Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أقفاص" محمد ناصر الدين تبحث عن "عصافير" الشعر: حمل تجربته العلمية إلى عالم الكتابة

صدر للشاعر محمد ناصر الدين أخيراً ديوان "أقفاص تبحث عن عصافير" (دار النهضة العربية، بيروت 2019)، وله خمسة دواوين أخرى هي: "صلاة تطيل اللوز شبراً"، "ركلة في قرية النمل"، "ذاكرة القرصان" و"سوء تفاهم طويل" و"فصل خامس للرحيل"، و"شمعتان للمُنتظر".

الشاعر محمد ناصر الدين خلال توقيع ديوانه "أقفاص تبحث عن عصافير" في معرض بيروت الدولي للكتاب 2018. (الصورة من ألبوم الكاتب)

في زمن رواج الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح الشعر بمثابة الأرض "المشاع"، وراحت تتداخل الأصوات بعضها ببعض وبات المشهد الشعري غائماً وغير واضح، وبلا حدود ولا أفق. غير أن مواهب كثيرة تصطفي نفسها بنفسها وتفرض حضورها، مؤكدةً أن الشعر كما المادة لا يختفي، إنما يتطوّر ويتبدّل ليبقى غذاء الروح في كلٍ مكان وزمان. الشاعر اللبناني محمد ناصرالدين يبدو مع كل ديوانٍ جديدٍ ينشره أنه من هذه النخبة. شاعرٌ لا يشبه أحداً. صحيح أنه يتكئ على موهبته لكنه يسعى دوماً إلى صقلها متابعاً ما يكتب من شعر في العالم العربي والغربي، ويمارس الترجمة من الفرنسية التي صار له فيها عمل جم. ناصر الدين الذي صدر له أخيراً ديوان "أقفاص تبحث عن عصافير" (دار النهضة العربية، بيروت 2019)، له ستة دواوين أخرى هي: "صلاة تطيل اللوز شبراً"، "ركلة في قرية النمل"، "ذاكرة القرصان" و"سوء تفاهم طويل" و"فصل خامس للرحيل"، و"شمعتان للمُنتظر".

"اندبندنت عربية" التقت ناصرالدين وكان لنا معه هذا الحوار.

• "أقفاص تبحث عن عصافير" هو ديوانك السابع.  وهو مثل سائر دواوينك يميل إلى الاختصار في القصائد والصفحات. وهذا يدلّ على أنك لا تحب الدواوين الكبيرة. ما الذي يميّز هذا الديوان عما سبقه شعراً ومناخاً؟

-  تتابع هذه المجموعة الشعرية ما كنت بدأته في المجموعات التي قبلها من الخوض في الشعر بوصفه تجربة داخلية بحتة. وما يميزها أنها ابتعدت قليلاً عن جو المثاقفة وطغيان المرجعيات الفكرية والفلسفية على النص، وهو ما قيل عن المجموعات السابقة، وفيه جزء من الصحة. في هذه المجموعة يتبدّى الشعر لا بوصفه عملاً أدبياً يقوم على إنتاج النص، ولكن كشكلٍ أساسي، ولعله الشكل "الأساسي" الأول، في تحديد نوع من العلاقة الأفقية والأنطولوجية بين الشاعر والكائنات، بين الكائنات نفسها (كالعصافير وأقفاصها)، بين الشاعر والذاكرة، ليتحول الشعر قبل كل شيء إلى طريقةٍ في الحياة، في التفكير بالحياة.

