ملخص
مشروعات داوود عبدالسيد التي لم تر النور أكثر من تلك التي شاهدها الناس، عبارة تلخص باختصار كيف كانت مسيرة مخرج قابض على الفن، يعمل بروح الفيلسوف ويقدم أعمالاً تشبه الشرائح الأكبر من الجمهور رافضا السينما الاستعلائية، ومهتما بقضايا السياسة والإنسان ولديه القدرة على التواصل مع جميع الأجيال
رحل المخرج المصري داوود عبدالسيد تاركاً في رصيده تسعة أفلام روائية طويلة، وعشرات المشاريع التي لم ترَ النور، هي إحصائية بسيطة تقول الكثير عما كان يعانيه المخرج الكبير في سنواته الأخيرة، ففي حين أنه اختفى عن الأنظار منذ نحو ثلاث سنوات بعد تفاقم متاعبه الصحية، حيث كان يخضع في الفترة الأخيرة لجلسات الغسيل الكلوي بانتظام، لكنه قبل ذلك بوقت كان قد أعلن سخطه على واقع السينما، وعن عدم تمكنه من إنجاز مشروعاته، فعلى رغم كونه واحداً من أهم رواد سينما المؤلف في العالم العربي، فإن آخر فيلم قدمه قبل نحو 10 سنوات هو "قدرات غير عادية" لخالد أبو النجا ونجلاء بدر.
سارعت المؤسسات المعنية في مصر مثل الهيئة الوطنية للإعلام والنقابات الفنية، والنجوم أيضاً، لنعي المخرج البارز الذي اختيرت ثلاثة من أفلامه ضمن قائمة أهم 100 فيلم عربي التي أصدرها مهرجان دبي السينمائي قبل توقفه، وعلى رغم التقدير الكبير الذي حظي به على المستوى الرسمي بتكريمات متعددة، سواء من مهرجان الجونة السينمائي أو بمنحه جائزة النيل، وهي أرفع تكريم ممنوح من وزارة الثقافة المصرية، فمع كل هذا ظل عبدالسيد متأزماً في سنواته الأخيرة، بسبب عدم تمكنه من إنجاز أحلامه السينمائية بفعل حسابات السوق، ففي حين تدرك جهات الإنتاج والتسويق جيداً حجم هذا الفنان البارع، فإنه مع ذلك اضطر داوود عبدالسيد إلى الاعتزال في نهاية عام 2021، معتبراً أن قراره يعتبر "تحصيل حاصل"، فهو عملياً لم يخرج أي عمل منذ فيلمه الذي صوره عام 2014، مبدياً تقديره حينها للمحبة التي وصلت إليه من الجماهير، وتعبيرهم عن تأثرهم بأعماله، إلا أنه في الوقت نفسه لم يستطع أن يخفي المرارة، فالصناعة في السنوات الأخيرة كانت أضيق بكثير من خيال ورهافة فنان بمواصفاته الاستثنائية.
رحيل واحد من آخر الكبار
من يعرف المخرج الراحل الذي يعد واحداً من آخر كبار المهنة، يدرك جيداً أنه في حال كتابة وتحضير دائمة، ولديه قائمة من الأفلام التي كانت تنتظر، فلا أدل على الواقع الفني الذي عاشه فنان بحجمه من أنه قدم تسعة أفلام فقط طوال مسيرته من احترافه العمل مخرجاً منذ 40 عاماً، فقبل أول أفلامه "الصعاليك" 1985، كان قد عمل مساعد مخرج منذ نهاية الستينيات في مجموعة من أهم أفلام السينما المصرية والعربية كذلك، وهي "الأرض" مع يوسف شاهين، و"الرجل الذي فقد ظله" مع كمال الشيخ، ثم استكشف طريقه بأفلام تسجيلية وقصيرة مثل "عن الناس والأنبياء والفنانين، وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم، والعمل في الحقل".
بعد أسابيع قليلة من إكماله الـ79، فارق داوود عبدالسيد المولود في القاهرة في الـ23 من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1946، الحياة بهدوء، وأعلنت زوجته الكاتبة الصحافية كريمة كمال الخبر، بطريقة تشبه قصتهما معاً كثنائي محب متفهم قائلة عبر حسابها بموقع "فيسبوك": "رحل اليوم أغلى ما عندي زوجي وحبيبي داوود عبدالسيد"، حيث كانت الصحافية المعروفة قد حولت منزلهما إلى ما يشبه المستشفى في الفترة الأخيرة حفاظاً على صحته التي تراكمت عليها المتاعب، وكانت قالت في تصريح مقتضب هذا الصيف إن حالة عبدالسيد الصحية مستقرة، ويخضع لجلسات الغسيل الكلوي أسبوعياً بالمنزل، قبل أن يتدهور الوضع أخيراً.
من يملأ الفراغ؟
وعلى رغم تأزم الوضع الصحي للراحل فإنه كان يشارك من حين إلى آخر مع متابعيه عبر "فيسبوك" تدوينات تعبر عن مشاعره ومواقفه، ومن بينها منشور مختصر نعى فيه صديقه المخرج أحمد قاسم الذي فارق الحياة في نهاية فبراير (شباط) من هذا العام، وكتب حينها: "رحل صديق العمر أحمد قاسم، فلترقد في سلام يا صديقي، جيل يرحل ويترك فراغاً لا أعلم من يملؤه".
هذا الفراغ بالتحديد كانت تعانيه السينما حتى في ظل وجود كبار صناعها على قيد الحياة، ومن بينهم الراحل محمد خان الذي توفي وفي ملفاته مشروعات كثيرة لم تجد من يتحمس لإنتاجها، وبالمثل داوود عبدالسيد، الذي كان قد صرح مراراً أنه لا يهوى الأفلام التي تستقطب الجمهور النوعي، ولا يحب أن يصنع فيلماً تظل قاعات عرضه خاوية بسبب تبنيه لغة استعلائية، وعلى رغم أن هذه الصفة التصقت به لفترة بعد تقديمه فيلمه "البحث عن سيد مرزوق" بطولة نور الشريف وآثار الحكيم عام 1991، حيث قال في حوار سابق له أيضاً إنه ربما يعذر بعض الفئات من الجمهور في عدم استيعابه بصورة سلسة في حينها في الأقل.
لكن في المقابل، حققت باقي أعماله جماهيرية كبيرة وإلى جانب مستواها الفني الذي لا خلاف عليه والاحتفاء النقدي بها، فإنها أيضاً تحظى بشعبية حقيقية، وبالطبع أبرزها "الكيت كات" لمحمود عبدالعزيز الذي عرض في العام نفسه مع "البحث عن سيد مرزوق" ثاني أعماله مع نور الشريف بعد "الصعاليك" الذي كان قد شارك به محمود عبدالعزيز أيضاً، إذ إن تلك المرحلة كانت تشهد ترسيخاً لأسماء كبار ممثلي هذا الجيل، الذي كثيراً ما أشاد عبدالسيد بقدراتهم، وأثنى على تميزهم مقارنة بأجيال سابقة.
أبطال يشبهون الناس
يظل "الكيت كات" المأخوذ عن رواية "مالك الحزين" لإبراهيم أصلان، درة أعمال داوود عبدالسيد، وشخصية الشيخ حسني الكفيف، التي قدمها محمود عبدالعزيز ببراعة نادرة جعلته مرجعية لتقديم هذه النوعية من الأدوار، تمثل نموذجاً إنسانياً حقيقياً لا يمكن للمشاهد أن يتجاهل مدى نباهته وخفة ظله وقدرته على الهرب من الأزمات مستعيناً بحسه الفكاهي وذكائه الفطري، حيث تتجلى قدراته وشجاعته وعشقه للمخاطرة النابع من ثقة بلا حدود في نفسه، في مشهد قيادته للدراجة النارية الذي يعد أيقونياً في السينما، فيما الفيلم نفسه كان تشريحاً مجتمعياً دقيقاً لحال المواطن الذي يعيش في منطقة شعبية ويحاول النجاة بنفسه وصنع مصير أفضل من ذويه، ويستعرض حلم الهجرة للخارج والمشكلات الزوجية وحتى حلم الارتباط الذي يبدو مستحيلاً في ظل هذه الظروف، من خلال حكاية سينمائية بديعة.
يضاهيه أيضاً فيلم "أرض الخوف" 2000 بطولة أحمد زكي، حيث القصة المربكة الجريئة في عالم الكبار من خلال البطل الضابط الذي يدخل مهمة صعبة، ولا يخرج منها أبداً، ويظل عالقاً بها بعد اختفاء رؤسائه ومن أوكلوا إليه هذا الأمر، ويتضمن الفيلم مشاهد حوارية لا تنسى بين الشخصيات أبرزها أحمد زكي وعبدالرحمن أبو زهرة، ويتضح هنا كيف كان عبدالسيد مشغولاً دوماً بالسياسة وبتأثيرات المؤسسات الكبرى على أدق تفاصيل حياة المواطن، حيث يقدم حكاياته بجمال شاعري قلما امتلك زمامه أحد، المخرج المهم الذي يمتلك فلسفة لا يخطئها المتابع لأعماله جيداً، بخلاف "أرض الخوف" كان قدم أيضاً "أرض الأحلام" من خلال البطلة التي تخوض كفاحاً في البحث عن جواز سفرها كي تهاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية، وهو العمل الذي قامت ببطولته فاتن حمامة ويحيى الفخراني عام 1993.
داوود عبدالسيد المهموم بما يشغل المواطن حقيقة جعله يختار قصصاً تحاول كشف تشابكات العلاقات بين الطبقات المختلفة، من منظور اجتماعي وثقافي وقبل كل شيء إنساني، وهو ما يتضح بقوة في فيلمه "مواطن ومخبر وحرامي" 2001، حيث النقاشات بين الشخصيات الرئيسة كاشفة ونافذة، وتقول كثير عن أحوال العباد وعن رؤيتهم للسياسة والدين والجنس، وهي التابوهات الثلاثة التي نجح عبدالسيد دوماً في تأطيرها سينمائياً بصورة شاعرية قافزاً على المحاذير الرقابية بذكاء.
حضور مع الأجيال على رغم الغصة
اللافت أنه بعد هذا الفيلم انتظر نحو تسعة أعوام كاملة كي ينجز فيلمه الرومانسي "رسائل البحر" الذي كان مفترضاً أن يقدمه أحمد زكي وماجدة الرومي، وبفعل أمور كثيرة تأجل العمل سنوات وسنوات، ليذهب المشروع لآسر ياسين وبسمة، حيث الطبيب يحيى (يحيى هو أحد الأسماء المفضلة للمخرج الراحل وأطلقه على عدد من أبطاله الرئيسين) يعيد اكتشاف ذاته واكتشاف معنى الحياة من خلال رحلة تبدو بسيطة وعادية، لكنها عميقة التأثير، فيما مثل الفيلم محطة شديدة الأهمية لبطليه من خلال دورين رسخا مكانتيهما في عالم الفن السابع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يخاصم داوود عبدالسيد أي جيل من الفنانين، ولا حتى من الإعلاميين، كان يتواصل بصدق حقيقي مع الجميع، حباً في مهنته وشغفاً بفكرة الاكتشاف والمغامرة، ويغوص بعمق في تفاصيل القصص، وهي صفة جعلته قريباً من الجمهور، وبعيداً من التنظير الفني، وكان قد عمل على سبيل المثال مع شعبان عبدالرحيم المطرب الشعبي المعروف بأغنيته "أنا بكره إسرائيل"، وعمل عبدالسيد مع محمد هنيدي الذي كان لا يزال في بداياته نسبياً في "سارق الفرح" 1995، وهو الفيلم الذي شاركت به لوسي أيضاً بعد "البحث عن سيد مرزوق".
مسيرة داوود عبدالسيد كانت في أوج ازدهارها منذ منتصف الثمانينيات وحتى نهاية الألفية الثانية، وهي الفترة التي شهدت تنفيذه لأول ستة أفلام في مشواره، وبعدها تباعدت السنوات بين كل عمل وآخر، وزادت معها جرعة الإحباط التي لم يخفها الراحل، وإن كان رغم كل ذلك ظل متواصلاً ومطلعاً ومحباً لعمله الذي يبقى وثيقة حالمة على واقع قرأه بعين الفنان وإدراك الفيلسوف، ليلمس الجمهور صدقه وعبقريته مع إعادة مشاهدته مراراً.