Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماذا يعني تفكيك نظام 30 يونيو في السودان؟

"تحويل الدين إلى دولة كان لا بد أن يفضي في حال التجريب الكامل للإسلاموية السياسية إلى جريمة كاملة"

تظاهرة في الخرطوم مطالِبة بحل النظام السابق ومحاكمة مسؤوليه (رويترز)

بصدور "قانون تفكيك نظام الـ 30 من يونيو (حزيران) 1989 وإزالة التمكين"، الذي أعلنه وزير الإعلام في الحكومة الانتقالية فيصل محمد صالح، وكشف عن تفاصيله وزير العدل نصر الدين عبد الباري (بعدما استغرقت صياغته النهائية والتعديل عليه 14 ساعة بين مجلسي السيادة والوزراء) يدخل السودان مرحلةً جديدة من تاريخه الحديث. 

سيكون من الأهمية بمكان الوقوف على معنى "قانون تفكيك نظام الـ 30 من يونيو 1989 وإزالة التمكين"، ودلالة هذا المسمى على مظلة الحركة الإسلامية السودانية التي قادها الراحل حسن الترابي طوال نصف قرن، والتي استولت على الحكم بانقلاب عمر البشير المشؤوم في 30 يونيو 1989 بمباركة من الترابي الذي قال للرئيس المستقيل آنذاك؛ "اذهب أنت إلى القصر رئيساً وأنا إلى السجن حبيساً؛ في أكبر جريمة سياسية قوضت النظام الدستوري الديمقراطي المنتخب بعد انتفاضة أبريل (نيسان) 1985 التي أسقطت الجنرال جعفر النميري في ذلك العام.
بطبيعة الحال، التفكيك لا يعني الاستئصال، كما لا يعني العنف، بل هو إطار قانوني يرسم ملامح معينة في طريقة تفكيك "نظام 30 يونيو"، عبر إزالة ما سُمي "سياسة التمكين" التي انتهجها النظام الانقلابي للبشير واعتمدت على أهل الولاء والثقة بدلاً من أهل الكفاءة والخبرة، وكانت نتيجتها هذا الدمار العظيم الذي أحدث خراباً استمر 30 سنة عمّ فيها الفساد الذي قسّم البلاد، وأشعل الحروب الأهلية في معظم أقاليم السودان في الجنوب والغرب والشرق، وانهارت بذلك البنية المدنية للحياة في السودان.

لطالما انتظر السودانيون بفارغ الصبر هذا القرار التاريخي لحكومة الثورة، وإصدارها قانوناً يشكل جوهر الفعل الثوري، والترجمة الحقيقية لمعنى انتصار الثورة السودانية التي اقتلعت البشير وأسقطت نظامه. إذ إن ما أصاب السودانيين على يد هذا النظام، لا يمكن مقارنته بأي تعبير لممارسات وسياسات حكومية في المنطقة التي شملتها موجة انتفاضات الربيع العربي منذ بداية عام 2011. وكان النظام بمثابة بلاء عسير لا طاقة للسودانيين (ولا لغيرهم) به في دينهم ودنياهم.
وفي تقديرنا، فإن بنية "سياسة التمكين" لا يمكن قراءتها والتحديق في خرابها المركب المديد إلا بقراءة مضمون ما سُمي المشروع الحضاري الذي كان في حقيقته وصفة لسُمٍّ أعده الترابي وتجرعه السودانيون لـ30 سنة، حتى أدى بهم، قبيل الثورة، إلى تفسخ كاد أن يكون لعنةً أبدية عليهم، لولا أن الشعب انتصر لذاته واتخذ قرار إسقاط النظام. الأمر الذي عصمه من مصير مظلم على يد هذا النظام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ذلك أن الأيديولوجيا الإسلاموية التي ورثها الترابي عن الإخوان المسلمين وطورها باتجاه زعم أنه تجديدي، كانت بطبيعتها تنطوي على تناقضات مدمرة، ولا يمكن أن تفضي إلا إلى الخراب والانقسام العمودي والفوضى والفساد. بمعنى آخر، فإن تحويل الدين إلى دولة (وهو أمر مستحيل لكن أيديولوجيا الإسلاميين ترى جوازه) كان لابد أن يفضي، في حال التجريب الكامل للإسلاموية السياسية إلى جريمة كاملة. وهي الجريمة التي استمرت 30 سنة في السودان منذ قيام الانقلاب المشؤوم للبشير في عام 1989.
كان الأمر هكذا ببساطة: بما أن جاهلية القرن العشرين هي شر عمّ مجتمعات المسلمين عبر الاستعمار فإن الحل في حال الوصول إلى السلطة هو في إعادة صياغة حياة المسلمين "صياغة إسلامية" (على ما في ذلك من مفارقة) وبما أن الصياغة هي صياغة أيدولوجية في حقيقتها، وليست إسلامية بالضرورة؛ كان لابد أن تتكشف الفظائع أيضاً. وكانت النتيجة، حالة كادت أن تمسخ المجتمع السوداني، لولا ما عصمته هذه الثورة.


"قانون تفكيك نظام الـ 30 من يونيو 1989 وإزالة التمكين" الذي صاغته حكومة الثورة، سيكون من هذه الناحية سابقة حصرية ومنهجية للسودانيين في إبداع منظومة قانونية كاشفة لتناقضات الإسلام السياسي ورصدها بصورة مقننة. فمجازفات الإسلام السياسي التي يمكن رصدها رصداً منظماً عبر هذا القانون؛ ستشير إلى كل الثغرات الأيديولوجية المدمرة التي استند إليها النظام فسرّعت بتناقضاته. وهي أيديولوجيا اضطرت دهاقنة الإسلام السياسي نظرياً، بدل اتباع "منظومة المنهجية المقاصدية" للتقليد السني لتسكين صراع الهوية الذي يعكس وعي المسلمين المتخلف للإسلام وللأزمنة الحديثة، إلى تحريف مفاهيم الإسلام ودلالاتها العلمية والمعرفية المنضبطة؛ كالتكفير والجهاد والتمكين والجماعة والخلافة والدعوة وغيرها، من مفاهيم الإسلام الشرعية، وذلك باتجاه تفسيرات وتحريفات أيديولوجية مفخخة كانت نتيجتها هذا الدمار الهائل لحياة السودانيين على مدى 30 سنة للأسف.
إن العبرة اليوم من أمثولة "قانون تفكيك نظام الـ 30 من يونيو 1989 وإزالة التمكين" تقوم على اكتشاف فرصة مؤاتية لتقنين جرائم الأيديولوجيا الإسلامية المعاصرة للإسلامويين عبر التجربة السودانية كنموذج إرشادي. وهي التجربة التي "أكلها" شعب السودان وتجرعها كاملةً لـ 30  سنة، كي لا يكون هناك شعب آخر في المنطقة يزايد على ما أصاب هذا الشعب الذي صبر صبراً صوفياً عزيزاً (لا مثيل له في المنطقة) كي يخرج من هذه المحنة أكثر صلابة ووعياً بسردية الإسلام السياسي!

اقرأ المزيد

المزيد من آراء