيلم رابع في 2011 وظهور مسلسل تلفزيوني فظيع مستند إلى سلسلة "الصرخة")، من الرائع أن ننظر إلى الوراء لمعرفة كيف انتهت تلك الأفلام في المرّة الأولى. لم يختم شريط "الصرخة 3" قصص الشخصيات الرئيسية في السلسلة فحسب، بل كان أيضاً بمثابة اتهام غاضب لسوء السلوك الجنسي في هوليوود، والرجال المفترسين وعملية إسناد الأدوار [النسائية] في الأفلام. وجرى ذلك كله أمام ناظري هارفي.
مع حلول الألفية الثالثة، اشتغلت أعمال اخرى على محاكاة العناصر التي جعلت أشرطة "الصرخة" تحقق كل تلك الضجة، بدءاً من تولي نجوم تلفزيون بارزين بطولتها ووصولاً إلى إدراكها العارف بكليشيهات هذا النوع من الأعمال التي تشمل "أعرف ما فعلتَه في الصيف الماضي" و"أسطورة مدنية". وكذلك حرص مبتكر السلسلة كيفن ويليامسون والنجمة نيف كامبل التي أدّت دور البطلة المُلاحَقة في سلسلة "سيدني بريسكوت"، على المضي قدماً [في ذلك الاتّجاه]. في المقابل، أراد وينشتاين فيلماً ثالثاً بصرف النظر عن موقفهما، إذ رأى سلسلة أفلام "الصرخة" مكافئاً سينمائياً لآلة طباعة النقود.
أيّاً كانت الحالة، جاءت الأمور على نحو مختلف في المرة الثالثة [= "الصرخة 3"]. ويرجع ذلك إلى العقد الذي أعيد التفاوض عليه، إذ حضر كامبل عشرين يوماً خلال التصوير، ما أدى إلى تقليص دور سيدني إلى مجرد شخصية مساعدة في الفيلم. وكذلك وافق المخرج ويس كرافن على العودة مشترطاً تمويل وينشتاين مشروعه الشغوف في 1999، وقد تمثّل في دراما ملهمة متفردة تحمل اسم "موسيقى القلب" من بطولة ميريل ستريب.
من ناحية ثانية، ارتبط ويليامسون [مبتكر سلسلة "الصرخة"]، الذي وصل آنذاك إلى قمة نفوذه بوصفه صانع سلسلة دراما اليافعين "داوسون كريك"، بالتزامات في أماكن اخرى، وترك لوافد جديد نسبياً على المهنة، إرين كروجر، أن يكتب نص فيلم "الصرخة 3". ولاحقاً، واجه هذا الأخير وقتاً عصيباً في محاكاة النبرة الذكية والمرحة لـوليامسون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جاء الفيلم الناتج على شكل إخفاق مجنون، يفتقر إلى الركائز العاطفية للفيلمين اللذين سبقاه، إضافة إلى كونه مغموراً بالكوميديا الصاخبة. انتهى به الأمر على هيئة حلقة أكثر دموية وإضحاكاً في مسلسل الرسوم المتحركة "سكوبي دو"، مع شخصيات تعدو جيئة وذهاباً بينما يتعثّر قاتل يرتدي قناعاً بالأشياء العادية. وبحلول الوقت الذي وصل فيه فيلم "الصرخة 4" بعد 11 عاماً، الذي شهد عودة ويليامسون إلى الفريق واستثمار كامبل كممثلة، كان الجزء السابق قد نُسي إلى حد كبير. ثم حدث ما حدث في عام 2017.
بعد أن اتهمت العشرات من النساء هارفي وينشتاين بارتكاب جرائم تشمل المضايقات والاعتداءات والاغتصاب (لقد نفى جميع المزاعم بممارسة الجنس من دون رضا الطرف الآخر)، تشجّع كثيرون على إلقاء نظرة ثانية إلى التلميحات التاريخية المستقلة عن سلوكه المزعوم. إذ سخرت أعمال تلفزيونية مثل "30 روك" و"حاشية" من سمعته. وفي وقت سابق، سخر كوميديون مثل سيث ماكفارلين عن علاقات المقايضة على الجنس بين المنتج والممثلات الطموحات. في المقابل، شكّل شريط "الصرخة 3" المشروع الوحيد الذي شارك فيه وينشتاين بشكل كبير، لكنه يلمِّح أيضاً إلى سلوك اتُهم [وينشتاين] فيما بعد بنشره.
تجري حوادث شريط "الصرخة 3" على خلفية تصوير فيلم يحمل اسم "الطعنة 3" بموصفه شريط تقطيع يعتمد على الضحايا "الحقيقيين" للقاتل المقنّع في سلسلة "غوست فايس". يجري خداع سيدني التي نجت بحياتها مرتين في السابق، كي تتوقف عن الاختباء عندما يبدأ فريق عمل شريط "الطعنة 3" بالتعرض للقتل توازياً مع مصائرهم في سيناريو الفيلم. وتفسح فرضية كتلك المجال أمام عدد من النِكات حول امتياز أفلام "الصرخة"، لكنها كذلك تسبّبت في التعليق على طبيعة هوليوود نفسها.
إذ تشكّل المقايضة على الجنس نقطة رئيسية في حبكة العمل. واتّهُمَتْ شخصية أنجيلينا التي أدتها إيميلي مورتايمر عن ممثلة طموحة قيل إنها فازت بدور سيدني [في "الطعنة"] بعد اختبار للأداء التمثيلي شمل جميع أنحاء البلاد، بأنها "تدوس على كل فتاة مسكينة تعترض طريقها". وقبل وقت قصير من مقتلها، تعترف بأنها نامت مع منتج الفيلم من أجل الحصول على الدور. وكذلك تُلمّح جينفر التي أدتها الممثلة باركر بوزي، باعتبارها ممثلة غريبة الأطوار تجسّد النسخة التي يرسمها شريط "الطعنة 3" عن صحافية الفضائح غيل ويذرز (أدّتها الممثلة كورتيني كوكس)، إلى علاقة غرامية عابرة مع مخرج الفيلم.
في ظهور يسلب الانتباه، تجسد كاري فيشر دور موظفة تعمل في أحد استوديوهات هوليوود تدعى بيانكا بورنيت وتشبه كاري فيشر بطريقة غير معقولة، وتقوم بقلب عينيها كلما ذكر أحدهم هذه الحقيقة. وتشرح بيانكا في حوار يحكى إن فيشر كتبته بنفسها، "كنت مرشحة لدور الأميرة ليا [شخصية في سلسلة أفلام "حرب النجوم"]... لقد كان بيني وبين الدور مسافة شعرة. وبالتالي، مَنْ تحصل عليه؟ الممثلة التي تنام مع جورج لوكاس".
في أكثر مشاهد الفيلم إزعاجاً، يحاول رئيس الاستوديو جون ميلتون (شخصية لزجة يؤديها الممثل لانس هنريكسن) تهدئة مخاوف مخرج فيلم "الطعنة 3" عندما يتوقف إنتاج العمل. ويذكر ميلتون أن "هوليوود مملؤة بالمجرمين الذين تزدهر حياتهم المهنية". وبعد ذلك بفترة وجيزة تجري مواجهته بدليل على تورطه في اعتداء حدث قبل سنوات على الراحلة مورين والدة سيدني، التي كانت ذات يوم ممثلة طموحة تعرف باسم رينا رينولدز.
ويصفها ميلتون بأنها "نكرة"، بل يدعي أنها كانت متواطئة تماماً في الرعب الذي تكشّف بعدما حضرت إحدى حفلاته سيئة السمعة. ويوضح أيضاً أن "رينا عرفت حقيقة تلك الحفلات... إذ تمثّل الهدف منها في اللقاء بين فتيات من أمثالها مع الرجال.... الرجال الذين يستطيعون جعلهن يحصلن على أدوار، إذا ما تركن الانطباع الصحيح. لم يحدث لها شيء لم تعمل بنفسها على التشجيع عليه بطريقة أو بأخرى، بصرف النظر عمّا قالته بعد ذلك".
ويتابع، "لقد خرجت الأمور عن السيطرة... ربما استغلوها. كما تعرف، قد تكون الحقيقة المحزنة متمثّلة في أن هذه المدينة ليست للأبرياء. لم توجّه تهم [إلى أولئك الرجال]، وتكمن الخلاصة في أن رينا رينولدز لن تلتزم بقواعد اللعبة. هل تريدين المضي قدماً في هوليوود؟ يجب أن تلعبي اللعبة أو تذهبي إلى المنزل". حتى أن ميلتون يلتمس عذراً مشيراً إلى حدوث تلك الأمور في حقبة مختلفة. ويورد محتجاً "لقد حدث ذلك في السبعينيات من القرن العشرين... كل شيء كان مختلفاً".
في 2017 ، بعد وقت قصير من ظهور القصص الأولى عن سلوك وينشتاين المزعوم في صحيفتي "نيويورك تايمز" و"ذا نيويوركر"، سلك قطب شركة "ميراماكس" نهجاً مشابهاً لاتهاماته الشخصية. إذ أعطى بياناً إلى صحيفة "نيويورك تايمز" ورد يه "أُقدّر أن الطريقة التي تصرفتُ بها مع زملائي في الماضي ربما تسببت في الآلام لكثيرين وأعتذر بصدق عن ذلك". وقد أشارت ليزا بلوم، محاميته آنذاك، إلى أن وينشتاين "يشبه ديناصوراً قديماً يتعلّم أساليب جديدة".
أما في 2000، فلم يكن هناك اعتراف صحافي بالتوازي الغريب بين [ما يحصل مع] وينشتاين من جهة وحبكة شريط "الصرخة 3" من الجهة الاخرى. ولم يبد أحد تفاجؤه من أن موضوعات الافتراس الجنسي وأهوال إسناد الأدوار شكّلت قصصاً رئيسة إلى حد ما في جزء تكملة لسلسلة أفلام التقطيع سيُهمل بعد وقت قصير. لقد أشرف بوب وينشتاين على مشاريع استوديو "دايمنشن فيلمز" إلى حد كبير، فيما انشغل هارفي وينشتاين بأعمال اخرى في "ميراماكس" تتناسب أكثر مع الأوسكار، لكن من غير المفهوم لحد الآن كيف أمكن تهريب هذا الموضوع الملتهب ضمن أحد أفلام الأخوين أنفسهم.
قد توجد إجابات في المعاناة في إنتاج شريط "الصرخة 3". إذ لم يرغب أحد بالتحديد في أن يشارك بالعمل، بل لم يشترك معظم الأشخاص إلا بعد مفاوضات مكثفة ومقايضات عدّة. عند مشاهدة شريط "الصرخة 3" حاضراً، سيبدو فيلماً ظلامياً بلا هوادة، ويسخر بشدة من الإبداع وصناعة السينما والشهرة. وفي مشهد ما من ذلك الشريط، يذكر المحقق كينكيد الذي يؤدي شخصيته الممثل باتريك ديمبسي لـسيدني "بالنسبة لي... هوليوود تعني الموت".
في 1997، زُعم أن وينشتاين اغتصب الممثلة روز ماغاون التي أصبحت نجمة كبيرة نتيجة مشاركتها في أول أفلام سلسلة "الصرخة"، في غرفة أحد الفنادق. وفي كتابها المعنون "شُجاعَة" (2018)، تصف تصوير فيلم "الصرخة" بأنه إحدى المرّات الأخيرة التي شعرت فيها بالسعادة حقاً في هوليوود. وكتبت، "شكّل تصوير شريط "الصرخة" ملجأ بالنسبة لي... بدا ويس كرافن رجلاً متميزاً ومتطوّراً... لقد عامَلنا نحن الممثلين كنظراء له، وكانت بيئة العمل خاصة جداً. [وكان] لطيفاً، كان رجلاً لبقاً حقيقياً. اعتقدت أن كل أفلامي مع المخرجين الكبار ستكون مثل هذا، لكنني كنت مخطئة".
توفي كرافن في 2015. ولم يخض في تفاصيل علاقته مع وينشتاين أو مدى معرفته بجرائم هارفي المزعومة. ومن المؤكد أن علاقته ببوب كانت سيئة في الأقل، بسبب اصصدامه معه أثناء تصوير شريط "الصرخة" على ما يبدو بسبب الحاجة الواضحة لجعل باريمور ترتدي ملابس "أكثر حيوية" وإيجاد باروكة مختلفة تناسبها. كذلك هُدّد كرافن بالطرد من الفيلم بعد أيام قليلة من الإنتاج، لكنه احتفظ بدروه في العمل بعد عرض سلسلة المشاهد الافتتاحية للفيلم (التي صُوّرت أولاً، لحسن الحظ) ما هدّأ مخاوف وينشتاين حول قدرات كرافن الإخراجية.
وبقول مجمل، تعني تلك المجريات أنه يمكن اعتبار وجود "الصرخة 3" بوصفه أحد أفلام كرافن الأخيرة، بمثابة إشارة محتملة إلى مشاعره [كرافن]. إذ يبدو الفيلم كأنه توبيخ على شيء ما، أو تحذير على الأقل. إذ يدور حول هوليوود الخدعة، أو المكان الذي تموت فيه الأحلام، ويكشف عن الأضرار الجانبية التي تخلّفها صناعة الأفلام، خصوصاً على النساء الشابات.
سيكون من الغباء اعتبار الفيلم كشفاً للمستور. ففي نهاية المطاف، لقد أُنتج عندما كان نفوذ وينشتاين في هوليوود في ذروته. ومع ذلك، إنه صورة عن وقت شكّل فيه سلوك وينشتاين المزعوم سراً صاخباً ومسكوتاً عنه، بمعنى كونه شيئاً يتهامس الناس به بعضهم بعضاً من دون أن يجرؤوا أبداً على التحدث علانية عنه. نتيجة لذلك، لم يصبح شريط "الصرخة 3" رائعاً إلا بعد مرور عقدين من الزمن على مشاهدته للمرّة الأولى.
© The Independent