•  "أقفاص" ديوانك تبحث عن "عصافير" في سياقٍ مخالفٍ للمنطق، وكأن الأقفاص تعاني حالةً من الفراغ والوحشة. ماذا عن هذا العنوان الإشكالي الرمزي وربما السوريالي الذي يذكّر ببعض مفارقات الرسام ماغريت الصورية؟ ماذا أيضاً عن العصافير، هل هي القصائد نفسها؟

-  بالنسبة لماغريت، الميكانيزم الذي ينشط في لوحاته هو كالآتي: المشاهد يجب أن يستفَز بطريقةٍ ما، بواسطة انزياح أو استبدال للشيء الذي يراه، وذلك بأن يستبدل الرسام الإطار الذهني الذي يوجد فيه هذا الشيء عادة. النظرة إذاً هي ما يستبدل نظام الفهم ويجدّد فيه، وبالتالي فإن "العالم الداخلي" لموضوع اللوحة يصبح الموطن الوحيد المعقول للأشياء ذاتها. هذا ما أحاول تماماً فعله في هذه المجموعة وما قبلها. نوعٌ من الاستفزاز الذي ينعم حيناً ويعنف أحياناً للنسق الذي يتم فيه فهم القارئ الأشياء، وفتح فضاء التأويل على لانهائية العوالم الداخلية لموضوعات القصائد. عندها يأخذ سؤالك عن العصافير والأقفاص بعداً لانهائياً للتأويل.

• من المعروف أنك أتيت الشعر من اختصاصٍ علمي، ونلاحظ أنك في بعض قصائدك استوحيت بعضاً من أسرار العلوم لتكتب الشعر. كيف تلتقي العلوم بالشعر برأيك؟ هل تعتقد أنك تنتمي إلى الشعراء الذين وظفوا العمل في صميم صنيعهم الشعري؟

- الرؤية العلمية والرؤية الشعرية تتشاركان في جعلنا نرى العالم في كل غناه وتعقيداته. خذوا مثلاً أي ظاهرة طبيعية، كالمدّ والجزر أو تغيّر الألوان في الخريف: من ناحيةٍ لا يكتفي العقل الإنساني بأن يُعجب أو يُدهَش، بل سيسعى إلى الفهم. بعدها يمكننا أن نسأل إن كان سحر المشهد سيتبدد لو توقفنا فقط على التفسير والعلم. سنسأل إذاً إن كان للشعر كلمة يقولها بعد أن أدلى العلم بدلوه في كل شيء. سنجيب بأن الجمال مثلاً هو تجربة في الكون، تجربة تشترك فيها الحقيقة الخارجية والداخل الانساني. يأتي الشعر ليعمق علاقتنا بالأشياء، ليرينا إياها بطريقةٍ أخرى. لو وصفنا الوردة بمصطلحات علم النبات سيكون الأمر بائساً بعض الشيء. في قصيدةٍ لي تخيلت الرجال الآليين بعد مدّةٍ يسيطرون على الأرض، يقتلون البشر ثم يقفون فوق قبورهم ليسألوهم كيف وصفوا الوردة، وكيف اخترعوا الحب.

• في ديوانك يشعر القارئ أنك تقارب بعض النقاط الجريئة أو الحساسة ثم تنسحب وتتركها قيد التأويل. هل فعلاً يتجنّب ناصرالدين التطرّق إلى مثل المواضيع الجريئة؟

- لا أتجنب الخوض أو التطرق في هذه المواضيع البتة. القصيدة الأولى في ديواني الأول "صلاة تطيل اللوز شبرا" بدأت من سفر التكوين، وتطرقت إلى مسائل كثيرة من مسألة "خلق الشر"، وقتل الغلام في سورة الكهف، إلى الإشكاليات التي تعنى بها الفلسفة، حول أصل الكون، و"إتيقا" العيش والتساؤلات حول المصير. لقد تناولت هذه المواضيع شعرياً، للشعر قدرة أكبر من الفلسفة والتاريخ في التعامل مع هذه الأمور بهامشٍ أوسع من الحرية والخيال، والبقاء في منطقةٍ رماديةٍ يشاغب فيها الشاعر، يموّه ويسأل ويقينه صعب مستصعب. لا يهمني أن أحوّل قصائدي إلى مرافعات في الدين والفلسفة أو خطاباتٍ ناريةٍ انتقادية ليصنف الشعر في خانة الجرأة. الجرأة هي في رمي حجرٍ في المياه الراكدة وتناول مواضيع يحرم التفكير فيها بشكلٍ يدعو إلى إعادة النظر والتأمل، أو حتى الإحساس بها بطريقةٍ أخرى.

• أهديت الديوان إلى مولودك الجديد، فكيف تلتقي صورتا الشاعر والأب بداخلك؟

- لدي ولدان أحدهما في العاشرة، مهدي، وهو على شاعريةٍ عاليةٍ في رؤيته للأشياء، منذ الألعاب الأولى في طفولته، وأحياناً يلعب معي دور الأب، إذ يتابع تطور أمراضي ويمنعني عن أكل الحلوى لكوني مريضاً بالسكري، وهو يفخر أمام أصدقائه بأن أباه شاعر. ولدي الثاني باسل أعاد إلى قلبي الفرح بعد سنينٍ عشرة. ابتسامة باسل كل صباحٍ هي نوع من الشعر والبراءة الأولى الضرورية لكل دهشةٍ شعريةٍ أمام الكون والكائنات. لا أفصل بين الشاعر والأب، وأتمنى أن يعيش أولادي حياة "شعرية"، أن يعيشوا طفولاتهم بعيداً من الحروب التي خبرناها وعشنا أهوالها في طفولاتنا، أن يعيشوا كل مرحلة من حياتهم كما تستحق أن تعاش، ولو اقتضى الأمر قتل الأب فرويدياً للإبداع والانطلاق في الحياة، فلم لا؟ فليكونوا ذواتهم وتجاربهم هم لا تجاربنا نحن.

• في ديوانك تبرز لعبة الصورة الشعرية وكأنها أحد مرتكزاتك الشعرية والتقينة. ماذا تحدثنا عن الصورة لديك وما هي ماهيتها؟

- الصورة عادة ما تكون مغبشة ومختبئة تحت طبقة من الإشكاليات الدينية والفلسفية والفكرية كما سبق وشرحت، وأحياناً تبدو الصورة مربكة في وضوحها. لا أحب القارئ الكسول، الذي ينبغي للصورة أن تسعى إليه مستريحاً بليداً. الشعر نوع من التواصل والمشاركة، وهو تجربة قبل كل شيء. أستطيع أن أجعل الصورة تخدم اللعبة الشعرية وتسافر بين النسبي والمطلق في كل الأشياء: المسيح كان نجاراً، عقب أخيل الذي بالرغم من كونه عضواً فيزيولوجياً يأخذ محله في الأسطورة الإغريقية. كتبت كثيراً عن الأشجار، والعصافير، والغيوم، وكنت أعود في كل مرةٍ إلى الصورة على طريقة النحات الإيطالي جياكوميتي لأحدث فيها تعديلاً مينيمالياً طفيفاً، وأظن أنني يمكنني فعل ذلك إلى ما لا نهاية. أقول للغيوم في أحد النصوص إني أريد أن يكون لي مثلها، وجه جديد كل يوم.

• أنت واحد من الناشطين شعرياً في بيروت، وقد ساهمت في دعم المواهب الشابة سواء في الأمسيات أم في نشر الكتب. كيف تنظر إلى حركة الجيل الشعري الشاب في بيروت؟ هل هناك مواهب حقيقية جديدة؟

- لا أحب كلمة "ناشط" وأحس بأنها تحيل إلى نوعٍ من الجهد المبرمج والآلي. أنا متعطشٌ لنصٍ شعري جميل، واليوم اختلفت بشكلٍ كامل آلية نشر الشعر إذ كان الشعراء ينشرون ما يكتبون في الصحف والمجلات المتخصصة. اليوم الفيسبوك هو سوق يسمح لمجموعة كبيرة من الناس بعرض "بضاعتهم"، بغثها وثمينها، وتسميتها شعر. هناك مجموعة من الشعراء العشرينيين تبشر بجيلٍ ممتازٍ يكتب الشعر ويعيشه وأتمنى أن يعززوا ما بدأوه بالمثابرة والأصالة.

• بالإضافة إلى الشعر، أنت مهتم بالترجمة. وهذه ميزة تميّز بها شعراء كثر. ماذا تعني لك الترجمة كشاعرٍ وكيف تختار النصوص التي تترجمها؟

- لا أتعمد اختيار موضوعٍ أو كتابٍ للترجمة. لدي مكتبة هائلة في بيتي، وقد جمعتها كتاباً كتاباً حين كنت في فرنسا. يكفي أن يخفق قلبي لموضوعٍ ما في الشعر أو في غيره لأشرع في ترجمته. ترجمت نصوصاً لكتّاب أعلام في الثقافة الفرنسية لم يسبق أن ترجمت إلى العربية بعد، والهدف هو تعريف القارئ العربي بهؤلاء الكتاب. أنا أتخيّل الأدب والشعر خصوصاً ساحةً للقاء وتلاقح الأفكار والثقافات بين الشعوب، مهما تعدّدت لغاتها أو طرق تعبيرها.

• تبرز في العالم العربي ظاهرة الترجمة عن لغةٍ وسيطة تتمثل في الفرنسية أو الإنكليزية كأن نقرأ الأدب الاسباني أو الياباني أو الهندي وسواه مترجماً عن لغةٍ وسيطة، ما يزيد من تهمة "الخيانة" التي تُكال أصلاً للترجمة. كيف تنظر إلى هذه الظاهرة غير السليمة؟

-لا تزعجني خيانة المترجم. خذوا مثلاً نصاً للشاعرة أليخاندرا بيثارنيك، وهي شاعرة أرجنتينية مشهورة، تعرّفت على قصائدها بواسطة كتاب باللغة الفرنسية، بما أنني لا أجيد اللغة الإسبانية، ووجدتني أتفاعل مع القصائد. أحببت محاولات مثل محاولة عبده وازن وبسام حجار لترجمتها، ولو عبر لغةٍ وسيطة، وقد وجدت نبض الشعر في الترجمة. حين تتحوّل الترجمة إلى احتراف، مثل ترجمة كتبٍ بأكملها، هنا لا بد من تدخّل وسيطٍ يتقن اللغتين للتصويب أو التصليح. ولكن إذا افترضنا بأن النص الشعري حين يخرج من يدي الكاتب، فإنه يصبح ملكاً للقارئ فتصبح عملية الثقافة برمّتها عملية خيانة.

• بات كثير من الشعراء يميلون إلى كتابة الرواية التي أصبحت هي "ديوان" العرب اليوم، أين أنت من كتابة الرواية؟

-بعض النقاد يصنّفون الرواية فن درجة ثانية من الشعر. أنا أخالفهم هذا الرأي. أنا أستهيب كتابة الرواية لأن التقنية المستعملة والروح التي تكمن في الرواية تختلف عن تلك التي تحرك الشعر. تقوم الرواية بشكلٍ أساسي على السرد وعلى توفر عقدة وحدث أساسي وخلق فضاء من الشخصيات. قد يختبئ الشاعر في الضبابية التي هي من شروط وجوده. روائيٌ كبيرٌ مثل الألباني إسماعيل كاداريه يقول إنه "يمكن للشاعر أن يختبئ إلى ما لا نهاية وراء شعره، ولكن يمكننا أن نكشف الروائي بعد السطر الثالث من الرواية". أفكر كثيراً بكتابة رواية حول الجنوب اللبناني وعن قريتي وعن أحداثٍ عايشتها في الماضي، لكني لا أريد لهذه الرواية أن تبقى ضمن النطاق المحلّي، أريد أن أربطها بالروح الكوني أو بالعالمية، وأظن أن الأمر سيستغرق وقتا طويلا.

المزيد من ثقافة