Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفلسطيني فاروق وادي يكتب سيرته بين الواقعي والفانتازي

من سرير الولادة... إلى التنقل بين المدن والاحلام

الكاتب الفلسطيني فاروق وادي (يوتيوب)

 

"هَبْ أنّكَ لا تخاف، ويحَكَ ألا تشتاق؟". بهذه الشذرة من أقوال أحد كبار المتصوّفة، وهو الزاهد بِشْر الحافي، يفتتح الروائيّ فاروق وادي روايته "سرير المُشتاق"، فيعطينا مفتاحاً أوّلَ للولوج إلى الفصل الأوّل من روايته هذه، منذ عنوانها. وهي شذرة تضيء على مشاعر الشوق والحنين. ثمّ إنه يفتتح كلّ فصل من فصول الرواية بشذرة من مقولات المتصوّفة. الرواية الصادرة عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت، جاءت في توطئة "قبل أن تَقرأ" ومدخل وثلاثة فصول، في كل فصل أبواب تحمل أرقاماً، وتنتهي بقائمة مصادر. ولعلّ العلاقة بين اقتباسات الكاتب من الصّوفيّين وبين روح الرواية وتفاصيلها في حاجة إلى قراءة جادّة ومعمّقة.

في نصّ يمزج الواقعيّ بالخيالي الفانتازي يكتب فاروق وادي روايته "سريرَ المشتاق"، وفيما هو يكتب حكاية هذا السرير، فإنه يكتب شيئًا من سيرته هو. وكما الرّوائيّ/ السّارد بين مدن وعواصم عربية عدّة، عمّان ودمشق وبيروت والقاهرة وسواها، وهو اللاجئ الفلسطينيّ المولود بعد عام من كارثة العام 1948، فإنّ السّرير الذي يظلّ حاضرًا بوصفه "البطل"، يعيش حالاً من التنقل والتحوّل بين بيوت ودول عدّة. فما حكاية هذا السرير "الرمز"؟     

منذ ولادته، يرتبط المناضل، ثم الكاتب غسّان (وهذا هو اسمُه الحركيّ الذي اختاره لنفسه، وأصرّ عليه، منذ انتسابه إلى الجبهة الديمقراطية- نايف حواتمة، المنشقّة عن الجبهة الشعبية- جورج حبش، وجاء الاسم تيمّنًا بغسان كنفاني الذي ظل يحلم بملاقاته)، يرتبط مع السرير بعلاقة غير طبيعية، بل مأسويّة إلى حدّ ما. فالطبيعيّ أن يوضع المولود الجديد في سرير جميل ومزيّن، حين تكون الأسرة ميسورة الحال، أما حين يولد الطفل في خيمة، فكيف ستكون حاله؟ غسّان ابن مخيّم، شاهد سريراً باهراً في بيت لبعض ميسوري الحال، فسأل أمّه ما إذا كان حظي بسرير عند ولادته؟ أمْ أين كانت تضعه أمّه؟ فتجيبه "الباطية كانت سريرك الأوّل في الدنيا". والباطية "وعاء مُجوّف، آنية من القشّ، كالقُفّة أو أكبر قليلًا، كانت أمّي تعتزّ بها، بعد أن جلبتها مع جهاز عرسها" كما يروي غسّان.

لم يحظَ بسرير إذن، وحين شاهد سريراً باهراً، أصبح "السرير" حُلماً، وظلّ ينتظر سنوات حتى يحظى بسرير، إلى أن رأى "السرير" في بيروت، في بيت صديقه "آدم"، السّرير الذي يعود إلى "عطا" أحد الرّفاق. يُجنّ غسّان بالسرير، ولهذا سيطارده ويبحث في تاريخه وأسراره وجمالياته، فيظلّ يتغزّل، بل يتحرّش، به، فيكتب غسّان الفصل الأول من روايته بعنوان "البحث المثير في أصول السرير"، والفصل الثاني بعنوان "الطريق العسير إلى مكان السرير"، وضمن هذا البحث ينشأ ارتباطه "الشّاذ" الذي يبلغ حدود "الفيتشيّة"؟ إنه السرير "بطل" الرواية المتوّج.

وعلى سيرة "الفيتشيّة" في العلاقة مع السّرير، فغسّان لم يذهب فيها إلى ما ذهب إليه "عطا"، فهذا الأخير الذي سمع عن سرير "تحفة نادرة للبيع" سارع مع خطيبته لمعاينته، وكان انبهاره به إلى حدّ إصراره على شرائه مهما بلغ ثمنه، وبعد شهر يواظب خلاله على زيارة السرير و"التواصل" معه بطرق مختلفة، تلاحظ الخطيبة مستوى الاهتمام هذا، إلى درجة إهمال عطا لها، وتقرّر مراقبة "العلاقة" عن بعد، فتشاهد ممارسات غير طبيعية.

يروي غسّان، عبر السرير، همومه هو وأحلامه المتشظية، وما يقارب سيرته التي هي، في بعض تفاصيلها، جزء من سيرة المؤلف. يرى تشرّده في شوارع عمّان، في مرحلة ما بعد تخرّجه من الجامعة، في أجواء عمّان ما قبل أيلول الأسود (1970) وما بعده، وتشديد القبضة الأمنية، حيث المنع من العمل ومن السّفر وضياع الفرص لاستكمال الدراسة. وبعد مماطلات طويلة، حين تأتيه فرصة السفر للدراسة في الكويت، وفي الحدود الأردنية العراقية، في انتظار إنجاز معاملته لعبور بغداد ومنها إلى الكويت، يصوّر الروائيّ مشهد الحافلة المتهالكة التي تقلّه مع عدد من الرجال وامرأتين، إذ يكاد يحدث لهم ما حدث "لأبطال" غسان كنفاني في صهريج "رجال في الشمس".

الرحلة والحلم

 رحلته إلى الكويت، بالنسبة إليه، ليست سوى خطوة للرحيل إلى بيروت "الحلم"، بيروت التي ظلّت حلماً، الحرية والصحافة والعشيقة نشوى. فالحلم يتعلّق بمطاردة رفيقته وصديقته نشوى، الرفيقة الجامعيّة، ثمّ التنظيمية، التي قادته إلى "ليلة حمراء" لم تمنحه فيها شيئاً، وانتهت إلى إنذاره بأن هذه هي "البداية والنهاية"، لذلك سرعان ما تزوّجت وابتعدت، لكنّه لم يستسلم، فظلّ يلاحقها حيث أمكنه ذلك. وحين التقاها في بيروت لم تكن هي ذاتها. وحتى بيروت الحلم صارت واقعاً مرعباً مع الحرب. لكنّ "السرير" هو الحاضر الأكبر في تنقّلات غسّان بحثاً عن "نشوى" المتحوّلة إلى اسم "نهاية"، لكنّه في نهاية الرواية سيخبرنا أنه "لا توجد امرأةٌ اسمُها نَشوى، ولم أعرف لها أي اسم آخر (نهاية مثلًا)، كما أنني لا أُدعَى غسّان"!

وسواء كان سرير المشتاق هذا، واقعيّاً وحقيقيّاً، أم كان ذا أبعاد رمزيّة فقط، فإنّه يظلّ شديد الغرابة لكثرة تنقّله بين بيوت بيروت، قبل أن ينتهي شبه مُهترئ، في عباب الماء إلى سيريلانكا، مع الخادمة التي تمّ الاستغناء عن خدمتها في أحد البيوت. فالسرير هو، كما يخبرنا غسّان بلغة شهوانيّة، له "سحره الخاص وجاذبيته التي لا تقاوم، وهو يُحرِّض على التأمل والنّوم وممارسة الحب، وربما على الجري والصّهيل فوق مساحته الشّاسعة، الفسيحة، وهيئته المثيرة". يقع غسّان في سحر السرير، ويتابع تاريخَه ومحطّات تنقيله، ومن بين الافتراضات أن السرير جاء من بلاد شرق آسيا، اشتراه أمير ما ولم يصل إليه، بل توقف في بيروت ثمّ عمّان. وربما كان من الطبيعيّ أن ينتهي السرير إلى سيريلانكا، مع تلك الخادمة، لكنّ غسّان ظلّ مهووساً به.

غسّان هذا مثقّف وطليعي وتقدّمي، بحسب توصيفات تلك المرحلة، السبعينيّات، لذا فهو يأخذنا، ضمن جولاته وتحرّكاته، إلى مجموعة كبيرة من الأسماء الأدبية والفكرية، تبدأ بعالم النفس فرويد والروسي ديستويفسكي، وبالضرورة غسان كنفاني وروايته الشهيرة "رجال في الشمس"، والأهم هو افتتاحية كلّ فصل من فصول الرواية بأشعار ومقولات للمتصوّفة، ابن عربي وأبي يزيد البسطامي والرّومي، وغيرهم ممّن يسلك الروائيّ مسلكهم في اتّباع الرّوحانيّات أساسًا، ويثبّت الروائي في نهاية روايته مجموعة من "المصادر" اتّكأ عليها وأخذ منها، من دون أن تكون وثائقية أو تسجيليّة.

نقرأ، تصريحاً لا تلميحاً، عن سلوكه الشاذّ، وربّما التعبُّديّ تجاه السرير، وفي أثناء مراقبته جسد خادمة يتثنى فوق السرير الذي كان هو يتقدّم نحوه، مسلوباً بالسرير وليس بـ"الشغّالة" الباهرة الجمال "في البدء تقدّمتُ نحو الغرفة مأخوذاً بالسّرير. ربما حسِبَتْ المرأة أنني أتقدّم مدجّجاً بنواياي الخبيثة نحوها، بنيّة التحرُّش بها، مستجيبًا لجاذبيّة الغواية المتّقدة التي تطلقها فتنة الأنثى الكامنة هناك، والتي تزعزع هياكل الذّكورة كلّها. لكنني، كنتُ أخطو مسلوباً إلى الأمام كالسّائر في نومه". وبوضوح أشدّ، يبوح: "أطلقتْ (الشغّالة) ضحكة مغناجة وهي تراني مستغرقاً في تأمُّل السّرير. كأنني كنتُ أتحرّش به، بكلّ ما أوتيَتْ أصابعي من قدرة على التعبير عن شبقٍ لا حدود له". مسلوباً بفتنة السرير يسير إذن، فهل هي ذاكرته الطفليّة تجاه غياب سرير له في طفولته، وحضور سرير باهر لطفل من عائلة ميسورة؟

مع غسّان نعيش سيرة مناضل ترك النضال السياسيّ، وأخذ يتفرغ للكتابة الأدبية، ويعود إلى بعض ذكريات طفولته، وتحديدًا عندما كان يسأل والدته عمّا إذا كان له سرير في طفولته، فتجيبه بأنّ سريره كان عبارة عن "باطية". ورغم أنّه ينوّه، في نهاية الرواية، إلى كونها "بنت الخيال"، إلا أنه يورد أسماء أصدقاء معروفين، من كتّاب وسياسيّين، ساعدوه في الحصول على سرير في بيروت، فيقدم لهم الشكر والامتنان قبل التنويه النهائيّ.

المزيد من ثقافة