Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الماريجوانا تبوح بأسرارها الطبية

إسرائيل أول من فطن إلى أهميتها... وشركة أميركية تجمّد أصنافا نادرة من بذورها

خبير يعاين نبتة المايجوانا (غيتي)

في ظل تهافت القطاع الطبي والصيدلي على تشريح نبتة "القنب الهندي" (الماريجوانا) وإباحتها وتقنين استعمالها، تظهر جملة من التساؤلات؛ ما الذي تخفيه هذه النبتة بين ثناياها؟ وكيف تؤثر في أجسادنا وأدمغتنا وأجهزتنا العصبية؟

في القرن السابع قبل الميلاد، استعمل القدماء الآشوريون نبتة "القنّب الهندي" خلال طقوسهم الدينية في المعابد، وأطلقوا على هذه النبتة ذات القدرات العلاجية العجيبة لفظة "كونوبو"، وهو الاسم الذي اشتق منه العالم النباتي ليناوس في القرن السابع عشر كلمة "كنابيس" (Cannabis) اللاتينية. أما عبارة "ماريجوانا"، فهي كلمة ذات أصول مكسيكية، لم تكن معروفة حتى ثلاثينيات القرن الماضي إلا بعدما استخدمها عملاء مكتب مكافحة المخدرات في الولايات المتحدة لدى صياغتهم القوانين المتعلقة بتجارة المخدرات.

أما في عالم اليوم، وعلى الرغم من شيوع استخدام "القنّب الهندي" لأغراض طبية منذ آلاف السنين على أيدي الكهنة والمعالجين المحليين، إلا أن موضوع تشريعها للاستخدامات الطبية لا يزال يثير جدلاً كبيراً بين العلماء والأطباء. وفي دولة كبيرة مثل الولايات المتحدة تنقسم آراء المشرعين بشكل حاد، حيث تجيز نصف الولايات استخدام القنب لبعض الأغراض الطبية وتعد ذلك أمراً قانونياً، فيما لا يقر النصف الآخر مثل ذلك الأمر. لكن الاتجاه العالمي العام بدأ يميل بشدة نحو إباحة الاستخدام، إذ أقدم العديد من الدول على تحرير قوانين الحيازة في الآونة الأخيرة، مثل الأورغواي والبرتغال، أما إسرائيل وكندا وهولندا فأصبح لديها برامج علاجية طبية خاصة بالماريجوانا.

على الرغم من شيوع استخدام "القنّب الهندي" لأغراض طبية منذ آلاف السنين إلا أن موضوع تشريعها للاستخدامات الطبية لا يزال يثير جدلاً كبيراً

ويرى أنصار استخدام "القنّب الهندي" أنها تخفف عنهم بعض الإجهاد وتساعدهم على الاسترخاء. كما يُعتقد على نطاق واسع أنها مُسكِّن للآلام ومضاد للقيء ومُوسِّع للشُّعب الهوائية ومضاد للالتهاب ومساعد على النوم وفاتح للشهية، فضلا عن استعمالات أخرى. ويزعم بعض الأطباء أن النبتة تحوي مكونات من شأنها مساعدة الجسم على تنظيم بعض وظائفه الحيوية، من قبيل حماية الدماغ من الصدمات وتقوية جهاز المناعة ومساعدة الذاكرة على النسيان عقب الأحداث المأساوية.

ريادة إسرائيلية

لم يكن العلم يفقه أدنى معلومة عن الماريجوانا وظلت مكونات هذه النبتة وطرائق عملها سرا مكنونا، حتى منتصف القرن الماضي. وبالنظر إلى عدم قانونية حيازتها وسمعتها السيئة، لم يجرؤ على دراستها سوى عدد قليل من العلماء الجادين، ومن هؤلاء "رفائيل ميشولام"، بروفيسور الكيمياء العضوية في "معهد وايزمان للعلوم" في إسرائيل. ففي عام 1963 قرر ميشولام دراسة التركيبة الكيميائية لهذه النبتة بعدما استغرب جهل العلماء للمكونات الرئيسة ذات التأثير النفسي في الماريجوانا.

انكب ميشولام وفريق بحثه على الماريجوانا، فعزلوا منها أهم عنصر نشط فيها؛ المادة التي تعمل عملها في العقل وتجعل المرء ينتشي. فلقد اكتشف ميشولام مُركَّب "رباعي الهيدروكانابينول"، وألقى الضوء أيضاً على البنية الكيميائية لمُركَّب "كانابيديول"، وهما مكونان رئيسان للماريجوانا. وقد شكلت أعمال ميشولام أساسا لثقافة متصلة بدراسة "القنّب الهندي" في العالم، وذاع صيته بوصفه أب علم القنب الهندي، وتجاوز رصيده أكثر من 400 بحث علمي ونحو  25 براءة اختراع تتعلق بهذا المجال. وفي عام 1994 انضم ميشولام إلى لجنة شكلها الكنيست لتصميم برنامج لعلاج المرضى بالماريجوانا. وكان البرنامج متواضعا عند بدئه، ولكنه أخذ في التوسع حتى بات يضم زهاء 20 ألف إسرائيلي، يعاني معظمهم آلاماً مزمنة وأمراضاً مستعصية، يتم علاجهم بالماريجوانا الطبية. كمت تم الاعتراف رسمياً في إسرائيل بفئات عريضة يمكن علاجها بالماريجوانا؛ وهم المصابون بالإيدز وبداء كرون وبالتصلب المتعدد، ومرضى السرطان ومرضى الاضطراب التالي للصدمات النفسية.

ورغم نجاحاته الريادية، إلا أن ميشولام لم يحبذ إباحة استعمال القنب الهندي للترويح عن النفس. واستشهد الرجل بدراسات تثبت أن استعمال "رباعي الهيدروكانابينول" فترات طويلة من شأنه التأثير في تشكل الدماغ خلال أطوار نموه. وألمح إلى أن القنب الهندي قد يُعرِّض بعض الأشخاص لنوبات قلق قد توهن العزائم. كما عرض دراسات مفادها أن القنب الهندي قد يمهد لظهور الفصام لدى المستعدين وراثيا للإصابة بهذا المرض.

التركيبة الجزيئية

مع توالي الأبحاث المخبرية تم عزل زهاء 85 مادة مخدرة مختلفة -حتى الآن- من نبتة القنب، يتم استخدامها لأغراض ترفيهية أو طبية. يحوي القنب مركبات كيميائية تؤثر على الجهاز العصبي المركزي بشكل مباشر، وتتواجد هذه المركبات بأعلى تركيز في أوراق النبتة وزهورها، وهي الأجزاء التي تُستخدم في الصناعات الدوائية. أما المكوّنان الأشهر المرتبطان بإمكانية استخدام القنب طبياً فهما:  "رباعي الهيدروكانابينول" و"كانابيدول".

يحوي القنب مركبات كيميائية تؤثر على الجهاز العصبي المركزي بشكل مباشر، وتتواجد هذه المركبات بأعلى تركيز في أوراق النبتة وزهورها، وهي الأجزاء التي تُستخدم في الصناعات الدوائية

استأثرت مادة "رباعي الهيدروكانابينول" بالكثير من الجدل، ويعود سبب ذلك إلى تركيبتها الكيميائية الجزيئية التي تصل إلى الدماغ البشري بشكل سريع جداً، ما يؤدي إلى شعور متعاطيها بنشوة بالغة. إلا أن أثر وبقايا هذه النشوة مختلف عن أثر وبقايا نشوة مادة "كانابيدول". وعلى الرغم من أن مادة "رباعي الهيدروكانابينول" تتحلى بفوائد صحية، إلا أن تأثيرها على الحالة النفسية، مثل الخوف والقلق، يكون مضاعفاً مقارنة بمادة "كانابيدول" التي يمكنها تقديم الفوائد نفسها من دون إحداث أي مضاعفات أو تأثيرات نفسية إضافية. ونظرا لما تسببه مادة "رباعي الهيدروكانابينول"، وإمكانية انعكاس ذلك على الوضع النفسي للمستخدم، فقد أصبحت غير محببة طبياً، لذا تم تصنيفها "غير قانونية" في معظم البلدان حول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة. أما مادة "كانابيدول" فوضعها أكثر إيجابية على الرغم من الجدل المحيط بها مع تحيّز العديد من العلماء إلى ضرورة الاستثمار طبياً بها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اهتمام عالمي

في مدينة دنفر الأميركية يرتفع مبنى ضخم مساحته 4 آلاف متر مربع، يضجُّ بالمضخات والمرشحات والمولدات، يتبع إحدى كبريات شركات القنب الهندي في العالم: شركة “مايندفول”. تستعمل هذه الشركة غرف تجميد لتخزين أصناف نادرة برية من بذور ماريجوانا جُلبت من شتى بقاع العالم، من آسيا وشمال إفريقيا والكاريبي.

تخطط هذه الشركة للتوسع من خلال بناء منشآت مماثلة في ولايات أميركية أخرى، تضم تحت سقفها غرفاً رطبة حيث ينمو محصول مرقّم بعلامات تصنيف، يُزرع لأغراض طبية صرفة في عتمة بالغة. تفتخر إدارة الشركة بتشكيلتها من الماريجوانا التي تكاد تخلو من "رباعي الهيدروكانابينول" وتحوي نسبة عالية من "كانابيدول" ومركبات أخرى تبشر بعلاج أمراض مختلفة من قبيل التصلب المتعدد والصدفية والاضطراب التالي للصدمات النفسية والعته والفصام ونخر العظام والتصلب الجانبي الضموري. ومعلوم أن الماريجوانا تحتوي على مواد عديدة مثل "فلافونويد" و"تربينات"، وهي مكونات لم تُدرس قط دراسة معمقة.

وفي مدريد، يعكف باحثون متخصصون في الكيمياء الحيوية بجامعة "كمبلوتنسي" على دراسة معمقة تتناول الأثر العلاجي للماريجوانا على الأورام التي تصيب الدماغ. إذ نجح فريق بحثي في هذه الجامعة من علاج فأر كان نصف دماغه منتفخاً بخلايا ورم دماغي بشري زُرعت فيه، بـ"رباعي الهيدروكانابينول" خلال أسبوع واحد؛ بحيث لم تتقلص كتلة الورم فحسب بل أصبحت أثراً بعد عين.

كتاب الحياة

وقد استقطبت هذه البحوث حول أورام الدماغ اهتمام شركات صنع الأدوية. وأكدت التجارب بعد سنوات من البحث أن مزيجا محسوباً بدقة، من "رباعي الهيدروكانابينول" و"كانابيدول" و"تيموزوليد" قادر على مداواة أورام الدماغ لدى الفئران. ويبدو أن مزيج هذه المركبات يهاجم الخلايا السرطانية في الدماغ، ويحاصرها ثم يدفعها دفعاً إلى الانتحار. واليومَ، تُستلهَم بحوث جامعة "كمبلوتنسي" لإجراء تجارب سريرية رائدة في "مستشفى سانت جيمس الجامعي" بمدينة ليدز الإنجليزية، حيث يعالج أخصائيو أعصاب مرضى يعانون أورام دماغ متطرفة باستعمال عقار "ستافيكس"، وهو بخاخ يحوي "رباعي الهيدروكانابينول" و"كانابيدول".

وفي مختبر داخل "جامعة كولورادو بولدر" الأميركية، تُستبنتُ نباتات من القنب الهندي لغرض سبر غور حمضها النووي الذي يضم زُهاء 800 مليون نوكليوتيد. تحوي هذه النباتات مستويات ضئيلة جدا من "رباعي الهيدروكانابينول"، شأنها في ذلك شأن جل أصناف القنب الهندي. وقد أعد علماء المختبر مخططا موجزا لبنية القنب الهندي الوراثية، لكن هذا المخطط مجزأ، إذ يتوزع على نحو 60 ألف قطعة. ويطمح العلماء بأن يجمعوا تلك الأجزاء لترتيبها ترتيبا صحيحا، وهي مسألة ستستغرق سنوات؛ إذ يبدو الأمر أشبه بكتاب من 60 ألف صفحة، بُعثرت صفحاته على الأرض، ينبغي جمعها بالترتيب السليم للحصول على قصة جيدة.

لمَّا يُنجَز العلماء كتابهم هذا بصورة تامة سيكون بمستطاع المتخصصين بعلم الوراثة استعماله بطرق شتى، من قبيل زراعة أصناف تحتوي مستويات أعلى بكثير من المركبات ذات الخصائص الطبية المهمة. ومن شأن إنجاز هذا العمل أن يغير من فهمنا نحن البشر لهذه النبتة العجيبة ومن فهمنا لأدمغتنا وأجهزتنا العصبية وتركيبتنا النفسية.

لم يقدم العلم حتى اليوم إثباتاً قاطعاً أن القنب يستطيع علاج بعض الحالات المستعصية التي ذكرناها آنفاً، ولكن المواد الكيميائية الفعالة الموجودة في هذه النبتة تشبه المواد الكيميائية التي يصنعها الجسم، والتي ترتبط بالشهية والذاكرة والحركة والألم. فهل ينجح العلم في اكتشاف طرق محاكاة لغة جسمنا الكيميائية بحيث يكفي أن نهمس في أذن بعض الأمراض حتى ترحل.. فترحل بسهولة؟

المزيد من صحة