Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

امام بوابة العام الجديد: تأملات في معنى الزمن

عن الإحساس الداخلي بمرور الوقت وكيفية مروره وسهولته أو صلابته

سلفادور دالي بين الذاكرة والزمن (متحف دالي)

ملخص

بينما يتأهب كثيرون، حول العالم، لاستقبال عام جديد بأمنيات قد لا يتحقق منها شيء، فإنّ قيمة الاحتفال بحد ذاتها، تستبطن إحساساً مفعماً بالزمن لم يكن يتحقق، على هذا الشيوع، في العصور القديمة.

عام يمضي وآخر يشرع في كتابة سطور الرواية السنوية الملأى بالكثير من المآسي، والشحيحة الأمل. لكنّ ذلك، على تراجيديته، لا يفتّ من عضد الإنسان، فيبقى يحفر عن الكوى التي توصله إلى درب النور، حتى لو كان من ثقب إبرة.

على هذا النحو نتفرّس في هيئة العام الجديد، محمولين على عقل شكّاء متبرم متشائم، وإرادة متفائلة، في نزوع إلى تمثل الروح "الغرامشية" في هزم اليأس والظلام والتطرف.

ولئن كان أنطونيو غرامشي قد تمثل الزمن في قوة اللحظة التحويلية الممتدة التي انحازت إلى النضال المتواصل ضد معسكر التوحش الفاشي في إيطاليا، فإنّ مفكرين آخرين رأوا الزمن في صيرورته الوجودية، واعتبروه جزءاً من الخبرة الذهنية والذاتية، فيما جرّد فلاسفة آخرون الزمن من وقتيته، وتفحصوا الآليات اللازمانية التي يعمل وفقها الزمن، وميّزوا بالتالي بين الوقت والزمن.

آلات وساعات

نحن، استطراداً، نرقب حلول العام الجديد بمقياس موضوعي يعتمد الآلات والساعات وتداول الليل والنهار، كما يعتمد الحركة وتعاقب الفصول. أما في معيار الزمن فإنّ مجموع هذه المواقيت ودلالاتها، واختلاف انتظاراتها هذا العام عما سبقه أو ما سيليه، يدخل في إطار الإحساس الداخلي بمرور الوقت وكيفية مروره، وسهولته أو صلابته، وكيفية تأثير تفاصيل الوقت ومنعرجاته على أرواحنا. بهذه الطريقة يتحول الوقت إلى زمن، والذي يتحكم بذلك هو شعورنا، وارتباط الوقت بخبرتنا الوجودية، فالساعة المكونة من ستين دقيقة لا تمر على كل الكائنات البشرية بالإيقاع ذاته. هذا الاختلاف يحول الوقت (60 دقيقة) إلى تجربة تتعدى مجرد الرقم.

وظلت هذه النظرة إلى الوقت والزمن أسيرة التجريدات الذهنية، إذ كان الفيلسوف أوغسطين يرى أنّ الزمن مرتبط بالوعي الإنساني، فالماضي يوجد في الذاكرة، والمستقبل في التوقع، والحاضر في الانتباه. بيْد أنّ انبثاق النظرية النسبية حسم المعضلة من زاوية علمية، حين قرر أينشتاين أنّ الزمن لم يعد عنصراً مطلقاً، بل أضحى نسبياً، يتأثر بالسرعة والجاذبية، وكذلك بالراصد وسرعته وموقعه، فمفهوم "الآن" ليس هو نفسه بالنسبة للكون كله، ما أفرز مفهوم جديد متصل بـ"تمدد الزمن"، كما وجدنا، بفضل النسبية، كيف يندمج الزمان مع المكان ليشكلا نسيجاً رباعي الأبعاد أطلق عليه "الزمكان".

انتظارات

وربطاً بالانتظارات البشرية على امتداد القارات لعام جديد، فإنّ الأمر يتجاوز الصيغة الاحتفالية والتصورالكرنفالي. إنّ هذه الانتظارات في جوهرها تحدد علاقتنا بالعالم والوجود، وتبني معمارنا النفسي والفلسفي للحظة قادمة، نتهيأ لاستقبالها بصخب، أو سكينة، نظراً لحالتنا الشعورية، لكنها في الحالتين تستقر في الوجدان، وترقد في منطقة ما في الوعي، لتكتب لاحقاً مستقبل تواصلنا مع الوجود، إقبالاً أم إدباراً.

في فيلم الساعات (The Hours) 2002، يتجسد التكسر العنيف لمفهوم الزمن من خلال وحدة المصير المشترك لثلاث نساء يعشن في أزمنة مختلفة (1923، 1951، 2001)، لكنهنّ يشتركن في زمن واحد من حيث البحث عن المعنى، والتوق إلى السعادة المستحيلة، والإحساس بالخذلان والفشل، والرغبة في الانتحار. بيد أنّ ما يحول بينهن وبين إنهاء الحياة، بالمعنى الفيزيائي، هو الترقب. فالرواية التي اُقتبس الفيلم عنها، يقول مؤلفها مايكل كانينغهام: "لا عزاء لنا سوى هذا: ساعة هنا أو هناك، حين تبدو حياتنا، خلافاً لكل الاحتمالات والتوقعات، وكأنها تنفتح فجأة وتمنحنا كل ما حلمنا به يوماً".

ثلاثة أزمنة ثلاثة مصائر

ثلاث ممثلات عظيمات؛ ميريل ستريب، وجوليان مور، ونيكول كيدمان، يخترقن الوقت، بخبرة حادة، ثم تختار إحداهن كيدمان التي تجسد شخصية فرجينيا وولف، أن تذهب إلى النهر، في أعقاب رسالة وداع مؤثرة لزوجها،، ثم تملأ جيوبها بالحجارة، وتخوض في التيار المتدفق وتتركه يبتلعها. بينما تقرر جوليان مور بدور لورا براون، إنهاء حياتها بحبوب أحضرتها لتقوم بذلك في غرفة فندق استأجرتها لهذه الغاية، لكنها بعد قراءة المزيد من رواية السيدة دالاواي لفرجينيا وولف تقرر العدول عن ذلك. أما ميريل ستريب بدور كلاريسا فوغان، فترعى شريكها (ريتشارد) الذي يحتضر، متشبثة ببهجة غابرة كانت اللحظة الأكثر سحراً في حياتها، حين قبّلها ريتشارد على الشاطئ وهما شابان مفعمان بالأحلام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تقوم رواية "السيدة دالاواي" على بنية زمنية فلسفية: يوم واحد فقط، لكنه يشتمل على حياة كاملة من الذكريات والندم والأسئلة الوجودية، ما يجعل الزمن تدفقاً داخلياً لا خطاً مستقيماً، وكأنّ ذلك يتقاطع مع قول هايدغر إنّ الإنسان كائن زمني، يفهم نفسه من خلال ماضيه وإمكاناته المستقبلية.

الزمن السيكولوجي

الساعات هنا ليست وقتاً، بل اختباراً مراً وشائكاً للمصير، ونظراً فاحصاً في الوجود في وجوهه المتعددة التي تبتكر الألم واللذة في اللحظة نفسها، وتتطلع أيضاً بكثافة ودأب إلى سعادة ما منشودة، ولو كانت مفضيةً إلى فَناء وعدم!

سواءً قمنا بإحصاء الساعات التي تفصلنا عن بزوغ يوم جديد من عام جديد، فإنّ خبرتنا الذهنية الوجودية الذاتية هي ما يحدد إحساسنا بالزمن، الذي يتشكل من اختبار الوعي لمجرى الأحداث ودلالاتها وسياقاتها، وهو ما كشف عنه اللثام كانط حين قال إنّ الزمن ليس خاصية للأشياء، أي أننا لا ندرك الأشياء إلا داخل إطار زمني يفرضه العقل البشري. وفي نظر صاحب "نقد العقل المحض" أنّ الزمن شرط لإمكان التجربة، لا نتيجة لها.

ولعل أكثر الفلاسفة الذين انشغلوا بمفهوم الزمن كان الفرنسي هنري برغسون الذي تأثرت به فرجينيا وولف، وتمظهر أيضاً في فيلم "الساعات". وعلى يد برغسون انبثق مفهوم "الزمن السيكولوجي"، حيث الزمن الحقيقي عنده يسمى "المدّة" (Duration)، وهي تجربة داخلية خالصة تتدفق باستمرار، ويتداخل فيها الماضي والحاضر، بالتالي هي غير متجانسة، وليست قابلة للتقسيم.

ولتبسيط الفكرة، يضرب برغسون مثالاً في دقيقة انتظار في قلق، مقابل دقيقة في فرح. للوهلة الأولى تبدو متساويتين، كما تقول الساعة المعلقة على الجدار، لكنهما على المستوى الشعوري مختلفتان باختلاف التجربة التي هي نواة الزمن الذي يُعاش ولا يُقاس.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة