Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إيران بعد أربعين عاماً

أم القرى بين تصدير الثورة والعقلانية السياسية

ورة تظهر حشودا من المحتفلين بذكرى الثورة الإيرانية في العاصمة طهران (إ. ب)

هي عقود أربعة مرت على انتصار الثورة الإيرانية؛ أربعون عاما يمكن توزيعها على خمس مراحل من ثماني سنوات، كل مرحلة تشكل فترة حكم شخصية تولت قيادة إيران من موقع رئاسة الجمهورية وساهمت في رسم معالم تلك المرحلة وتفاصيلها داخليا وخارجيا.

وقبل الدخول في رسم معالم كل مرحلة من هذه المراحل، لا بد من التوقف عند مقطع زمني من عمر الثورة الإيرانية يمكن اعتباره مفصليا، لأنه شكل التأسيس الذي انتقلت فيه الثورة من حراك شعبي وسياسي شاركت فيه كل القوى الإيرانية المعارضة للنظام الملكي، إلى ثورة ذات طابع ديني أممي – إسلامي.

بعيدا عن مرحلة الحكومة الانتقالية التي أعلن عن توليها مسؤولية إدارة البلاد في الخامس من فبراير 1979 واستمرت في إدارة إيران حتى الرابع من فبراير 1980 وكانت برئاسة المهندس مهدي بازركان زعيم حركة تحرير إيران، وهي الحكومة التي تحملت أعباء التأسيس الدستوري من خلال إدارتها لانتخابات مجلس صياغة الدستور وأول انتخابات رئاسية وبرلمانية، إلا أنها أيضا تحملت أعباء إدارة أزمة الرهائن الأميركيين واحتلال السفارة الأميركية في طهران.

لعل الغرور السياسي الذي وقع فيه الرئيس الأول للجمهورية الإسلامية في إيران أبو الحسن بني صدر الذي وصل إلى الرئاسة في 4 فبراير 1980 وأقيل في 21 يونيو 1981، عندما دخل في معركة غير متكافئة مع المؤسسة الدينية حول صلاحيات رئاسة الجمهورية وحدود سلطة رجال الدين، هو الذي سمح بانتقال إيران إلى الحكم بطابعه الديني المحض، وقطع بذلك الطريق على إمكانية حصول شراكة نسبية بين الأحزاب المدنية والمؤسسة الدينية.

قبل وصول السيد علي خامنئي إلى رئاسة الجمهورية، انتخبت إيران الرئيس المدني الثاني وهو محمد علي رجائي، الذي امتدت رئاسته لنحو 28 يوما من شهر أغسطس عام 1981 وجرى اغتياله مع رئيس وزرائه محمد جواد باهنر.

على وقع هذه الأحداث المتسارعة، جرى انتخاب المرشد الحالي السيد خامنئي كأول رجل دين ليكون رئيسا لجمهورية إيران الإسلامية، مستفيدا من الأجواء الشعبية المتعاطفة مع النظام على إثر حدثين مفصليين، الأول تمثل باتهام بني صدر بالخيانة والثاني اغتيال رجائي.

تميز المرحلة الأولى من عمر النظام الإسلامي من ناحية بوجود المؤسس الطاغي – الإمام الخميني، ومن ناحية أخرى بتنازع حول الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء مير حسين موسوي، والتي أخذ فيها مؤسس النظام جانب رئيس الوزراء، وهو الصراع الذي سيعود للظهور بشكل آخر في أزمة انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2009، بين موسوي ومحمود أحمدي نجاد، بالإضافة إلى انشغال إيران بتداعيات الحرب مع العراق بكل أبعادها الاقتصادية والأمنية والسياسية وصولا إلى مرحلة الموافقة على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 بوقف إطلاق النار.

هذه المرحلة تميزت بتبني إيران مفهوم "أم القرى العالم الإسلامي"؛ وهو مفهوم أسس له الإمام الخميني من خلال التنظير لمسألة مركزية الجغرافيا الإيرانية بالنسبة للدول الإسلامية، على غرار مكة المكرمة، وهو ما يستدعي العمل على تحويل هذه الدول إلى أمة واحدة ودولة إسلامية تمهد الطريق أمام إقامة نظام إسلامي بقيادتها، وبالتالي يخرج إيران من حدودها الجغرافية ويحولها إلى محور هذا العالم وزعامته، انطلاقا من رؤية الخميني التي تقول إن الحفاظ على إيران كأم القرى العالم الإسلامي ضروري من أجل الحفاظ على الدين الإسلامي.

من هنا، وانطلاقا من هذا المفهوم وهذه الرؤية، اتسمت المرحلة الأولى من عمر الثورة الإسلامية بتبني سياسة تصدير الثورة التي دخلت في مفردات السياسة الخارجية لإيران بعد الثورة، والتي قامت على أسس الهوية الإسلامية، وهي مفاهيم وأسس لم تكن مطروحة في المواقف الخارجية قبل الثورة، خاصة ما يتعلق بمسألة "الأيديولوجية الإقليمية" بل قامت حينها على مبدأ "الإقليمية المحكومة بالضرورات الإستراتيجية" بعيدا عن أي بعد أيديولوجي، على الرغم من قدرة الشاه محمد رضا بهلوي اللعب على البعد الأيديولوجي لتكوين هوية سياسية وأمنية.

وفي هذه المرحلة فقد سعت القيادة الإيرانية لتصوير الحرب العراقية بأنها استعادة لمعركة كربلاء في أذهان الإيرانيين، لكنها لم تستطع تحويلها إلى أرضية اجتماعية وإقليمية لتثبيت مفهوم  مثال "أم القرى"، وفشلت في تطبيق سياسة تصدير الثورة واستثارة الرأي العام في دول المنطقة والتأسيس لبنى راديكالية وأيديولوجية توفير الأرضية الضرورية واللازمة لتنفيذ نموذج أم القرى، على الرغم من حدود إيران الأمنية خلال الحرب العراقية تجاوزت الحدود الجغرافية الرسمية بشكل كبير في ظل شعارات مثل تحرير كربلاء والقضاء على إسرائيل التي تحولت إلى مبادئ في السياسة الخارجية لإيران، ما مكن من توصيف هذه السياسة بأنها تتمحور حول مبدأ تصدير الثورة، الأمر الذي أثار ارتياب وقلق الدول العربية ودفعها للوقوف إلى جانب النظام العراقي في حربه ضد إيران.

تنامي هيمنة البعد الأيديولوجي ونفوذه في السياسة الخارجية هيأ الأرضية لتصدير الثورة، مستفيدة من تعدد أنماط الأيديولوجية والهوية، فاستطاعت خلق معادلة جديدة في التعاطي والسلوك، وتوظيف أشكال الهوية للجماعات والأحزاب الإسلامية في الشرق الأوسط من ناحية وأدلجتها من ناحية أخرى.

في المرحلة الثانية، وهي المرحلة التي تمثل وصول الراحل الشيخ على أكبر هاشمي رفسنجاني إلى رئاسة الجمهورية، وهي المرحلة التي شهدت تغييرا في مفهوم "أم القرى" الذي تبنته الثورة الإسلامية، وقام على أساس "إزالة التوتر" مع دول الجوار، وهي المرحلة التي شهدت انفتاح إيران على دول المحيط العربي والإسلامي، ما منح إيران خيارات واسعة للتعامل، خصوصا أنها ترافقت مع انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، فأصبحت أكثر واقعية، من دون التخلي عن المفهوم العام لأم القرى الذي يؤكد على محورية دور وموقع إيران في العالم الإسلامي، إلا أنه أخذ أبعادا ومفاهيم جديدة تؤكد على دور دول المحيط للعب دور إقليمي.

من هنا يمكن القول إن إيران في مرحلة رئاسة رفسنجاني، لم تتخل عن مبدأ "أم القرى" إلا أنها رأت أنه من دون تبني مبدأ تصدير الثورة إلى خارج حدود إيران يمكن أن تصل إلى النتائج والتأثير اللذين تريدهما، لذلك شهدت هذه المرحلة عملية إعادة تعريف هوية اجتماعية جديدة تقوم على أساس إعادة ترميم العلاقات وإزالة التوتر، وهذا ما جعل مفهوم "أم القرى" بحاجة إلى اعتماد مبدأ "إزالة التوتر" في السياسة الخارجية والمشاركة في المجالات الاقتصادية والتعاون في المسائل الإقليمية والدولية.

وبالتالي استطاع رفسنجاني إرساء مفهوم "إعادة البناء" الذي ميز مرحلة رئاسته على المستويين الداخلي والخارجي، الأمر الذي أدخل الكثير من التعديلات على مواقف ومفاهيم الثورة والنظام، والتي شكلت التأسيس السياسي والاجتماعي والاقتصادي لمرحلة الثالثة التي عرفت بمرحلة الإصلاحات أو المرحلة الثالثة التي اتسمت بوصول محمد خاتمي إلى رئاسة الجمهورية.

حاول خاتمي في رئاسته العمل على التأسيس لإيجاد وحدة بين الدول الإسلامية، من خلال تبني طرح "شرق أوسط إسلامي" و"حوار الحضارات". أما مبدأ الحفاظ على عقيدة "أم القرى" فقد سعى خاتمي لبلورته من خلال تعزيز العلاقات بين الدول الإسلامية من بوابة منظمة المؤتمر الإسلامي، وقدم تفسيرا وقراءة جديدة لمفهوم أم القرى، معيدا النظر في مؤلفاتها التي تحكم الرؤية الإيرانية الإقليمية والسياسية، ما يعني اعتماد سياسة إيرانية خارجية تقوم على إعادة إنتاج مفاهيم جديدة. من هنا تحول شرط "إزالة التوتر" أساسا في هذه السياسة كمدخل موضوعي وأساسي لحوار الحضارات، وعليه انتقلت الإدارة الدبلوماسية من حالة التأثر إلى حالة المبادرة وتحويل الأعداء إلى محايدين، والمحايدين إلى أصدقاء، ما ساهم في إحداث تغييرات في التعاطي والنظرة إلى إيران ووفر أرضية لإيران لإمكانية لعب دور على صعيد الدولي والعالم الإسلامي وعزز من قدراتها السياسية والإستراتيجية.

أما المرحلة الرابعة والتي شهدت الوصول الإشكالي لمحمود أحمدي نجاد إلى رئاسة الجمهورية، فيمكن اعتبارها بأنها تقارب الكارثة على كل ما أسسه الرئيسان السابقان رفسنجاني وخاتمي في إعادة تعريف دور وموقع إيران في المحيط والإقليم وعلى المستوى الدولي، خصوصا في إعادة صياغة مفهوم "أم القرى" بناء على المعطيات والمتسجدات الدولية السياسية والجيوإستراتيجية والجيوسياسية.

هذه المرحلة اتسمت بأنها مرحلة تخبط مفاهيمي بين الأيديولوجيا ومبدأ "أم القرى" وتصدير الثورة وسلوكيات اعتمدها أحمدي نجاد لا تعدو كونها مفاهيم شعبوية على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهي سلوكيات لا تعتمد على رؤية أو بعد فكري واضح.

فقد ساهم هذا الرئيس في نسف كل الإنجازات التي تحققت في المرحلتين السابقتين، إن كان على مستوى إزالة التوتر مع المحيط والإقليم، خاصة في شقه العربي الذي أسس له رفسنجاني ونقل إيران من دولة معزولة وغارقة في هموم إعادة الإعمار والبناء الاقتصادي إلى دولة حاضرة على الساحة الإقليمية في إطار الرؤية الإستراتيجية للثورة التي تنظر إلى دور إيران كأم القرى للعالم الإسلامي، وفي الشق الدولي الذي نحته خاتمي وأعاد إيران لتكون حاضرة ومشاركة على الصعيد الدولي وبالتالي التأسيس للعب دور على المستوى الدولي من خلال تبني شعار حوار الحضارات، وتوسيع دائرة الانفتاح الإيراني للتجاوز المحيط الإقليمي باتجاه العالم الإسلامي الأوسع.

فلم يستطع أحمدي نجاد الاستمرار في نهج الانفتاح الذي ورثه، ولم يقدر أن يعود بإيران إلى مرحلة تبني مبدأ تصدير الثورة أو فرض سياسة خارجية ارتدادية تستعيد مبادئ مرحلة التأسيس، بالإضافة إلى أن دوره التخريبي لم يقتصر على البعد الخارجي الذي وضع إيران في مواجهة المجتمع الدولي والإقليمي، بل وصل إلى البعد الداخلي الذي وضع الثورة ونظامها أمام تحد الاستمرار أو الانهيار والتفكيك من خلال تبنيه سياسة كيدية في مواجهة خصومه وحتى داعميه ومؤيديه، إلى جانب شعبوية اقتصادية حولت الاقتصاد الإيراني إلى اقتصاد ريعي ونفعي بشكل كبير، إلى جانب تبني سياسات اقتصادية عشوائية انتهت إلى تفشي ظاهرتي الفساد والاختلاس التي استنزفت الاحتياطي المالي لإيران.

بعد مرحلة التخريب الأحمدي نجادية، كان لا بد من العودة إلى تبني سياسة الترميم للنظام مما أصابه من أعطاب على الصعيدين الداخلي والخارجي، من هنا يمكن القول إن المرحلة الخامسة والتي تمثلت بوصول الشيخ حسن روحاني إلى رئاسة الجمهورية هي مرحلة إعادة الإعمار لبنى النظام السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالحد الممكن.

وهذه المرحلة التي لم تكتمل بعد صورتها النهائية من الناحية الفكرية والعملية، إلا أنها قامت على مبدأين  أساسيين يصبان في إطار عملية إعادة تعريف مفهوم "أم القرى"، الأول الدفع باتجاه العمل لتشكيل "منطقة قوية" القائمة على مبدأ تخفيف التوتر وإزالته مع دول المحيط والجوار العربي، وهو مبدأ وإن كان يلحظ دورا مشاركا لهذه الدول، إلا أنه يحافظ على تقدم إيران في محيطها ويعزز سعيها إلى ترسيخ محوريتها كأم القرى.

أما الثاني فقد تبلور بتحقيق نقلة نوعية، كانت الرئاسات في كل المراحل السابقة لا ترى إمكانية لتثبيت موقع ودور إيران على الساحتين الإقليمية والدولية من دون تحقيق خرق في جدار القطيعة مع الولايات المتحدة الأميركية، وأن حصول تغيير على هذا الصعيد كفيل بتحقيق تغيير جوهري وأساسي في التعاطي مع إيران كشريك ولاعب في القضايا الإقليمية والدولية.

إلا أن التحدي الأبرز الذي واجهته رئاسة روحاني كان المستجد المتمثل بالانتفاضات العربية وظاهرة الإرهاب، خصوصا على الساحتين العراقية والسورية، وهي تطورات عرقلت مساعيها لإقناع المحيط العربي بمفهوم المنطقة القوية على الرغم من رهانها على إمكانية تأثير حوارها مع واشنطن في تعزيز هذا التوجه. إلا أن انغماس النظام الإيراني في الأزمات الإقليمية خصوصا الحرب السورية إلى جانب النظام، وتمدد هذا الانغماس إلى الساحة اليمنية، فضلا عن توسع النفوذ في العراق، أعاد إلى الأذهان العربية المخاوف من عودة إيران إلى تبني سياسة "تصدير الثورة"، وهي مخاوف فرضتها مشهدية تصاعد نفوذ قوات حرس الثورة وتحكمها بالقرار الإقليمي وتأثيرها على السياسة الخارجية الإيرانية إن كان على الصعيد الإقليمي أو على الصعيد الدولي، الأمر الذي أربك رؤية روحاني لاستعادة دور إيران وتأثيرها، وبالتالي انعكس ذلك على الوضع الداخلي من بوابة الصراع على أهمية الانفتاح على الإدارة الأميركية والدخول في اتفاق حول البرنامج النووي، ما انعكس سلبا على إدارة الملف الاقتصادي الذي دخل في نفق طويل قد يصل إلى طريق مسدود إذا لم يتوصل الطرفان إلى تسويات تساعد على استقرار النظام.

وعليه، وأمام الموقف الذي يبدو شبه موحد إقليميا ودوليا من الطموحات الإيرانية الإقليمية والأمنية والعسكرية، قد يكون النظام الإسلامي في إيران أمام تحدي الاستجابة إلى متطلبات المرحلة، وضرورة تقديم رؤية جديدة تعيد إنتاج الإستراتيجية الإيرانية لدور وموقع إيران على الخارطة الدولية والإقليمية.

المزيد من آراء