Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قطارات سيبيريا الطبية

5 وحدات تجوب الفيافي النائية وتقدم العلاج للروس المنسيين

فتاة تتلقى العلاج في قطار سيبيريا (نيوزويك)

قبل عقد من الزمن، أطلقت الحكومة الروسية برنامجاً علاجياً يعتمد على القطار الطبي، بهدف تدارك انهيار خدمة الرعاية الصحية لدى تجمعات سيبيريا النائية التي لم تطلها يد التحديث منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.

في بلدة خاني التي تأوي زهاء 750 نسمة وتطوقها القمم الثلجية لجبال ستانافوي السيبيرية، ينتظر مرضى ومصابون بفارغ الصبر، قطاراً يأتيهم مرة كل سنة؛ فتراهم يخرجون من مساكنهم الإسمنتية الكئيبة وينتظمون ضمن صفوف طويلة في جو تبلغ حرارته 20 درجة مئوية تحت الصفر منذ ساعات الفجر الأولى، إلى أن يحط القطار أثقاله ويفتح أبواب عرباته، فيلجون داخل جوفه الحديدي ليس بهدف الانتقال إلى بلدة أو مدينة أخرى.. بل لتلقي علاج أو انتزاع وصفة طبية طال انتظارها.

القطار الزائر لهذه البلدة يدعى "ماتفي مودروف"، ويمثل شريان حياة رئيس لهم ولعشرات القرى والبلدات والتجمعات النائية على امتداد سيبيريا، وهو عبارة عن مصحة طبية متنقلة مؤلفة من ثماني عربات، تتكفل الحكومة المركزية في موسكو تغطية نفقاتها. تحوي هذه المصحة تجهيزات طبية أساسية وغرف فحص يشرف عليها ما يتراوح بين 12 و15 طبيبا، من بينهم أخصائي أمراض قلب وطبيب نسائي وطبيب نفساني وطبيب عيون وطبيب أعصاب وأخصائي كيميائي. ويعيش كل عضو من أعضاء الفريق الطبي هذا على متن القطار مدة أسبوعين، ويعمل ضمن نوبة مدتها 12 ساعة، ويحصل بالمقابل على إجازة مدتها أسبوعين.

من قرية إلى أخرى

تعمل "شركة السكك الحديدية الروسية" على تسيير "ماتفي مودروف"، الذي سُمّي كذلك تيمناً باسم طبيب روسي عاش في القرن التاسع عشر ساعد على إرساء قواعد الممارسة السريرية في البلاد. يمر القطار الطبي هذا، شأن أشقائه الأربعة الآخرين، زاحفاً من قرية إلى أخرى، فيتوقف ليوم واحد مقدماً خدماته إلى المرضى، قبل أن يواصل سيره على طول آلاف الكيلومترات الممتدة عبر الأجزاء الشرقية القصية لروسيا.

تُعد خاني نموذجاً للتجمعات السكانية التي تعيش بمحاذاة خط السكك الحديدية في سيبيريا؛ فناء من الحصى تحيط به مجمعات سكنية من خمسة طوابق تُشكل مركز القرية. ولا يوجد هناك أي جرّاح أو أطباء متخصصين، عدا مصحة صغيرة مجهزة بمعدّات يعود تاريخها إلى العهد السوفيتي، تضم طبيباً واحداً يتولى علاج كل المشكلات الصحية. ولذلك، يعد كثير من أهالي البلدة القطار الطبي، الخدمة المتخصصة الوحيدة التي يتلقونها من الجهات الرسمية خصوصاً وأن أقرب مركز طبي يقع على بعد عشرين ساعة بالقطار في مدينة نيريونغري، عاصمة جهتهم. ناهيك عن أن البلدة تعدم وجود أي مشرحة لحفظ الجثث، أو طبيب مؤهل لتوقيع شهادات الوفاة، ما يستدعي وضع جثث الموتى في مستودع قديم بمحاذاة محطة سكة الحديد في انتظار قدوم أخصائيي علم الأمراض على متن القطار للقيام بالإجراءات اللازمة.

تحتاج خدمة الرعاية الصحية العامة في روسيا إلى التحديث، إذ لم تتطور منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. وقد احتلت خدماتها المرتبة الأخيرة من بين 55 دولة الأكثر تقدماً، كما صُنفت الرعاية الصحية الروسية على قدم المساواة مع مثيلاتها في دول العالم النامي. وتعد فكرة القطار الطبي محاولة خجولة من لدن السلطات لتحسين الوضع.

يصل القطار الطبي إلى عشرات القرى الواقعة على طول الخط الرئيس "بايكال-أمور" الذي سُمي كذلك لأنه يمتد من بحيرة بايكال العذبة إلى نهر أمور. يبلغ طول الخط الرئيس هذا 4300 كيلومتر ويسير بالتوازي مع ما يعرف بالخط العابر لسيبيريا، لكن على بعد 650 كيلومترا إلى الشمال. وقد انتهى بناء هذا الخط في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، ويعد آخر مشروع كبير للبنية التحتية أُنجز في العهد السوفيتي.

أوكل الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف بالقسم الأكبر من مسؤولية بناء الخط الرئيس "بايكال-أمور" إلى فصيل شبابي في الحزب الشيوعي يدعى "كومسومول"، وقد انخرط في عملية بنائه نصف مليون شخص على امتداد عقد كامل بين عامي 1974 و1984. وقد أغرى الشباب للمشاركة في ذلك الوقت نزعة الاعتزاز القومي، فضلا عن الرواتب المجزية التي وصلت إلى ثلاثة أضعاف متوسط أجر ذلك الوقت، إضافة إلى إمكانية الحصول على قسائم لشراء سيارة جديدة في ظرف ثلاث سنوات من العمل؛ ما كان يعد آناك ذترفاً ما بعده ترف.

ومع تصدع الاتحاد السوفيتي عام 1991، انهارت الموارد اللازمة لتطوير الخط الرئيس وصيانته، فوقعت المنطقة في قبضة إدمان الكحول والفقر والتهميش، وهجرها الكثير من أهلها ولم يتبقّ إلا قلة آثرت العيش في أجواء بيئية قاسية لا ترحم، إذ كانت درجات الحرارة تهبط في أغلب الأحيان إلى 50 درجة مئوية تحت الصفر خلال الشتاء. في ظل هذه الظروف بقي خط سكة الحديد هذا الطريق الرئيس المفتوح في هذه المنطقة التي لا تحوي سوى طرق قليلة صالحة للسيارات.

نقطة تواصل

لا تحتوي عربات القطار الطبي على المعدّات الكافية لإجراء التدخلات الطبية البسيطة -فما بالك بالعمليات الجراحية- لكن طاقمه الطبي يستطيع إجراء التشخيص ووصف طريقة العلاج. والأهم من هذا وذاك، يعد القطار الطبي أحد نقاط التواصل القليلة التي تربط سكان المنطقة مع الأجزاء الأخرى من البلاد. فمجرد مروره في بلدتهم يمدهم بدفعة أمان ويطمئنهم بأن باقي روسيا يعلم بوجودهم ويهتم إلى حد ما لمحياهم أو لمماتهم. كما يحوي القطار مختبراً لتحليل الدم والبول، ومِرقابين لتخطيط كهرباء القلب والدماغ، وجهاز للفحص بالموجات فوق الصوتية، وآلة للفحص بالأشعة السينية. ويشيد الكثير من المرضى بنزاهة طاقم القطار الطبي وكفاءته، الذي يجري الاستشارات الطبية في الغالب داخل القطار، لكنه يقوم في بعض الأحيان بزيارة المرضى العاجزين داخل منازلهم.

ويقوم أفراد الطاقم الطبي، الذين يعيشون في مدينة خاباروفسك ويعملون في مستشفاها، بنحو عشر رحلات بالقطار الطبي كل عام، تستغرق كل رحلة منها أسبوعين أو نحو ذلك، ويتوقف في 8 محطات بكل رحلة. وخلال رحلاته الممتدة الطويلة، تسير الحياة بوتيرة رتيبة على متن القطار، إذ يقوم طباخ الفريق الطبي بطهي ثلاث وجبات في اليوم غالباً ما تكون فطائر مقلية مع المربى يتناولها الأطباء سريعاً وهم واقفون. لذلك يحرص السكان المحليون على إحضار فطائر منزلية وأوعية زجاجية تحوي حليب الماعز في بادرة شكر لفريق عمل القطار.

تعتمد مدة التوقف في كل محطة على تعداد السكان والرعاية الصحية المتاحة، وتمتد المدة بين يوم واحد وثلاثة أيام. وفي الغالب لا يزور القطار المحطة الواحدة أكثر من مرة في السنة.ويقوم الأطباء ومساعدوهم بفحص ما يصل إلى 150 مريضا يوميا، ويستقبلون زهاء 15 ألف مريض سنويا.

"سانت لوكاس" هو الاسم الذي أُطلق على القطار الطبي الثاني الذي يعمل في سيبيريا، تيمناً بكاهن وطبيب مشهور كان يعمل في مدينة كراسنويارسك خلال الحرب العالمية الثانية. وقد تم اختيار الاسم  من قبل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي تدير "عربة-مصلى" تقع في مؤخرة القطار الطبي تتيح للمرضى الصلاة قبل أو بعد تلقيهم العلاج. ويزور "سانت لوكاس" 75 محطة  خلال 10 أشهر من كل عام، قبل أن يعود إلى العاصمة الإقليمية كراسنويارسك للتزود بالوقود وتخزين المواد الطبية اللازمة.. ليبدأ من جديد رحلة جديدة.

لا ينظر سكان سيبيريا المنسيون إلى القطارات الطبية على أنها مجرد مجرد عيادات متنقلة، بل بوصفها شريان حياة وأمل ويعدونها بمثابة أيادي بيضاء تخفف من وطأة الألم الجسدي والنفسي الذي يعتصر قلوبهم. القطارات الطبية على ندرتها تمثل تذكرة عودة إلى الحياة ولو ليوم واحد في السنة.

المزيد من