خيار لبنان بالإصلاح أو بالتغيير، كان ولا يزال محكوماً بعاملين متكاملين: صعوبة الخروج من نظام المحاصصة الطائفية، والوقوع في أسر الصراعات الإقليمية والدولية. أيام المقاومة الفلسطينية من لبنان كان الجدل يدور حول رمزين للخيار: هونغ كونغ أو هانوي. أي الجنة الاقتصادية الملائمة للوطن الصغير أم ساحة الحرب مع العدو الإسرائيلي.
ولم يكن الخلاف على الجواب خارج اللعبة الطائفية، لكنه كان يتجاهل الظروف الموضوعية في تلك الأيام. فلا لبنان كان في وضع هونغ كونغ وظروفها، حيث هي المركز المالي الثالث في العالم إلى جانب القاعدة الصناعية والتجارية والحماية من النظام العالمي الذي يخدم الوضع مصالحه. ولا بيروت هانوي التي كانت مدعومة من الصين والاتحاد السوفياتي في حربها لتحرير فيتنام الجنوبية من النظام الفاسد والقوات الأميركية التي تحميه. والنتيجة حرب لبنان الأهلية والإقليمية والدولية، ومن ثم الاجتياح الإسرائيلي لإخراج المنظمات الفلسطينية وتخريب الجنة الاقتصادية.
وفي أيام المقاومة الإسلامية المقتصرة على "حزب الله" ضمن دوره الإقليمي يتكرر طرح الخيار نفسه: هونغ كونغ أم هانوي؟ أي لبنان النمو الاقتصادي و"النأي بالنفس" عن المحاور الإقليمية أم لبنان القاعدة الأمامية لمحور "الممانعة والمقاومة" الذي تديره إيران ضد أميركا وإسرائيل وبلدان الخليج ومصر؟
لكن الجدل يدور ونحن في هاوية الانهيار النقدي والمالي والاقتصادي، لا على حافة الهاوية كما يقال. فضلاً عن أن هانوي اليوم تبحث عن الاستثمارات الأميركية والأوروبية وتطلب خبرة الذين قاتلتهم لبناء اقتصاد قوي.
أما هونغ كونغ، فإنها تشهد ثورة شبابية سلمية منذ أشهر بدأت ضد مشروع قانون قدمته إدارة كاري لام لتسليم المطلوبين إلى بكين وتطورت نحو المطالبة بحكم القانون ونوع من الاستقلال عن الصين التي تشدد قبضة الحزب الشيوعي على السياسة والثقافة وترخيها في الاقتصاد. والمسألة ليست فقط أن عروبة لبنان هي قدره وخياره، وأن حياته مرتبطة بعمقه العربي وحاجته إلى العرب والغرب، بل أيضاً أن أخذه إلى المحور الإيراني هو وصفة لوضعه تحت الحصار الاقتصادي من دون مقومات البقاء لدى إيران نفسها.
السؤال الواقعي حالياً هو: ماذا بعد الثورة الشعبية السلمية العابرة للطوائف والمذاهب والتي دخلت شهرها الثالث؟ الجواب المباشر هو أن هذه الثورة نجت حتى الآن من العنف الذي تعرضت له الثورة الشعبية في العراق، لكنها تواجه مثلها مشكلة الصراع الأميركي- الإيراني ومعضلة نظام المحاصصة الطائفية.
الصراع الأميركي والعربي من جهة، والإيراني من جهة أخرى طويل ومتشعب، تبدو فيه طهران أكثر ثباتاً من أميركا التي أهدتها انتصارات منذ غزو العراق، وتعمل على التغلغل في النسيج الاجتماعي إلى جانب رعايتها لوكلائها: حزب الله في لبنان، الحشد الشعبي في العراق، الميليشيات في سوريا، وأنصار الحوثي في اليمن.
نظام المحاصصة الطائفية قوي، وإن كان فاشلاً وعاجزاً عن إيجاد حلول سهلة لأزماته المتعاقبة. وليس من التوقعات أن يتخلى أمراء الطوائف عن السلطة والامتيازات والنفوذ. فهم ضد أي تغيير حقيقي، وإن حاولوا الإنحناء أمام العاصفة بتقديم إصلاحات جزئية. وهم من تلاميذ ماكياڤيللي القائل "ليس من الحكمة أن تدافع عن شيء من واجبك التخلي عنه". فضلاً عن أنهم يمارسون بالفطرة نظرية لامبيدوزا في "الفهد"، "إن تغير كل شيء قليلاً كأنك تبقي كل شيء على حاله". فلا تغيير الحكومات سوى واحدة من ألعاب النظام. ولا حتى الانتخابات النيابية المبكرة سوى خدعة لإعادة إنتاج السلطة نفسها ولو بالتزوير.
وفي هذا الإطار، فإن الثورة الشعبية السلمية تواجه معادلة صعبة: لا تستطيع تغيير النظام بيدها، ولا هي في وارد الحصول عليه بالتظاهرات وحدها. لكن الثورة، في المقابل، صارت رقماً صعباً في المعادلة الوطنية. فهي فتحت مساراً يصعب إغلاقه أو الحؤول دون الذهاب فيه إلى النهاية. وهي تجاوزت الأحزاب الحالية، بحيث صار الصوت الصارخ في لبنان والعراق وتونس، هو المطالبة بحكومات من المستقلين عن الأحزاب.
والوقائع ناطقة. ثورات "ربيع الشعوب" الأوروبية في القرن التاسع عشر كانت عنفية وجذرية. لكن الأنظمة القديمة تضامنت وتغلبت عليها في النهاية. الموجة الأولى من "الربيع العربي" الذي أخذ اسمه من ربيع الشعوب كانت سلمية ومن ثم "تعسكرت" وتحولت حروباً أهلية تدخلت فيها قوى إقليمية ودولية كما في ليبيا وسوريا واليمن.
الثورات العنفية فشلت وانتهى زمانها. والتي نجحت منها صارت شيئاً آخر. الثورة الإيرانية صارت نظاماً ثيوقراطياً يحكمه الملالي بقيادة الولي الفقيه. الثورة الساندينستية في نيكاراغوا صارت نظاماً شمولياً رئيسه الدائم قائد الثورة دانيال أورتيغا ونائبة الرئيس وزيرة الاتصالات زوجته روزاريو موريللو، وأولادهما في المراكز العليا في الصناعة والغاز والتلفزيون. ولا رد على الثورة السلمية الشعبية الحالية سوى القمع والعنف.
ومهما يكن، فإن المستقبل للربيع العربي الذي صار في الشارع.