Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس… بين النضال والاسطورة والحياة اليومية

"جيران العالم" مختارات شعرية بالعربية تواكب ذكراه

الشاعر اليوناني يانيس ريستوس (ويكبيديا)

"جيران العالم" مختارات من شعر يانيس ريتسوس، ترجمها عن اليونانية وقدَّم لها المصري خالد رؤوف، وصدرت الترجمة حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب لتواكب مرور 110 أعوام على مولده، و28 عاماً على رحيله. ولد يانيس ريتسوس في أول يناير (كانون الثاني) ويقال في مايو (أيار) 1909 ورحل في الحادي عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 1991 وترك حوالى مئة ديوان منشور، ونحو خمسين عملاً شعرياً وإبداعياً لم تنشر. اعتمد خالد رؤوف على مختارات أصدرتها خريسا بروكوباكي في العام 2000 عن "دار كذووس"، يمكن النظر إليها باعتبارها بانوراما راعت المراحل الشعرية التاريخية وكذلك الشخصية التي مر بها ريتسوس. المختارات عنوانها "جيران العالم"، وهو في الوقت نفسه عنوان قصيدة كتبت بين عامي 1949 و1959، وردت في الكتاب مقتطفات منها شغلت ثماني صفحات. يقول ريتسوس في مقطع من تلك القصيدة: "نسيت النساءُ العجائز القدور/ فاحت رائحةُ الطعام المحروق في الحي/ كانوا يهرولون ويصيحون بالتمجيد والحياة/ وأشجار الرمان تشعل ألعاباً نارية في بستان عيد الفصح/ ومكبرات الصوت من حي إلى حي/ تهتف وتصيح وتهلل قائلة: يا أهلاً ومرحباً بك أيتها الحرية".

وبحسب رؤوف فإنها ليست المرة الأولى التي يترجم فيها شيء من أعمال الشاعر يانيس ريتسوس؛ إلى اللغة العربية، لكن أغلب تلك الترجمات، إن لم يكن كلها، استندت إلى لغات وسيطة، كالإنجليزية والفرنسية، ومن ثم، "تعد هذه النسخة من بين من أشعار ريتسوس المترجمة إلى العربية عن اللغة الونانية مباشرة". ويضيف رؤوف: "بالطبع لا يمكن الإحاطة بأعمال ريتسوس كاملة، وأمام إنتاجه الغزير، سيكون من الصعوبة بمكان على أي مترجم أن يقدم مختارات تحيط بتجربته المديدة، حتى بالنسبة إلى من يعيش في اليونان ويكتب بلغتها، وعلى الرغم من أنني قبل الترجمة وخلالها قرأت أغلب ما طبع لريتسوس، إلا أن اعتماد مختارات بروكوباكي يسَّر المهمة، كونها اشتملت على دراسة عميقة حول منجز ريتسوس".

وبحسب خريسا بروكوباكي فإن ريتسوس ولد لعائلة إقطاعية في مونوفاسيا، انهارت اقتصادياً بعد سنوات قليلة من ولادته، ونشر أولى قصائده في العام 1924، وفي العام التالي استقر في أثينا، وأصيب في 1926 بداء السل الذي سبق أن حصد حياة أخيه الأكبر قبل ذلك بنحو خمس سنوات. في أثينا عمل ريتسوس في الطباعة ونسخ العقود، وعمل كذلك راقصاً ومصححاً ومراجعاً للنصوص. في مايو 1936 أوحى له القمع الدموي لمظاهرة عمال مصانع الدخان المضربين بقصيدة "المراثي"؛ هذه البكائية لأم أمام جسد ابنها المقتول، والتي تتحول إلى اعتراض اجتماعي، ثم تحرق نسخ منها مع كتب أخرى على يد ديكتاتورية 4 أغسطس (آب) في طقس خاص أمام أعمدة زيوس الأوليمبية في اليونان. وتلت تلك المرحلة فترة الانفجار الغنائي لدى ريتسوس، والتي بدأت تحديداً في 1937 متأثراً بمرض أخته "لولا" النفسي، والذي قادها إلى مصحة سبق أن عولج فيها أبوهما، فكتب قصيدة "أختي" التي تحمل البرهان من "بالاماس"؛ شيخ شعراء اليونان، الذي قال: "إننا ننحني كي تمر أيها الشاعر".  وفي العام 1938 جاء قصيدة "اتفاق ربيعي" لتعالج الجروح أمام معجزة الحب الأول. وفي عام 1940 كتب "في مسيرة المحيط" عن حلم السفر الكبير الذي يتغذى بذكريات صخرة مونوفاسيا. أما في العام 1943، فقد جاءت قصيدة "إيقاع المطر" لتعبر عن الموسيقى الواضحة التي تعقب الإيقاع الأساسي في موسيقى الرقص القومي البولندي حيث ظهرت بالتدريج إشارات رمزية عن واقع ظلمة الاحتلال. وطوال فترة الاحتلال، كان ريتسوس طريح الفراش بسبب وطأة المرض، يشارك في القسم الفني لجبهة التحرير القومية بالكثير من كتاباته التي كان من بينها رواية طويلة فقدت في أحداث سبتمبر(أيلول) الأهلية وقتذاك. في العام 1948، نُفي ريتسوس إلى جزيرة ليمنوس، وعاش في عام 1949 في ماكرونيس، وفي العام التالي في ستراتيس حتى أطلق سراحه في 1952.

قضايا النضال

مع قصيدة "المائة عام الأخيرة قبل تاريخ الإنساني"، بدأت مرحلة جديدة غطت تلك السنين الصعبة في حياة الشاعر، عبر قصائد موجهة حصرياً لقضايا النضال، بلغت الذروة مع قصيدة "ولاية عاصية" بتعبير عن إدراك عميق لهزيمة اليسار. تزوج ريتسوس في العام 1954 من الطبيبة غاريفاليو يورغياذو، وأعتبرت السنوات التالية فاصلاً من السلام والصفاء في محيط بيته حتى ولادة ابنته إري، التي ألهمته قصيدة "بهجة الصباح". ومن ثمرات تلك السنوات ديوان "البعد الرابع" والذي أعتبرت "سوناتا على ضوء القمر" (الحاصلة على جائزة الشعر القومية عام 1956) أهم قصائده. ومن جو تلك القصيدة: "أحياناً، عندما يأتي المساء، أشعر أن خارج النوافذ/ يمر مروض الدببة بدبته العجوز الثقيلة/ وشعرها ممتلئ بالأشواك/ تثير التراب في الشارع المجاور/ سحابة تراب صحراوية تذكر بالغسق/ والأولاد عادوا إلى بيوتهم للعشاء ولا يدعونهم يخرجون خارج البيوت/ لكن الكل وكل الأشياء تشعر بخطوات الدبة العجوز/ والدبة متعبة تمضي في حكمة وحدتها/ لا تعرف إلى أين أو لماذا". في هذه القصائد الطوال – أكثرها مونولوجات درامية- كان ريتسوس، كما تقول خريسا بروكوباكي، يرتدي أقنعة معاصرة أو أسطورية ويغزو بعمق بئر الروح والضمير، يتحدث عن العزلة، فقدان الحب، شيخوخة الجسد والأشياء. وفي الوقت نفسه كتب ريتسوس قصائد قصيرة تكثف المونولوجات الطويلة بنعومة، وغالباً بغموض ما، يدون بصوت خفيض الإيماءات القليلة، الصدمات الروحية، يثبت العابر ويكرس في شعره الحياة اليومية، حيث يتحدث إلى الناس والأشياء. وبعد الانقلاب العسكري (1967) يُنفى ريتسوس مرة أخرى إلى غافروس- ليروس، ثم يوضع رهن الإقامة الجبرية في منزله بجزيرة ساموس حتى نهاية 1970، وفي أثناء ذلك يصبح معروفاً عالمياً. في عام 1968 تصدر الثلاثية: أحجار، عادات، الحاجز الحديدي بلغتين في فرنسا، تعبيراً عن المرارة والشعور باليتم بعد توابع الأزمة في الدول الاشتراكية من دون أن يغيب نبض المقاومة، كما في المزامير، اختفاء ميلوس (1971)، أو "ثمانية عشر أغنية للوطن المرير" (1973)، حيث كان الجسد الأساسي لهذه القصائد مشبعاً بإحساس اللاجدوى والموت. أما في دواوين مثل "الحائط في المرآة"(1974) ، "ممر ودرج" (1973)، "كتابة أعمى" (1979)، يدخل ريتسوس عالم "كابوس يومي وليلي"، عالماً محطماً، مشوهاً، مصاباً بجنون العظمة، بحسب خريسا بروكوباكي. لكن في مونولوجات "البعد الرابع" (1972) مثل أجاممنون، خريسوثيميس، هيلين، عودة إيفيجينيا، يتحول مركز الثقل إلى الحقل الوجودي. أما في فترة الديكتاتورية العسكرية فستُسمع ألحان تخلد ثمار إبداعه، كانت دليلاً على يقظة وإرادة الشاعر المتمرد. بين 1972 و1983 سيكتب ريتسوس قصائد تمجد انتفاضة الطلاب في البوليتخنيو (مجمع العلوم)، لكنها تفتتح أساليب تعبير جديدة بعد الكتابة السوريالية التعبيرية، حيث تولد بلغة شعبية ملغومة ومزدوجة في عالم سائل، تكون فيه الناس، الحيوانات، أشياء تتحاور بتمرد وبلا التزامات. ثم ينتشر عالم غريب مثل النمل في خيال الشاعر الذي لا ينضب. ربما كان هذا ما يعنيه عنوان "الخلق" في مجلد كبير نشر عام 1977، تتجلى فيه علاقة "الكونية" مع ما سبق. أما جولات النصر فتأتي أيضاً في مجلد كبير يحتوي على مجموعات شعرية من عام 1978 حتى 1983. يستعيد الشاعر فيها ذكريات حدثت في المستقبل وتصورات حدسية لريتسوس الناضج الذي يستثمر كل محتوى شاعريته وغنائيته الكبيرة مرة أخرى في الرهان التاريخي. بعد ذلك تصدر مجموعة نثرية تعد امتداداً للشعر وهي "إطار أيقونات قديسين غير معروفين" (1983- 1996) تتحدث عن تجارب شخصية وإجتماعية وقصص حب متخيلة. وعقب رحيله صدرت لريتسوس مجموعات شعرية تحت عنوان "متأخراً، متأخراً جداً في منتصف الليل" (1991) كانت بمثابة التلويحة الأخيرة التي لا تكذب معها طموحاته، إذ ينظر فيها إلى الموت مباشرة ويسكب آخر لحظات كلامه، خريسا بروكوباكي.

من أين يأتي الشعر؟

ويقول خالد رؤوف: "في هذه الترجمة، حاولت أن أقدم نسحة عربية تحمل الأفكار الموجودة في النص الأصلي من دون تحوير أو إضافة أو تدخل لا تقتضيه متطلبات الترجمة، وأن أجعل النص المترجم يحتفظ بنفس الخصائص الأسلوبية الموجودة في النص الأصلي، بما فيها عناصر السهولة والوضوح أو تلك المركبة، وهو ما يعتبر أحد خصائص أسلوب ريتسوس في الكتابة الشعرية، متوخياً أن تولد استجابة مشابهة في ذهن قارئ النص المترجم لتلك الموجودة في ذهن قارئ النص الأصلي".                      

وأخيرا فإن أهمية ترجمة ريتسوس من اليونانية إلى العربية مباشرة لا ينبغي أن تنسينا أهمية ترجمات عبر لغات وسيطة، إذ سبق لرفعت سلام أن أصدر مختارات من شعر ريتسوس بعنوان "اللذة الأولى" عام 1992 وعاد مرة أخرى ليصدر "مختارات شاملة" لريتسوس عام 1997، وهو (أي سلام) صرح في أواخر 2017 بأنه انتهى من ترجمة مختارات ثالثة لريتسوس، في 1000 صفحة بعنوان "سوناتا ضوء القمر" من 12 ديواناً من بينها ديوان صدر بعد وفاته.

وفي السياق ذاته يقول سلام: "لم يعد ريتسوس بحاجة إلى تعريف، بل إلى اكتشاف دائم، وإعادة اكتشاف. فما ترجم منه إلى العربية ـ حتى الآن ـ لا يزيد عن شذرات، قياساً إلى ما أبدع. قارة شعرية كاملة لها جغرافيات وتواريخ وشعوب ومناخات، تتجلى في ما يزيد على الثمانين ديواناً، لا يشبه أحدها الآخر. كل ديوان بلد شعري بكامله، لـه دروبه المرئية وسراديبه السرية".‏

وهذا يذكرنا بما قاله الشاعر الفرنسي الكبير لويس أراغون عن ريتسوس: "من أين يأتي هذا الشعر؟ من أين يأتي حس الرعشة هذا؟"، ولم يلبث أراغون صاحب مجموعة "مجنون إلسا" أن وصف ريتسوس بأنه "أحد الكبار النادرين بين شعراء اليوم".‏

أما الشاعر سعدي يوسف، الذي قام بترجمة عدد من قصائد ريتسوس إلى العربية فيقول: "لقد أحسست دائماً وأنا أقرأ ريتسوس أن وراء قصيدته جهداً عظيماً وروحاً مصفاة، أوصلت قصيدة الحياة لديه، إلى هذه القطعة الغريبة من البلور".‏

ويقول عبده وازن، الشاعر والمترجم اللبناني الذي ترجم هو الآخر بعضاً من قصائد ريتسوس: "كلما قرأنا قصيدة لريتسوس أدركنا كم أن العالم الواقعي بأشيائه الملموسة وتفاصيله، قادر على أن يكون مادة للاستيحاء الشعري الخالص، ففي شعره تمتزج الأبعاد الواقعية بالنفحات الرثائية والتأملات الوجودية؛ من دون أن يبدو لقاء التناقضات هذا حدثاً مفتعلاً، فالشعر هنا يحاول أن يكتسب صفة النتاج "الأوبرالي" الصامت والمتنافر، الواسع الفضاء والمترامي الأطراف. صور خاطفة، لقطات وصفية، مجازات هاربة، أشياء يومية تنتحل ظلالاً سرية، ثقوب في جسد القصيدة، تمزقات، تقطعات هازئة تحل فجأة، فإذا الجنون يحاذي السخرية في نفس شعري حيادي، لا مبال، وإذا المقاطع الشعرية تتابع في إطار الصخب والصمت الأفعال اليومية الغريبة. كأن الشعر يتحاشى الحقيقة كي يقولها، بل كأنه ينظر إليها من ناحية أخرى غير مألوفة".‏

إن قصيدة ريتسوس كما يرى عبده وازن "تقترب من السرد ولا تقع فيه، تلامس حدود الغنائية ولا تسقط في امتدادها الوجداني، تجاور الوصف ولا تدخل مداه المغلق، كأن قصيدته حالة ملتبسة بين توجه تصويري مادي تفجر نفسي عميق وتخييل وهمي رحب".‏

المزيد من ثقافة