Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العراق ومبدأ الانطلاق من الصفر (2)

الوقوع في منطقة أعاصير كاسحة

لوحة من العاصمة العراقية بغداد تعود للعام 1885 (غيتي)

في مقابلة أجرتها صحيفة "الشرق الأوسط" مع المفكر السعودي إبراهيم البهيلي، قال إن "الحضارة في العراق هي الأصل خلال قرون طويلة، أما البداوة فهي العدوان المتكرر على هذا الأصل: تصرفه عن مساره وتعوقه عن انتظام سيره".

كانت الوفاة المفاجئة لمؤسس الدولة العراقية الحديثة، الملك فيصل الأول، أشبه بزلزال صغير، لم يشعر أحد به عند حدوثه، لكنه حفز بصمت على وقوع سلسلة متعاقبة من الزلازل، آلت في الأخير إلى تقويض النظام الملكي الذي أسسه عام 1921، ومقتل حفيده الملك فيصل الثاني بعد ربع قرن عن وفاته.

مع ذلك فإن ما تمكن فيصل بن الحسين من تحقيقه خلال سنوات حكمه الاثنتي عشرة، ساعد على نقل العراق إلى بلد يقف على مستوى واحد مع البلدين اللذين ظلا يتحكمان بأقداره طوال خمسة قرون: إيران وتركيا، ووفر الإطار الذي ضِمْنَه راحت الأواصر تتشكل بين مكوناته، من خلال إشراكها في الوظائف الحكومية وإدارة الدولة وتحقيق مطالبها الواقعية.

وعلى الرغم من الإخفاقات والتمردات التي ظلت تقع في بعض المناطق الزراعية الواقعة في شمال وجنوب كيان الدولة الجديد، حيث كان يقف وراءها شيوخ العشائر والأغوات وبعض رجال الدين والسياسة، بدأت مؤسسات دولته الفتية بالتشكل خطوة خطوة، ومع تنامي الجيش العراقي قوة وعددا كما كان يتمنى الملك فيصل بدأت قوة شيوخ العشائر وأتباعهم تضعف تدريجاً.

اتضح الفراغ الذي تركه الملك فيصل، خلال السنوات الثماني اللاحقة، فنخبة السياسيين القياديين ظلوا في حالة نزاع متواصل مع بعضهم البعض لأسباب تتداخل فيها مشاعر الغيرة والكراهية بالمصلحة الذاتية على حساب المصلحة العامة، وتضمن نشاط بعضهم تحريض شيوخ العشائر ضد الحكومة، وهذا ما جعل تشكيل الحكومات وحلها يتكرر بشكل منتظم إلى الحد الذي لا يتجاوز عمر إحداها عن أشهرا قليلة.

في نظرة  مجردة لتاريخ العراق الذي أعقب الغزو المغولي عام 1258، يكتشف المرء أن العراق لم يعرف أي استقرار حقيقي، إذ ظل تبدل الحكام والأنظمة مبدأ سائدا.

ولم يكن الملك الشاب غازي، 21 سنة، الابن الوحيد لفيصل بن الحسين، مؤهلا لا أكاديميا ولا شخصيا ليلعب دورا فاعلا في شد خيوط اللعبة السياسية التي برع فيها والده كثيرا بذكائه ودهائه وحكمته، وهذا ما جعله أداة بيد أولئك السياسيين المحنكين المتقدمين في السن.

لم تستمر النزاعات السياسية بين النخبة السياسية، التي ينتمي أكثر أفرادها إلى الطبقة الثرية ذات الصلات القديمة بالعهد العثماني، بشكل سلمي، إذ مع تشكل الجيش كقوة ضاربة راح رؤساء الوزراء يستعملونها كلما تمرد شيخ عشيرة أو أغا كردي ما على الدولة لإعادتهما إلى رشدهما.

كذلك أصبح موضوع المعاهدة التي تربط العراق ببريطانيا أشبه بوسواس يتحكم بالـ"الوطنيين" الذين يعتبرون الاكتفاء بأي تخفيف لشروطها أو تقليل فترتها نوعا من "العمالة" للدولة التي شاركت بدور فعال (وبالتأكيد لمصلحتها بالدرجة الأولى) في إخراج العراق من إرث الدولة العثمانية وإدخاله ككيان موحد له حدود مرسومة لا تستطيع الدول المحيطة به تجاوزها، إلى العصر الحديث، ناهيك عن ضم الموصل، التي كانت تركيا تريد الاحتفاظ بها مع مناطق أخرى، إلى العراق الحديث، وكانت القوة العسكرية البريطانية التي واجهها الجيش التركي وراء اذعانه للأمر الواقع والانسحاب من هذه الولاية وضواحيها.

وقع أول انقلاب عسكري في العراق عام 1936 على يد ضابط عسكري كبير كردي سبق أن خدم في الجيش العثماني، هو الفريق الركن بكر صدقي، وذلك لفرض شخصية سياسية معجبة بالنموذج الديكتاتوري التركي آنذاك هو حكمت سليمان، ولم يجد الجنرال صدقي غضاضة خلال محاولة الانقلاب في قتل وزير الدفاع ومؤسس الجيش العراقي، جعفر العسكري، بدافع الكراهية الشخصية، حين كان الأخير متوجها إليه لإخباره بأن الملك غازي وافق على التعديل الوزاري الذي يريده وأن لا حاجة لاحتلال بغداد بوحدات عسكرية.

هذا الانقلاب لاقى تأييدا من الحزب الوطني الذي يضم وجوها معارضة لـ "المعاهدة" بقوة، وترحيبا شعبيا كبيرا، وضمت الوزارة التي تشكلت تحت إشراف قائد الجيش الجديد بكر صدقي أبرز شخصيتين في هذا الحزب هما جعفر أبو التمن وكامل الجادرجي.

ولم تمر سوى ستة أشهر قبل اغتياله هو الآخر، على يد مجموعة من الضباط العروبيين، الذين سيعودون مرة أخرى لتكرار انقلاب عسكري، وهذه المرة تحت تعاطفهم مع ألمانيا النازية، لفرض رئيس وزراء قريب لهم هو رشيد عالي الكيلاني، أدى إلى هرب الأمير عبد الإله والعائلة الملكية من بغداد، وإعادة احتلال البريطانيين للعراق ثانية.

بين عامي 1936 و1958 وقعت عشر محاولات انقلابية عسكرية، وكانت  نقطة انطلاق الانقلاب الأخير الذي أصبح ثورة حقيقية (أي قلبا للواقع رأسا على عقب بدلا من الانطلاق منه والقيام بإصلاحه أو تطويره)، بمذبحة أبيد فيها كل أفراد العائلة المالكة نساء وأطفالا ورجالا بمن فيهم الملك فيصل الثاني وخاله الأمير عبد الإله.

***

في كتابه "المقدمة" يقول ابن خلدون إن "الأوطان الكثيرة والقبائل والعصائب قلَّ أن تستحكم فيها دولة"، مبررا ذلك لـ "اختلاف الآراء والأهواء وأن وراء كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها، فيكثر الانتفاض على الدولة والخروج عليها".

وكم يبدو هذا الرأي صائبا عند تطبيقه على تاريخ العراق الحديث.

غير أني أمضي خطوة أبعد من ذلك، فأنظر إلى دور التاريخ والجغرافيا في صياغة برنامج لا شعوري ظلت الأجيال المتعاقبة تكرره لا إراديا. وليس هناك أقرب إلى عمله من دورة تشكل الأعاصير في المحيطين الأطلسي والهادئ.

حين يسخن سطح الماء في نقطة من أحد المحيطين قريبة من خط الاستواء، يبدأ بخار بالتصاعد إلى أعلى، ما يجعل الهواء القريب من ذلك السطح رطبا ودافئا فيندفع إلى طبقة هوائية أعلى، وهذا ما يؤدي إلى تشكل ضغط واطئ في المنطقة التي فرغت من ذلك الهواء، عند ذلك يتحرك الهواء الأبرد الذي يسوده ضغط أعلى إلى المنطقة الفارغة من الهواء، وبتكرار هذه العملية يتشكل الإعصار، وتتشكل عينه التي تتوازن فيها القوى. ولن يؤول ذلك إلا إلى انطلاق هذا الإعصار المدمر على البر المجاور له محطما كل ما يصادفه في طريقه، لكن جريانه فوق سطح البر يساعد على فقدان زخمه وتلاشيه إلى حين، قبل عودة تشكله من جديد.

إذن إنه الاختلال الناجم عن التجاور بين منطقتين إحداهما ذات ضغط عال والأخرى ذات ضغط واطئ.  

ظل العراق خلال عدة قرون أعقبت سقوط بغداد وانتهاء الحكم العباسي (حتى في مرحلته الشكلية الأخيرة) واقعا بين ثلاث قوى: من الشمال قبائل أواسط آسيا البدوية التي تشمل الترك والمغول، ومن الشرق دولة فارس بكيانها البشري والمديني وبالجرح العميق الذي  تحمله الشخصية الفارسية من دمار الإمبراطورية الساسانية على يد العرب عام 651 ميلادية، على الرغم من أن عرش كسرى ظل قرونا في بلدة المدائن، القريبة من مدينة بغداد التي أنشئت بين عامي 762 و768، على يد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور. أما من  الجنوب فظلت العشائر البدوية تدخل بحرية إلى أراضي وادي الرافدين بحثا عن الكلأ لإبلها، ومع مرور الوقت كانت تتحول إلى شبه مستوطنة في هذه المنطقة أو تلك، فتبدأ بفرض سلطتها على المزارعين غير العشائريين، ولعلها ستحتاج إلى قرون أخرى حتى يتمكن نهرا دجلة والفرات من توطينها بشكل دائم.

مع مرور الوقت وظهور دولتين قويتين في الشمال والشرق هما الإمبراطوريتان العثمانية والصفوية أصبح العراق ساحة صراعهما المباشرة، وإذا كان سليمان القانوني قد نجح في طرد جيش إسماعيل صفوي الذي عاث فسادا على الأرض منه، واحتلال بغداد عام 1534، فإن إجزاء منه ظلت تحت هيمنة فارس، وظل شيوخ العشائر في الجنوب ينقّلون ولاءهم بين هاتين الدولتين حسب مصالحهم (المتعارضة مع متطلبات تكوين دولة موحدة).

أما أبناء المدن الذين راحت حواضرهم تتضاءل أمام اتساع عالم العشيرة وقيمها، فهم ظلوا في خدمة الولاة والقادة العثمانيين أو المماليك، فمع العصا العثمانية الغليظة، وضآلة ثقلهم وسيادة الجهل وعزلة الأحياء عن بعضها البعض لأسباب عرقية أو مذهبية أو دينية، لم يشاركوا لقرون بأي نشاط جمعي إحيائي لصالح بلدهم، ولم يعتادوا على الالتفاف حول زعيم ما يمثل ما يتطلعون  إليه.

ومع غياب عمل جماعي تراكمي لتغيير مصائرهم وفقدانهم القدرة على صياغة سلطة هرمية  يقف على قمتها زعيم يُحترم ويُطاع ويُلهِم ويُحفّز أتباعه على صياغة مبادرات متعددة للبناء والتغيير، جعلهم غير قادرين على العمل الذي يتطلب تراكما ماديا ملموسا يمتد إلى أجيال وغير قادرين على القبول بسلطة يجسدها زعيم ما أو سلسلة من القياديين المحكومين بهرمية.

لعل الجيش العراقي هو المؤسسة الوحيدة التي يطيع المرء فيها من هو أعلى مرتبة منه ويطيعه تلقائيا مَن هو تحته رتبة، لكن تغلغل الآيديولوجيات إليه حولت العديد من الضباط إلى طلاب سلطة وفرضت على من هم أقل رتبة المساهمة في الانقلابات العسكرية التي أصبحت جزءا من  التوقعات المغروزة في ذاكرة العراقيين.

في نظرة  مجردة لتاريخ العراق الذي أعقب الغزو المغولي عام 1258، يكتشف المرء أن العراق لم يعرف أي استقرار حقيقي، إذ ظل تبدل الحكام والأنظمة مبدأ سائدا.

كانت فترة حكم داود باشا للولايات الثلاث، بغداد والموصل والبصرة، هي الأطول خلال أكثر من أربعة قرون، اذ امتدت ما بين عامي 1816 و 1831 وانتهت بإبادة المماليك على يد قائد الجيش الذي بعثه الباب العالي، علي باشا.

وكانت تلك الفترة هي الوحيدة حتى ظهور الدولة العراقية الحديثة التي سعى فيها هذا الوالي إلى تبني برامج تحديثية وتنفيذها مثل تنظيف القنوات من الطمي وإقامة بعض الصناعات، وإصلاح الجيش بمساعدة مستشارين غربيين.

ولم يكن دور العشائر الكبيرة التي أسبغ داود باشا عليها أفضاله في السابق إلا بالانقلاب عليه، والانضمام إلى الجيش العثماني المتقدم صوب بغداد، وساهمت في إسقاط حكمه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

***

يكتب المؤرخ البريطاني ستيفن همسلي لونكريك، الذي عمل في العراق مستشارا فترة طويلة وألف عددا من الكتب عن تاريخ العراق الحديث، عن تلك الفترة التي أعقبت وفاة الملك فيصل الأول: "كانت طبيعة العراقيين تتميز بالفردية وعدم الإذعان لأحد، وكانت تقاليدهم تقوم على أسس التسلط والتحكم، ولذلك كانت الأوضاع القائمة في مجتمعهم مناقضة للديمقراطية، ومؤذية لها حقا".

ولذلك فهو يكتب عن الفراغ الذي تركه الملك فيصل الأول قائلا في كتابه "العراق الحديث": "لم يعد مستطاعا لأي أحد سواه أن يحتل مكانه بصفة موازِن للقوى، أو أن يحتفظ بعلاقاته المتعادلة مع أصحابه المتطرفين، ومع البريطانيين، وطائفة المثقفين في المدن، ورجال العشائر الشرسين، كما أن أحدا غيره لم يكن في مستطاعه أن  يهيمن بميزاته الشخصية على الطبقة الحاكمة ووزرائها الذين كانوا يثيرون الفتن".

يستنتج لونكريك بأنه "كان مستطاعا تجنب الكثير من الاضطرابات التي حدثت خلال الفترة من سنة 1933 حتى سنة 1941 لو أن حكمة فيصل وتجربته قد تم ادخارها لدولة العراق في تلك السنوات".

وكم يبدو تحقيق ذلك عسيرا بالنسبة إلى شخص خرج للتو من ظلام نفق طويل جدا، إلى فضاء  ساطع الضياء فتغشى عيناه على الفور.

لذلك ستظل خطواته تتخبط مسافة قبل التمكن من إدراك طريقه، وفي زمن المجتمعات الحقيقي  قد يمتد قرنا.

فتعلُّم الشعوب أن تحكم نفسها بنفسها بعد قرون من هيمنة الآخرين عليها، غالبا ما يتطلب دفع أثمان باهظة.

وهذا ما نراه اليوم في حاضر العراق.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل