Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صمغ السودان... آخر ما أحرقته الحرب

المزارعون هجروا حقولهم جراء المعارك والحواجز العسكرية تفرض "جباية باهظة" على الشحنات

الحرب والاحتطاب والنزوح تهدد باختفاء حزام الصمغ العربي (اندبندنت عربية - حسن حامد)

ملخص

منذ اندلاع الحرب تضرر مئات الآلاف من المزارعين الذين كانوا يعتمدون على زراعة وتجارة وتسويق الصمغ العربي في السودان، ولم يتمكن الآلاف من الذهاب إلى الحقول داخل المناطق التي يستعر فيها القتال، وغابوا عن موسم الحصاد الذي عادة ما يبدأ خلال أكتوبر ويمتد أحياناً حتى مايو.

يواجه إنتاج الصمغ العربي في السودان مصيراً مظلماً يهدد بالقضاء عليه في مهده الأساس داخل مناطق الإنتاج، حيث تشتعل المعارك منذ أشهر على طول شريط حزام الصمغ العربي المتركز بالدرجة الأولى داخل إقليم كردفان مع بعض امتداداته في إقليم دارفور وولاية النيل الأبيض. وإلى جانب المعارك تنتشر العصابات المسلحة في مناطق الإنتاج بصورة تهدد بخسارة هذا الحزام، وتزيد من تدهور الأراضي والبيئة وتعريض مزيد من المجتمعات المحلية للخطر.

وتسبب التصعيد العسكري المتزايد والمعارك والاشتباكات العنيفة بين الجيش وقوات "الدعم السريع"، التي لا تكاد تتوقف بولايات إقليم كردفان الثلاث (شمال وجنوب وغرب) في تشريد ونزوح عشرات آلاف من سكان حزام الصمغ العربي، مع استمرار تهديدات "الدعم" بمهاجمة المدن الرئيسة التي يسيطر عليها الجيش داخل هذا الإقليم، وتكثيف هجماتها بالطائرات المسيرة على الطرق الحيوية فيه.

ومنذ اندلاع الحرب تضرر مئات الآلاف من المزارعين الذين كانوا يعتمدون على زراعة وتجارة وتسويق الصمغ العربي في السودان، ولم يتمكن الآلاف من الذهاب إلى الحقول داخل المناطق التي يستعر فيها القتال، وغابوا عن موسم الحصاد الذي عادة ما يبدأ خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) ويمتد أحياناً حتى شهر مايو (أيار).

وأبدت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان قلقها الشديد إزاء تصاعد الأعمال القتالية بين أطراف الصراع في إقليم كردفان المشتعل، والغارات الجوية والمسيرة التي أدت إلى نزوح عدد من المواطنين وتضرر البنية التحتية، وسط نقص حاد في الخدمات الأساس بما فيها المستشفيات.

وأكدت بيانات محدثة لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين نزوح أكثر من 40 ألف شخص من ولاية شمال كردفان منذ الـ18 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

حافة الهاوية

تقول مديرة إدارة الأصماغ الطبيعية والمنتجات غير الخشبية ومؤسسة جمعيات منتجي الصمغ العربي بالهيئة القومية للغابات في السودان فاطمة محمد أحمد رملي، "نراقب في الإدارة ما آلت إليه جمعيات منتجي الصمغ العربي والمشهد في إقليم كردفان بقلب مثقل ومرارة لا توصف، فهذا الإقليم الذي يعد الرئة التي يتنفس بها إنتاج الصمغ العربي العالمي تحوّل اليوم إلى مسرح للمعارك والمواجهات الدامية، مما يضع مستقبل ما يمكن أن نطلق عليه (الذهب الأبيض) للسودان على حافة الهاوية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأشارت رملي إلى أن تأثير الحرب القاسية التي تدور في البلاد يتجاوز الخسائر البشرية المباشرة ليضرب بعمق نسيج الإنتاج والاقتصاد، ويمكن تلخيص مأساة البلاد الحالية في نقطتين محوريتين تتطلب كل منهما وقفة للتأمل وعملاً عاجلاً وجاداً، أولاهما مسألة التهجير وتدمير البنية التحتية للإنتاج، بعدما أدت الاشتباكات المستمرة بين الجيش وقوات "الدعم السريع" إلى تشريد الآلاف من الأسر والمزارعين الذين يشكلون العمود الفقري لعملية إنتاج الصمغ، وهؤلاء من يملكون الخبرة المتراكمة عبر الأجيال في ما يعرف بـ"طق" أشجار الهشاب والطلح (جرح الأشجار على نحو معين لحثها على الإنتاج)، ثم القيام لاحقاً بجني هذه المادة الحيوية.

وتتابع "أما الأمر الآخر هو فقدان الخبرات مع النزوح وضياع فرصة العمل في المواسم الحالية والقادمة، وهو ما يعني انقطاع سلسلة الإنتاج التي تعتمد على التوقيت الدقيق إلى جانب غياب الحماية، إذ تشير التقارير إلى أن المنتجين والمزارعين لا يجدون أية حماية تذكر من أي طرف، وهو ما يجعل العودة إلى مزارعهم أو حتى رعاية أشجارهم أمراً مستحيلاً ومحفوفاً بالأخطار القاتلة، وتسبب انقطاع الطرق وتدمير نقاط التجميع وانعدام الوقود والنقود للعمليات اللوجيستية في توقف الإمدادات، مما يؤدي في النهاية إلى تعطيل كل العملية من البداية وحتى مرحلة التصدير".

خطر صامت

فوق كل ذلك ترى مدير الأصماغ بالهيئة السودانية للغابات أن الخطر الصامت والأكثر تدميراً للقطاع والبيئة على المدى الطويل هو الاحتطاب الجائر الكارثي، إذ يلجأ كثر إلى قطع الأشجار بما فيها أشجار الصمغ العربي (الهشاب والطلح) بسبب النزوح وفقدان سبل العيش التقليدية، لاستخدامها كوقود للتدفئة والبناء والطهي أو لبيعها كمصدر دخل سريع للبقاء على قيد الحياة، بعدما تحول توفير الغذاء والدفء إلى أولوية قصوى بالنسبة إلى النازح، حتى ولو على حساب قطع شجرة الصمغ التي يستغرق نموها واكتمالها أعواماً عدة.

وتلفت رملي إلى أن "الصمغ العربي لا يمثل سلعة اقتصادية فحسب، بل يلعب حزام الصمغ العربي دوراً بيئياً حاسماً في مكافحة التصحر وتثبيت التربة، وعندما تُدمر تلك الأشجار والغابات فإننا نفقد درعاً بيئياً كاملاً، وليس مجرد محصول نقدي فحسب".

 

وحول نظرتها إلى مستقبل إنتاج الصمغ في ظل هذه الظروف، توضح مؤسسة جمعيات منتجي الصمغ العربي بالسودان "للأسف تبدو النظرة قاتمة جداً ما لم يحدث تدخل عاجل وفوري، لأن استمرار هذا الوضع سيؤدي إلى انهيار العرض العالمي للصمغ العربي، باعتبار أن السودان هو المنتج الأول له على مستوى العالم، إذ يقدر إنتاجه بـنسبة تراوح ما بين 70 و80 في المئة من الإمداد العالمي، بالتالي فإن أي تدهور كبير في إنتاج الصمغ سيعني نقصاً حاداً في الأسواق العالمية التي تعتمد عليه في الصناعات الغذائية والصيدلانية والكيماوية".

وتردف "كذلك بما أن الصمغ العربي أحد أهم مصادر النقد الأجنبي للبلاد، فإن خسارته تعني تعميق الأزمة الاقتصادية وتضاؤل فرص التعافي بعد الحرب، إلى جانب تفاقم الكارثة البيئية عبر تسريع الزحف الصحراوي حال فقدان حزام الصمغ العربي، مما يزيد من تدهور الأراضي ويعرّض المجتمعات للخطر".

ترى مؤسسة جمعيات منتجي الصمغ أن المطلوب العاجل حالياً هو أن تدرك الأطراف المتحاربة أن الصمغ العربي هو ملك للشعب السوداني ومستقبل للأجيال القادمة، وهم مدعوون إلى توفير ممرات آمنة لضمان وصول المزارعين إلى مزارعهم خلال هذا الموسم، إلى جانب توفير الحماية لهم ولمواقع ومناطق إنتاج الصمغ العربي، واعتبارها مناطق حيادية وذات طبيعة إنسانية لا ينبغي أن تطاولها نيران المعارك والاشتباكات.

وتضيف، "يجب أن ندرك أن الصمغ العربي هو كنز السودان وعماد اقتصاده الأخضر، لذلك يجب ألا ندعه يصبح ضحية إضافية لهذه الحرب اللعينة"، مشيرة إلى أن إنقاذ الإنتاج هو إنقاذ لسبل عيش ملايين الناس، فضلاً عن كونه إنقاذاً لبيئة السودان ذاتها"، ومطالبةً المنظمات الدولية والمحلية بدعم الجمعيات التعاونية للمنتجين، وتوفير حاجات النازحين الأساس بعيداً من الغابة، وإيجاد بدائل لهم تبعدهم من الاحتطاب.

خارج الحقول

يقول مزارعون ومتعاملون في تجارة الصمغ العربي بولاية شمال كردفان إن المزارعين داخل مناطق الإنتاج بالإقليم وبعض مناطق دارفور وحتى النيل الأبيض توقفوا عن الذهاب إلى الحقول، بسبب الوضع الأمني وانتشار العصابات المسلحة، مما يمنعهم من ممارسة النشاط الإنتاجي في هذا القطاع الحيوي.

وخلال وقت تعاني الأسر الفارة من القتال شمال كردفان صعوبات كبيرة في إيجاد الطعام ومياه الشرب بعد فقدانها مصادر رزقها في إنتاج الصمغ، يصر عناصر "الدعم السريع" من جنود وضباط على الحصول على مبالغ كبيرة من شحنات الصمغ العربي التي يعترضون سبيلها، ويطلبون مبالغ هائلة نظير السماح بمرورها تفوق المليار جنيه سوداني للشحنة الواحدة.

ويشكو التجار من أن الشحنات التي تحاول الوصول إلى ميناء بورتسودان شرق البلاد من مناطق الإنتاج تمر بسلسلة من الحواجز العسكرية سواء للجيش أو "الدعم السريع"، وجميعها تفرض رسوماً مبالغاً فيها.

 

ويرى المزارعون والتجار أن قطاع الصمغ العربي أصبح خلال الحرب تحت رحمة شبكة تقدم الحماية للمنتجين من الحقول وصولاً إلى تصدير الإنتاج سواء عبر تشاد أو ميناء بورتسودان شرق السودان، لأن التجار يواجهون الحواجز العسكرية عبر الطرق البرية أو حتى داخل الحقول في إقليم كردفان ودارفور وأجزاء من النيل الأبيض.

من جانبه، اعتبر رئيس مجلس الصمغ العربي السوداني مصطفى السيد الخليل أن الاحتطاب سواء للمتاجرة أو للاستهلاك بات الآفة المخيفة جداً التي تتسبب في تدهور مورد الصمغ العربي، مشيراً إلى أن مواقع المعارك الجارية حالياً تكاد تكون أشجار الصمغ العربي انعدمت فيها تماماً.

ويحتاج حزام الصمغ العربي بعد الحرب، وفق الخليل، إلى خطة شاملة لإعادة تنميته مع ضرورة ترقية الهيئة القومية للغابات إلى مستوى وزارة كاملة قائمة بذاتها تكون مهمتها الاستزراع والحماية لقطاع الصمغ العربي، مما يتطلب مراجعة قوانين حماية الغابات منذ عام 1902 وحتى اليوم، مع توفير الغاز الطبيعي للاستعمال المنزلي وتغيير النمط الهندسي للمباني تخفيفاً للضغط على الأخشاب والفحم النباتي، ومنعاً للاحتطاب والقطع الجائر للأشجار.

ومنذ اندلاع الحرب انهارت أسواق الصمغ العربي في السودان بخروج السوق الرئيس للمحاصيل والصمغ العربي داخل مدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان على بعد 600 كيلومتر غرب الخرطوم من الخدمة اليومية، بسبب تدهور الأوضاع الأمنية واحتدام المعارك والمواجهات العسكرية.

ويعد السودان أكبر منتج عالمي للصمغ العربي، وتقدر العائدات السنوية التي يدرها على خزانة الدولة بـنحو 300 مليون دولار، على رغم النشاط الكبير في تهريب هذه السلعة عبر حدود السودان المفتوحة.

وتغطي حقول الصمغ العربي في السودان نحو نصف مليون فدان تشمل أكثر من ست ولايات سودانية، تقع معظمها داخل مناطق تشهد تصعيداً كبيراً للمعارك والعمليات الحربية بين الجيش وقوات "الدعم السريع" منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023.

ويمتد حزام الصمغ عبر ولايات كردفان ودارفور والنيل الأزرق والقضارف وغيرها، ويشكل هذا الحزام شريان حياة لأكثر من 5 ملايين سوداني يعملون فيه.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير