Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من يمنع اللبناني من زيارة مقدساته... الدولة أم "العدو" أم الخوف؟

يكشف الجدل الدائر اليوم حول الحرمان من زيارة هذه الأماكن في إسرائيل عن مأزق أعمق من مجرد منع سفر أو قيود قانونية

استقبال وفد رجال الدين السوريين في مجدل شمس بالجولان (رويترز)

ملخص

قد لا يتغير هذا الواقع قريباً، لكن النقاش بحد ذاته يعيد طرح السؤال على الدولة والمجتمع معاً، هل يمكن إيجاد مقاربة توازن بين الاعتبارات الأمنية والسياسية؟ وبين حق الإنسان في التواصل مع جذوره وأرض مقدساته؟ أم يبقى الباب مغلقاً والجغرافيا تفصل ما جمعته القرابة والعقيدة؟

يتصاعد في الآونة الأخيرة الحديث بين اللبنانيين حول ملف مهمل طويلاً ومشحون بالعاطفة والجدل السياسي، وهو حق اللبناني في زيارة الأماكن المقدسة الواقعة داخل إسرائيل، ليس بوصفها مجرد وجهات دينية أو سياحية، بل كجغرافيا ذاكرة وقرابة، ونصف هوية معلقة بين تاريخ مشترك وحدود صارت جدار حرب. وهذا النقاش لم يأتِ من فراغ، بل من شعور عدد كبير من اللبنانيين، من دروز ومسيحيين، الذين يمتد حضور عائلاتهم من الجبل إلى الجليل والكرمل والجولان، بأنهم محرومون من رؤية مقاماتهم وذويهم داخل فلسطين التاريخية، وأن السياسة والقوانين حجزت ما كان في الماضي امتداداً طبيعياً للعائلة والعبادة.

فبالنسبة إلى كثير من الطوائف اللبنانية، وبخاصة من الدروز والمسيحيين، الحديث لم يعد فقط عن زيارة مقام أو حج روحي، بل عن لقاء قريب لم يروه منذ عقود، وعن أسماء تُقال على الهاتف ولا تُصافح، وعن ذكريات لا تعبر الحدود إلا في الصور. وبين من يرى في هذا الحق ممارسة روحية وإنسانية مشروعة، ومن يعتبر أن أي عبور نحو إسرائيل يرقى إلى التطبيع والتعامل مع العدو، ينشطر اللبنانيون اليوم أمام سؤال أكبر من الحدود والجوازات، هل يمكن للدين والقرابة أن ينتصرا على الجغرافيا السياسية؟ أم أن الصراع سيظل أقوى من الذاكرة المشتركة؟ إنه ملف يختبر معنى الهوية والانتماء في بلد عاش 70 عاماً على إيقاع العداء مع إسرائيل، ويعيد فتح جرح قديم حول من نكون أمام من يعبر الحدود من أجل صلاة أو حضن قريب؟

 

قداسة المكان وحدود العدو

زيارة الأماكن المقدسة في فلسطين أو إسرائيل بالنسبة إلى اللبنانيين، هي في الجوهر صدام بين ثلاثة عوالم: الانتماء الديني والوجداني، والقانون اللبناني الذي يعتبر إسرائيل "دولة عدوة"، والمناخ السياسي والاجتماعي المشرّب بثقافة المقاطعة.

بالنسبة إلى المسيحيين اللبنانيين الأماكن المقدسة في القدس وبيت لحم والناصرة والجليل ليست مجرد مواقع سياحية، هي جزء من المخيلة الروحية واليومية: الميلاد، والقيامة، وطريق الآلام، وبحيرة طبريا، إلى ما هناك من الأماكن التي ترتبط بالذاكرة المسيحية، وتمتد بالعمق التاريخي وصولاً إلى فترة وجود السيد المسيح.

وبالنسبة إلى الدروز، مقامات النبي شعيب، والخلوات في الجليل والكرمل والجولان هي جزء من الذاكرة الدينية والروحية لجماعة تمتد بين لبنان وسوريا وفلسطين التاريخية.

لكن منذ قيام دولة إسرائيل وإعلان لبنان أنها "دولة عدوة"، تحول الحج والزيارة من ممارسة طبيعية إلى فعل محاط بالشبهة القانونية والسياسية والرمزية.

لماذا تعتبر الزيارة جريمة محتملة؟

تعتبر إسرائيل "دولة عدوة"، ولا تزال العلاقات بين البلدين في حال حرب رسمية، على رغم الهدنات والقرارات الدولية، الهدنة عام 1949 ثم القرار الدولي 425 وصولاً إلى القرار 1701، ويعامل لبنان إسرائيل كـ"كيان عدو"، وتصنف إسرائيل بدورها لبنان "دولة عدوة"، وتمنع الدخول والخروج المباشر بين الطرفين، وأي عبور يتم دائماً عبر بلد ثالث، كالأردن وقبرص وتركيا، وغيرها.

 

قانون مقاطعة إسرائيل

في الـ23 من يونيو (حزيران) عام 1955 صدر قانون "مقاطعة إسرائيل"، الذي تبنى مقررات المقاطعة العربية، وأنشئ لاحقاً "مكتب مقاطعة إسرائيل" في وزارة الاقتصاد لمتابعة تنفيذ المقاطعة الاقتصادية وكل أشكال التعامل، والمقاطعة هنا ليست اقتصادية فقط، بل تتحول في التطبيق إلى مقاطعة شاملة، أي إلى تجارية وثقافية ومهنية، وأحياناً حتى أكاديمية.

مواد قانون العقوبات اللبناني

تفسر الفصل المتعلق بـ"التعامل مع العدو" في قانون العقوبات اللبناني، بصورة واسعة جداً، المواد التي تتعلق بأي "اتصال" أو "تواصل" مع العدو أو من ينوب عنه، وقد تُعاقب بالأشغال الشاقة الطويلة أو حتى الإعدام في الحالات الأشد، أي التجسس وتقديم معلومات والتعاون الأمني. وتتناول المادة 278 التواصل مع العدو، وتعتبر كل اتصال به جريمة، حتى لو كان بنية سيئة أو للسخرية، وتشدد العقوبة إذا أدى إلى إثارة النعرات الطائفية وفق المادة 317، أما المادة 282 فتنص على أن "من سرق أشياء أو وثائق أو معلومات كالتي ذكرت في المادة السابقة أو استحصل عليها عوقب بالأشغال الشاقة الموقتة. وإذا اقترفت الجناية لمنفعة دولة أجنبية كانت العقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة"، ويُفسر "العدو" في القانون اللبناني غالباً على أنه الكيان الإسرائيلي، وقد تتسع الدلالة لتشمل أي جهة معادية للدولة اللبنانية، لكن التطبيق يركز بصورة خاصة على "إسرائيل".

وتهمة التعامل تشمل التواصل بأي وسيلة (حتى السخرية) والتجسس وتقديم المساعدة والتطبيع، وتُعد جناية تراوح عقوبتها ما بين ثلاثة و10 أعوام وغرامة، وخلال الحرب الأخيرة بين "حزب الله" وإسرائيل برز بصورة واضحة التفاعل من قبل اللبنانيين مع المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، وحتى من قبل أشخاص يعتبرون من بيئة الحزب الحاضنة، من صحافيين وإعلاميين. وتصاعد الجدل بعد البيان الرسمي الصادر عن وزارة الإعلام اللبنانية، الذي شدد على رفض أي شكل من أشكال "التواصل المباشر أو غير المباشر مع العدو"، ولكن هنا، يترك للقاضي تحديد ما إذا كان الفعل يندرج تحت "التعامل مع العدو" أم لا، بناء على الظروف والنية، مع استمرار النقاش حول بعض السلوكيات، مثل التواصل الساخر عبر الإنترنت. وتشير مراجع حقوقية إلى أن القضاء اللبناني حاكم أشخاصاً لمجرد التواصل مع جهات إسرائيلية أو السفر إلى إسرائيل، باعتبار أن مجرد الزيارة يعتبر "تواصلاً مع العدو"، حتى لو رُفعت الراية الدينية أو الإنسانية، والنتيجة أن أي لبناني يزور إسرائيل، حتى للحج أو السياحة، معرض مبدئياً للملاحقة بتهمة التعامل مع العدو، مما يخلق مناخ خوف دائماً.

 

بين الحج ومحظورات التطبيع

في يوليو (تموز) عام 2022 أوقف عناصر من الأمن العام اللبناني راعي أبرشية حيفا والأراضي المقدسة والنائب البطريركي على القدس والأراضي الفلسطينية والمملكة الهاشمية بالطائفة المارونية المطران موسى الحاج، أثناء عودته من القدس، في مركزهم في معبر الناقورة الحدودي مع إسرائيل لأكثر من 12 ساعة، بأمر من مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية حينها القاضي فادي عقيقي. وأثار الموضوع جدلاً ومادة خلافية بين "حزب الله" والبطريرك الماروني بشارة الراعي الذي قال في أول تصريح له بعد الحادثة إن ما قام به المطران الحاج "هو عمل إنساني"، فيما رأى الحزب على لسان رئيس كتلته النيابية النائب محمد رعد أن "التعامل مع العدو خيانة وطنية وجريمة والمتعامل لا يمثل طائفة". واستنكر الأساقفة الموارنة في ذلك الوقت توقيف المطران وتفتيشه، وطالبوا بمحاسبة كل مسؤول عما جرى وبتنحية القاضي عقيقي. والمطران الحاج ومنذ تعيينه واصل القيام بالمهمات التي كانت تنفذ منذ 25 عاماً، فترة المطران بولس صياح، وهي نقل المال لعائلات محتاجة في لبنان وكذلك الأدوية التي يتم التبرع بها للمرضى، كذلك شكل حلقة وصل بين العائلة الواحدة على طرفي الحدود وبينها عائلات فلسطينية من مسلمين ودروز ومسيحيين فصلت بينها إسرائيل منذ عام 1948، عندما تم تهجير وطرد العائلات الفلسطينية ووصل الآلاف منها إلى مخيمات اللاجئين في لبنان، كذلك كان يتم نقل مساعدات مالية من العائلات اللبنانية الموجودة داخل الخط الأخضر منذ عام 2000 إلى عائلاتها في لبنان.

وخلال تحقيق نشر في "اندبندنت عربية" حينها، أشار إلى أنه منذ بعد "انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) عام 2020 تم نقل مليارات الدولارات التي جمعت إضافة إلى الأدوية والمعدات الطبية، بمعرفة الدولة اللبنانية والأجهزة الأمنية والجهات ذات الشأن، ونشطت داخل الخط الأخضر، (الخط الأخضر بين لبنان وإسرائيل هو في الأصل خط هدنة عام 1949 الذي رسمته الأمم المتحدة بعد الحرب العربية - الإسرائيلية، يفصل بين الأراضي التي سيطر عليها كل طرف، ويُعرف أحياناً بخط الهدنة)، خصوصاً في الجليل وحيفا ومختلف بلدات فلسطينيي عام 1948، جمعيات ومؤسسات وأحزاب وطنية عدة لجمع التبرعات".

وفي حديث مع "اندبندنت عربية" قال أحمد وهب من بلدة عسفيا، ممثل عن الطائفة الدرزية في جمع التبرعات والدعم، "إن ما تم نقله من هذه الجمعيات من تبرعات مالية وأدوية، كما في المرات السابقة، يخدم ما لا يقل عن 1000 عائلة في لبنان تعيش حال فقر مدقع، والمئات يعيشون في حال صحية صعبة ويحتاجون إلى الأدوية غير المتوفرة في لبنان بسبب الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، إضافة إلى حاجتهم إلى المال لتوفير كلفة عمليات جراحية يحتاجون إليها لإنقاذ حياتهم ووضع حد لمعاناتهم الصحية". وأكد وهب أن "ما نقل مع المطران الحاج، في غالبيته العظمى، تم جمعه من جمعيات ونشطاء من فلسطينيي عام 1948 من مختلف الطوائف من المسيحيين والمسلمين والدروز، وهو استمرار لما بدأنا به منذ مدة طويلة وازدادت قيمته بعد الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والصحي في لبنان".

وفي حديث المطران الحاج مع "اندبندنت عربية"، أثناءها، قال "منذ انفجار مرفأ بيروت وتدهور الأوضاع المالية والاجتماعية والصحية في لبنان تجندت جهات فلسطينية داخل الخط الأخضر لجمع التبرعات وكل ما يتطلب للعائلات المحتاجة والمرضى".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مساحات رمادية قبل حرب 1967

لكن الأمور لم تكن كذلك في السابق، وقبل عام 1948، وضمن نظام الانتدابين الفرنسي (لبنان وسوريا) والبريطاني (فلسطين)، كانت الحركة بين بيروت والجليل والقدس طبيعية، والحج المسيحي جزءاً من دورة الحياة في الكنائس المشرقية، وبعد قيام إسرائيل عام 1948، أغلقت الحدود عملياً، لكن الكنيسة الكاثوليكية وغيرها، سعت إلى ترتيبات خاصة تسمح لبعض المطارنة بعبور الحدود لرعاية رعاياهم في حيفا والجليل. وفي أوائل الستينيات، مُنح أسقف حيفا الماروني حينها بولس الصياح الإذن بالمرور عبر الناقورة في أكثر من مناسبة (1962 و1964) لمتابعة شؤون رعاياه. هذه المرحلة شكلت نوعاً من "الاستثناء الرعوي" قبل أن تُغلق تقريباً بعد حرب عام 1967، وبعدها أغلق باب الحج المنظم، وذلك بعد احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية عام 1967، واشتدت المقاطعة العربية، وفُسرت زيارات القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي كنوع من الاعتراف الضمني بالسيادة الإسرائيلية على المدينة، وعملياً توقفت إمكانات الحج المنظمة من لبنان إلى القدس وبيت لحم والناصرة، وصارت أي زيارة تتم عبر جوازات أجنبية، ومن بلدان ثالثة، وبصفة فردية جداً.

من الاستثناءات التي أثارت جدلاً داخلياً لبنانياً حال البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي عام 2014، حين شارك في زيارة إلى الأراضي المقدسة عبر الأردن، بالتزامن مع زيارة بابا الفاتيكان فرنسيس الأول، واعتبرها الراعي "زيارة رعوية للأبرشيات المارونية" لا تطبيعاً سياسياً، لكن الزيارة أثارت عاصفة سياسية وإعلامية في لبنان، فخصومه اتهموه بتجاوز قانون المقاطعة، بينما هو شدد على أنه لم يلتقِ مسؤولين إسرائيليين ولم يدخل من لبنان بل من الأردن، وهذا يعني أن حتى رأس الكنيسة، حين يزور الأماكن المقدسة، يتحول إلى هدف لاتهامات التطبيع والخيانة، فكيف بالمواطن العادي؟

في هذا الصدد أثارت تصريحات الإعلامي اللبناني مارسيل غانم جدلاً، أخيراً، بعد إعلانه عن رغبته بزيارة القدس قبل وفاته، وعن دعمه للسلام مع إسرائيل، وهذا ما أدى إلى ردود فعل واسعة وانتقادات حادة، في لبنان والعالم العربي، حيث اعتبرت تصريحاته مناقضة لمواقفه السابقة وتوجهات الدولة اللبنانية، بخاصة من قبل "حزب الله" وأنصار "محور الممانعة"، الذين خونوه بطبيعة الحال.

أيضاً قال الكاتب السياسي جوزيف أبو فاضل "بعد الحرب والدمار ستأتي المفاوضات والسلام، وهذا برأيي العلني أمر يجب أن يحصل"، وتابع "نعم سأصلي في القدس بعد السلام، ولماذا لبنان سيبقى وحده خارج إطار الاتفاقات الإبراهيمية، لنفترض أن إيران وقعت السلام مع إسرائيل، هل سيبقى لبنان وحده حامل لواء العداء والحرب؟ الاتجاه في الإقليم نحو السلام والاستقرار، ولبنان تعب من الحروب والدمار ويحق لشعبه أن يرتاح"، أضاف "في إسرائيل أو فلسطين المحتلة، أماكن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسيد المسيح، منها درب الآلام، (وهو المسار التاريخي داخل البلدة القديمة في القدس، حسب المعتقد المسيحي، الذي سلكه السيد المسيح حاملاً صليبه من لحظة إدانته من بيلاطس البنطي حتى موقع صلبه، أي الجلجلة، في كنيسة القيامة، وكنيسة القيامة بالقدس، وكنيسة المهد ببيت لحم (مكان الولادة)، وبازيليكا البشارة بالناصرة (مكان العيش والشباب)، إضافة إلى المغطس في نهر الأردن (مكان المعمودية)، وكنيسة التطويبات في الجليل (مكان عظة الجبل)، وكفرناحوم (مركز تبشيره) وقانا الجليل (مكان أولى معجزاته)، وكلها أماكن يحق للمسيحي اللبناني وفي كل العالم زيارتها، وسنزورها إن شاء الله".

الدروز بين المقامات الموحدة والحدود الممزقة

يعتبر مقام النبي شعيب في الجليل، قرب حطّين، أهم مقام درزي في العالم. وتوجد خلوات ومقامات مركزية أيضاً في الكرمل والجولان، يزورها الدروز من كل المناطق حين تتوفر الظروف. وتاريخياً هناك روابط عائلية وروحية عبر الحدود، وقبل عام 1948، كان الانتقال بين جبل لبنان وجبل الدروز والجليل والكرمل جزءاً من حركة عائلية وتجارية وروحية واحدة. وبعد قيام إسرائيل انقطعت هذه السلسلة تقريباً، القسم الموجود داخل إسرائيل، والجولان بات تحت سيطرة كيان عدو، فيما بقي لبنان وسوريا ضمن معسكر عربي معادٍ، وخلال الاحتلال الإسرائيلي للجنوب (1978 - 2000) حصلت تنقلات محدودة لأسباب طبية أو عائلية وحتى دينية عبر بوابات مثل بوابة فاطمة، لكنها لاحقاً وُصمت في الوعي اللبناني كجزء من منظومة الاحتلال والتعاون معه، لا كحج.

دروز لبنان زاروا مقام "النبي شعيب" في فترة الاحتلال الإسرائيلي

في حديث سابق لـ"اندبندنت عربية" مع المدير العام للمجلس الديني الدرزي الأعلى المحامي رائد شنان في إسرائيل، وبعد قرابة زيارة أكثر من 600 رجل دين درزي من سوريا إلى إسرائيل للمشاركة، وضمن الإطار التقليدي السنوي المتبع منذ أكثر من 140 عاماً ويقضي بزيارة رجال دين دروز من لبنان وسوريا والأردن مقام النبي شعيب في منطقة الجليل في الفترة الممتدة بين الـ22 والـ25 من أبريل (نيسان)، والتي أثارت جدلاً واسعاً، قال شنّان، حينها، إن زيارة مقام النبي شعيب "لا تقتصر على الطابع الديني فقط، بل تأخذ بعداً اجتماعياً ووحدوياً، حيث تنظم لقاءات تعزز اللحمة بين أبناء الطائفة المنتشرين في سوريا ولبنان وإسرائيل، ويتم فيه نقاش شؤونهم العامة. وتقدر أعداد زوار المقام في كل عام بأكثر من 10 آلاف زائر، ويزدحم المقام بهؤلاء القادمين لالتماس البركة وإيفاء النذور، في وقت تتخذ الاحتفالات هناك طابعاً دينياً وكذلك طابع التجمع الشعبي ولم الشمل، وقبل عيد النبي شعيب بأسبوع، تبدأ التوعية والإرشاد بين أبناء الطائفة في البلاد بالتوجه إلى المدارس والحديث عن النبي شعيب وتاريخ المقام، ويتبادل أبناء الطائفة التهاني بقولهم (زيارة مقبولة)"، وتابع المحامي شنّان أنه عام 1967 قام دروز الجولان بالزيارة بشكل طبيعي، ومن ثم عام 1973 أي عام "حرب الغفران" بين مصر وسوريا وإسرائيل، كانت الأخيرة تحتل بلدة حضر في مرتفعات الجولان، فقام حينها مشايخ تلك البلدة بالزيارة، وهذا ما يعرف اليوم بـ"الزيارة الحضرية"، ولكن بعد اتفاق وقف إطلاق النار انسحبت إسرائيل من حضر وامتنع حينها الدروز من سوريا عن القيام بالزيارة السنوية.

وأوضح المدير العام للمجلس الديني الدرزي الأعلى أن ما قيل في الإعلام إن الزيارة الأخيرة التي قام بها وفد المشايخ من حضر هي الأولى منذ 50 عاماً ليس دقيقاً إلى حد ما، إذ إنه وفي عام 1982 عندما اجتاحت إسرائيل لبنان، قام المشايخ اللبنانيون بزيارة المقام ومنهم الشيخ أبو محمد جواد ولي الدين، (شيخ درزي يعتبر من أرفع المرجعيات الدينية لدى طائفة الموحدين الدروز في سوريا ولبنان وفلسطين)، وأيضاً الشيخ سامي أبو المنى، (شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز راهناً في لبنان)، الذي ألقى قصيدة ما زالت موثقة في أرشيف زيارات المقام، وقام بالزيارة مرات عدة، كذلك استمرت الزيارات طوال فترة احتلال إسرائيل لبنان أي منذ الاجتياح عام 1982 وحتى انسحابها بصورة كاملة من الجنوب عام 2000، وأكثر من هذا كان العمال الذين يقومون بأعمال الصيانة والترميم في المقام هم من دروز لبنان، وخلال تلك الفترة (بين عامي 1982 و2000) زار المقام دروز من لبنان لما للنبي شعيب من قدسية، إذ يعتبر قبلة الدروز، وكانت الزيارات تقام بصورة عادية، حتى على المستوى الاجتماعي كانت هناك زيارات متبادلة بين الدروز في لبنان وإسرائيل، وأعرب شنّان حينها عن تفاجؤ الدروز في إسرائيل من الموقف الذي اتخذته الشخصيات السياسية والروحية الدرزية في لبنان من زيارة المشايخ الأخيرة، ويذكر أنه هو نفسه زار مدينة عالية في جبل لبنان في ذلك الوقت، وكان لا يزال صغيراً.

وكان المكتب الإعلامي في مشيخة العقل لطائفة الموحدين الدروز في لبنان، أصدر بياناً استهجن فيه "بعض الدعوات التي تصدر من لبنان ومن فلسطين المحتلة، بخصوص تبادل للزيارات إلى الأماكن المقدسة، لكونها تأتي خارج سياقها الطبيعي، وبالتزامن مع ارتفاع بعض الأصوات المنادية بالتطبيع، بهدف إثارة المشاعر والسجالات الإعلامية لا أكثر"، ودعا البيان حينها "الجميع إلى الارتقاء بالمسؤوليات الدينية والأخلاقية والاجتماعية وفق مقتضيات المرحلة، وإلى احترام قواعد وأصول التعاطي، وعدم التذاكي في طرح مسائل ليست من اختصاص وشأن مطلقيها، ولو كان بعضها عن حسن نية، خصوصاً على تطبيقات التواصل الاجتماعي، علماً أن نتائج تلك الدعوات معروفة سلفاً، بأنها مرفوضة وليست مطلوبة وغير قابلة للتحقيق".

قال أحد أبناء الطائفة الدرزية، تمنى عدم ذكر اسمه ومركزه، إن زيارة الأماكن المقدسة الدرزية في فلسطين واجب ديني، وهو شخصياً تربطه علاقة قربى بعائلة كبيرة، هم إما أخواله أو أعمامه، وأشار إلى أنه وقبل عام 2000 كانت هناك زيارات متبادلة بخاصة للقرى الدرزية التي كانت ضمن الشريط الحدودي، وأنه حصلت زيجات في تلك الفترة، وما يحزّ في نفسه أنه يرى أقاربه عبر وسائل التواصل لكنه لا يستطيع أن يتحدث معهم. وتابع أنه يتمنى من كل قلبه أن يزور عائلته ومقام النبي شعيب، وهذا لا دخل له بالسياسة ولا بالتطبيع، وسأل "ماذا إن بقيت الحرب مشتعلة بين الحزب وإسرائيل، هل سنحرم من زيارة أقاربنا وأماكننا المقدسة إلى الأبد؟".

وعليه، يشعر المسيحي اللبناني الذي يريد أن يصلي في كنيسة القيامة، أو الدرزي الذي يتمنى قراءة الفاتحة عند مقام النبي شعيب، أن جزءاً من هويته الروحية محجوب عنه بقرار سياسي وقانوني، لا بعائق جغرافي حقيقي. وما كان في السابق حركة طبيعية داخل فضاء واحد، أو استثناءات رعوية مقبولة، تحول اليوم إلى خط تماس مباشر بين الدين والسياسة والهوية الوطنية. لذلك، الزيارات من داخل لبنان إلى الأماكن المقدسة داخل إسرائيل تكاد تكون متوقفة واقعياً، وما يجري هو إما زيارات من الشتات اللبناني بجوازات أجنبية، أو زيارات لرجال دين في ظروف بالغة الحساسية، أو نموذج سوري - درزي خاص لا يمكن نسخه على الحال اللبنانية الراهنة.

في هذا الشأن، قال الكاتب السياسي والمتخصص في الحركات الإسلامية قاسم قصير إنه "ما دامت لا توجد علاقة مع الكيان الصهيوني، فلا يمكن لأي لبناني الذهاب إلى فلسطين المحتلة".

حق إنساني في الطمأنينة الروحية

في المحصلة، يكشف الجدل الدائر اليوم حول حرمان اللبنانيين من زيارة الأماكن المقدسة في إسرائيل عن مأزق أعمق من مجرد منع سفر أو قيود قانونية، إنه احتكاك مباشر بين تاريخ مشترك ومخيال ديني واسع من جهة، وبين واقع سياسي وأمني محكوم بمنطق العداء من جهة أخرى، فالدروز الذين لهم عائلات في داخل الخط الأخضر، مثل المسيحيين المشتاقين للقدس والناصرة وبيت لحم، يعيشون شعوراً بأن جزءاً من جغرافيتهم الروحية والوجدانية مصادَر بفعل صراع لم يختاروه لكنهم حملوه بذاكرتهم. وقد لا يتغير هذا الواقع قريباً، لكن النقاش بحد ذاته يعيد طرح السؤال على الدولة والمجتمع معاً، هل يمكن إيجاد مقاربة توازن بين الاعتبارات الأمنية والسياسية؟ وبين حق الإنسان في التواصل مع جذوره وأرض مقدساته؟ أم يبقى الباب مغلقاً والجغرافيا تفصل ما جمعته القرابة والعقيدة؟ ولكن ما هو مؤكد أن هذا النقاش لن يخمد بسهولة، لأن ما يُطالب به كثر ليس امتيازاً سياسياً، بل حق إنساني في الطمأنينة الروحية وملامسة التاريخ الذي كُتب على حجارة تلك الأرض.

وفي انتظار تبدل الظروف ستبقى هذه الرغبة معلقة على تخوم الذاكرة التي لا تنطفئ، ولا تجد طريقها إلى الواقع.

المزيد من تحلیل