Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معرض يستكشف "مملكة النوم" وغموضها الساحر

في قاعات متحف مارموتان مونيه تخرج الأحلام من اعماق النائمين

لوحة عن الليل والنوم للرسامة البريطانية إيفلين دو مورغان (خدمة المتحف)

ملخص

النوم، هذه التجربة الإنسانية الغامضة، كثيراً ما شكل مصدر إلهام للفنانين والفلاسفة والشعراء على حد السواء. من غويا و«نومه» إلى كوربيه و«العرّافة»، ومن مونيه ولوحته المؤثرة «كاميل على سرير موتها» إلى فالوتّون، رسام الحميميات المضطربة، أو ميلليه، شاعر النوم الطفولي. النوم هبة كل فنان يجعل من الليل مرآته ومن السرير مذبحه وطقسه ورؤيته. هنا، نغوص في عالم الأجفان المغلقة، بين نائمين مترفعين، وحوريات غارقات في السكينة، لنشهد قدرة الفن على التعبير عن اللاوعي والخيال وقلق السهر.

ماذا يحدث عندما يتلاشى الوعي ليفسح المجال للاحتمالات اللامتوقعة للحلم؟ وكيف يمكن القبض على هذه التجربة، والتعبير عن منطقها العصِيّ، وصورها المتلألئة، ومناطقها المظلمة؟ يذكرنا مارسيل بروست بأننا لا نستطيع أن نفهم الحياة حقاً من دون أن نجعلها "تغتسل في النوم"، وهذا تحديداً هو العالم الليلي الذي يفتحه متحف مارموتان مونيه Marmottan Monet في معرضه الجديد "إمبراطورية النوم"، ليغوص في رحلة عبر عالم الليل بكل أبعاده، من القيلولة الطفولية الرقيقة إلى الأحلام السريالية والكوابيس المتجولة. هذا المعرض، المستمر حتى الأول من مارس (آذار) 2026، لا يكتفي بتقديم أعمال جميلة، بل يستكشف الأبعاد الرمزية والأسطورية والفلسفية للنوم، وكيف شكلت مخيلة الفنانين طوال نحو خمسة قرون.

في قاعات المتحف يخرج النوم من سريره ليُعرض بكل فخامته. من آنغر الذي يصوغ الجمال إلى ريدون الذي يمنحه أجنحة من فويلار الذي يهمس بين الستائر والصمت، إلى بونار المغمور بضوء الصباح، وصولاً إلى الحالمات القمريات لبول ديلفو، يظهر الليل بكل درجاته بين الجسد، والغموض، وضوء الظل. ويشارك جان كوكتو بموكبه الحالم، من 25 نائماً: رسوم هي قصائد لأرواح غافية حيث لا نعرف مَن الساهر، ومن الحالم، ومن اليقظ. وبين الألوان الزاهية وغفوة الجمال يتحول النوم إلى عرض فني، والليل إلى تحفة.

يقام هذا الحدث بإشراف كل من لورا بوسي Laura Bossi، المتخصصة في علم الأعصاب وتاريخ العلوم، وسيلفي كارلييه Sylvie Carlier ، مديرة مجموعات متحف مارموتان مونيه. وتكشف الأعمال المعروضة عن فنانين نجهل كثيراً عنهم، إذ يُطرَح هذا الموضوع للمرة الأولى في فرنسا بهذا القدر من التعمق. ويضم المعرض قرابة 130 عملاً، أُنجز معظمها بين عامي 1800 و1920، وهي تتنوع بين لوحات ومنحوتات ورسوم وأغراض ووثائق علمية، تتوالى لاستكشاف هذا العالم الحميمي: النوم الذي نقضي فيه ثلث حياتنا!

النوم: الأحجية

يتناول المعرض البعد الرمزي والاستعاري للنوم، وأهميته في الأيقونوغرافيا الدنيوية والدينية. منذ العصور القديمة وحتى بدايات القرن العشرين ظل النوم ظاهرة تتقاطع فيها الرمزية مع العلم والتحليل النفسي، وفي هذا المجال يقدم المعرض أعمالاً بارزة من مجموعات فرنسية ودولية، تُظهر كيف غيرت الاكتشافات العلمية والتحليلية المعارف المتعلقة بالنوم، وكيف تحاورت هذه التمثيلات الحديثة مع رموز وصور رافقت تاريخ الفن منذ القدم وحتى اليوم، كاشفة استمرارية هذا الجانب الغامض الذي يلامس الحب حيناً، والإيروتيكية حيناً آخر، أو الموت.

تتجلى الرموز المتعددة المرتبطة بالنوم من خلال ثمانية محاور موضوعاتية، تمتد من «النوم الهادئ» إلى «أبواب الحلم» مروراً بـ«النوم المضطرب». وتُظهر الأعمال سكون الأجساد واستسلام الأرواح: قيلولات الأطفال لدى مايكل أنشر، والنيام التوراتيون أو الأسطوريون مثل إنديميُون ويوحنا في العشاء الأخير. تُستغل الأساطير القديمة وحكايات الخرافات لكشف البُعد الإيروسي للنوم، سواء أكانت فينوس نائمة، أو الجميلة النائمة في الغابة، ثم يتفرع المسار نحو عالم الأحلام، والهلوسات، والنوم الاصطناعي، كما توضح لورا بوسي، يمكن للرسام في العمل نفسه الجمع بين النائم وحلمه أو كابوسه، والقرن الـ19 كان غنياً بهذا الموضوع، خصوصاً مع بداية التعامل مع الأحلام، كنوافذ تطل على ماضي النائم ووعيه الباطن، لا بوصفها نبوءات.

الأرق الحديث

إذا كان النوم قد ارتبط طويلاً بالسكينة والراحة الأبدية، فإن تطور التحليل النفسي في القرن الـ20 سرعان ما جاء ليزعزع هذه الرؤية الهادئة. هنا يصبح الحلم موضوعاً مركزياً بوصفه حالاً من وعي شبه تام، منح الرمزيين أمثال أوديلون ريدون وكليمت أرضاً خصبة للتجريب الفني، كما ألهم السرياليين، وفي مقدمهم ماكس إرنست ورينيه ماغريت. أما الكابوس فقد غزا أعمال غويا ووليم بلايك وفوسلي، محركاً النوم نحو فضاء للقلق والاضطراب، ويتوقف المعرض أيضاً عند «المنامات المصطنعة» الناتجة من الكحول أو التنويم المغناطيسي أو المخدرات.

ويخصص المعرض قسماً لغرفة النوم على اعتبارها فضاءً حميمياً ورمزياً، ليعرف الزوار على الطقوس والعادات المرتبطة بها، إلى جانب أبعادها الفلسفية والاجتماعية. وفي سياق العلاقة بين النوم والحب والرغبة، تبرز قاعة مغطاة باللون الأحمر مخصصة للإيروسية، في وسطها تستلقي امرأة منحوتة من الحجر تعانق وسادتها وتستسلم لنعومة الغفوة: إنها "لا بيسانا" للفنان الإيطالي أرتورو مارتيني، الذي تناول النوم والحلم في العديد من أعماله، وتكشف هذه التجربة كيف يتحول النوم إلى استعارة للجسد والرغبة والحميمية.

أما السرير: مسرح النوم والحب، وموقع المرض والفقد، فقد أضحى ملعب الرسامين، وملجأ الشعراء، ومسرح العشاق، أو ساحة معركة الأرق. وفي هذا السياق يستعيد المعرض أعمالاً منحته قيمة أيقونوغرافية متزايدة منذ القرن الـ19 بوصفه «استعارة للإنسانية»، إذ يتحول السرير إلى نصب فني، والوسائد تصبح منحوتات، والأغطية تتخذ تضاريس الضوء والظل. والنوم لا يستريح، بل يفكر ويظهر ويتنفس. وتبرز اللوحة الشهيرة "السرير غير المرتَّب" لإوجين دولاكروا، وهي لوحة مائية صغيرة بقيت أعواماً في مرسمه. تكمن رهافتها في التجاعيد الدقيقة التي توحي بجسد غائب وحاضر، وفي لحظة الغبش الأولى التي تسبق الاستيقاظ. وترى سيلفي كارلييه أن هذا السرير قد يكون سرير الفنان نفسه، وأن الضوء المشتت والملاءة المضطربة يجعلان منه سجلاً بصرياً لتبدد الحلم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي محور الاضطراب الليلي، يعرض المتحف لوحة ماكسيميليان بيرنر (1878) لشابة تسير في نومها على حافة منحدر، صورة تجمع الرومانسية بالخطر، وتحول السير أثناء النوم إلى استعارة للعبور فوق الهاوية. وبالمقابل، يظهر غوستاف كوربيه في بورتريه لسائر نائم (1855)، حيث تتجسد قوة الواقعية في نظرة شاردة وأطراف متخشبة. أما إدوارد مونش في لوحته «المسهر» (1924)، فيقدم صورة صادمة للأرق بوصفه مرضاً حداثياً يرتبط بصخب الحياة الحضرية.

ويستعيد المعرض وجوهاً أكثر نعومة للنوم، من بينها لوحة "راحة الظهيرة" لميكائيل آنخر، التي تمثل شابة تغفو على مقعد بسلام تام، وكذلك لوحة "الطفل النائم"  لكلود مونيه (1868)، التي رسمها في فيكامب لابنه جان، وقد كتب لفرِديريك بازيل واصفاً تأثره بهذه اللحظة. هنا يبدو النوم ملاذاً وجرحاً في آن، خصوصاً حين يقارَن برسم مونيه لزوجته كاميل على سرير موتها، أو برسم هودلر لزوجته المحتضرة، يتحول النوم إلى معبر بين الراحة الموقتة والراحة الأبدية.

تُعد الروايات الدينية والأسطورية ركائز أساسية في بناء المتخيل المرتبط بالنوم. فمن الميثولوجيا اليونانية التي تجعل من «ثاناتوس» إله الموت، شقيقاً توأماً لـ«هيبنوس» إله النوم، إلى الأيقونوغرافيا المسيحية التي يصبح فيها النوم وسيطاً بين الإلهي والإنساني، تقارب الأديان ونصوصها النومَ بوصفه صورة أولية للعالم الآخر. وتظهر هذه المقاربة على نحو نموذجي في أعمال أوغست رودان وفرديناند هودلر. هذه التيمة التأسيسية تربط النوم بالبعث، وتكشف الحجاب بين العالمين المرئي وغير المرئي.

ومن بين الأعمال اللافتة، تتجلى لوحة إيفلين دي مورغان "الليل والنوم" (1878)، التي تصور «الليل» وهي تمسك بذراع «النوم» حامل باقة من شقائق النعمان، في استعارة تربط الأسطورة بالإيحاء الأفيوني للخشخاش. ويظهر أثر الفن الإيطالي واضحاً في أسلوبها، خصوصاً بعد تأثرها بـ«ولادة فينوس» لبوتيتشيللي، مما يجعل الوجوه في عملها أقرب إلى الطيف والرؤيا.

ويضم المعرض أيضاً وثائق بصرية نادرة مثل صورة نادار لفيكتور هوغو على سرير موته (1885)، وقناع الموت الذي نحته له إيمي-جول دالو، وهما عملان يربطان النوم بالسكينة الأخيرة وبجلال الموت.

يكشف معرض «إمبراطورية النوم» كيف ظل النوم طوال قرون مصدراً  للإلهام البصري والروحي والفلسفي، وكيف تحولت هذه الحال الهشة إلى فضاء مفتوح للغموض، وللبحث عن معنى للوجود يتجاوز الحلم نفسه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة