Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الولايات المتحدة والصين... سباق التقدم وحسابات السقوط

الإمبراطورية لم تعد مقرونة برفع علم دولة فوق قلعة بل بقوة وتأثير شبكات المال والسلاح والتكنولوجيا

يظل تصور سقوط الإمبراطورية الأميركية وصعود الصينية حبيس القاموس القديم لسقوط العواصم (أ ف ب)

ملخص

الولايات المتحدة لا تزال أكبر اقتصاد بالأسعار الجارية، والقوة العسكرية الأولى، وصاحبة العملة الأهم، ومركزاً أساساً للمعرفة والتكنولوجيا والمنصات الرقمية، في المقابل أصبحت الصين أكبر اقتصاد في العالم بمقاييس القوة الشرائية، وأكبر شريك تجاري لعشرات الدول، وأحد أهم ممولي البنية التحتية في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، لكنها تواجه بدورها تباطؤاً في النمو وتحديات ديموغرافية ومالية واضحة.

في كل مرة يشتد فيها الصراع بين القوى الكبرى، يعود السؤال القديم مجدداً، هل نحن في زمن سقوط الإمبراطوريات؟

غالباً ما يقال أو يتداول في التحليل الاستراتيجي أن الإمبراطورية الأميركية تتراجع وأنها إلى سقوط كغيرها من الإمبراطوريات التي تسيدت العالم قروناً ثم انتهت واضمحلت، وغالباً ما يترافق الحديث عن انهيار الإمبراطورية الأميركية مع تناول الصعود الصيني المتسارع، لكن هذا السؤال كما يطرح اليوم يحمل افتراضاً ضمنياً بأن الإمبراطوريات المعاصرة تشبه الإمبراطوريات القديمة كقلعة مركزية وجيش جرار، وحدود واضحة ترسم على الخرائط، وسقوط صاخب يمكن تأريخه في كتب التاريخ بيوم محدد وعام محدد، سقوطاً كاملاً تصعد على أنقاضه قوة جديدة تشكل إمبراطوريتها كما كان يجري الأمر تاريخياً.

لو أعدنا تعريف الإمبراطورية في زمننا الراهن يمكننا القول إن العالم الذي صوره لنا المؤرخون، من روما إلى الباب العالي، ليس هو عالم وول ستريت ووادي السيليكون وشبكات السلاح والعقوبات والمنصات الرقمية، ما يتغير اليوم ليس وجود الإمبراطورية من عدمه، بل شكل الإمبراطورية، وطبيعة مصادر قوتها، وطريقة تآكلها وانكماشها.

لهذا يصبح تصور سقوط الإمبراطورية الأميركية وصعود الإمبراطورية الصينية تصوراً مضللاً لأنه حبيس القاموس القديم لسقوط العواصم وانهيار العواصم.

من ابن خلدون إلى الفضاءات المتشابكة

رسم ابن خلدون في نموذجه الكلاسيكي الذي صاغه عن نشوء وارتقاء ثم سقوط الأمم، دورة حياة كاملة للدولة أو الإمبراطورية، جوهر نظريته هما العصبية وتفككها.

تبدأ العصبية بين جماعات بدوية أو ريفية خشنة، متماسكة بعصبية النسب أو العقيدة، قادرة على تحمل الجوع وقسوة العيش، ومستعدة لحمل السلاح في وجه دولة مترفة هرمة في المركز، وبهذه العصبية تكتسح الأطراف المركز وتؤسس دولة جديدة، بحسب ابن خلدون.

ثم تمر الدولة بمراحل متتالية واضحة، في المرحلة الأولى وهي مرحلة الغلبة والفتح، يبرز قائد قوي، تكون المسافة بينه وبين قاعدته الاجتماعية قصيرة.

في المرحلة الثانية يبدأ احتكار السلطة وتثبيت الحكم، ويضبط القائد الجديد القبائل والجماعات، ويقلص استقلال زعمائها، وينشئ جيشاً وحرساً خاصين، وتبدأ الدولة تكتسب شكلاً مؤسساتياً أكثر تعقيداً، في المرحلة الثالثة، مرحلة الرفاه والاستقرار، تتوسع الجباية، وتبنى المدن، وتتنظم الإدارة، وتزدهر العلوم والعمران، وغالباً ما تعد هذه اللحظة قمة الحضارة، بعد ذلك تنقلب قمة الحضارة أو المرحلة الذهبية إلى عبء.

وفي المرحلة الخلدونية الرابعة، أي مرحلة الترف والركون إلى اللذة، يولد جيل جديد في النعمة لا يعرف مشقة التأسيس، ثم تأتي المرحلة الخامسة القائمة على الإسراف والمؤدية إلى الانهيار، وتصير الدولة قائمة على الخوف والمرتزقة والجباية، ومهيأة لأن تسقط على يد عصبية جديدة قادمة من أطراف جديدة.

كان ابن خلدون يقدر أن العمر الحيوي للدولة لا يتجاوز ثلاثة أجيال تقريباً، أي نحو 120 عاماً.

إمبراطورية اليوم لا تسقط

نموذج ابن خلدون للإمبراطورية يفترض وجود مركز واضح وأطراف تشدهم العصبية، وإذا سقط المركز سقطت الإمبراطورية، لكن إمبراطوريات اليوم لا تعمل بهذه البساطة.

الإمبراطورية المعاصرة هي عبارة عن طبقات متداخلة، تبدأ من شبكة مالية تجعل عملة بعينها محوراً للادخار والتسعير والعقوبات، وشبكة عسكرية من قواعد وتحالفات وجيوش بالوكالة، وشبكة تكنولوجية ومعرفية تقودها شركات تقنية وجامعات ومراكز أبحاث، وشبكة رمزية وأخلاقية تقوم بإعادة تعريف "القيم الكونية" أو ما سميناه "الأمركة" في مرحلة سابقة ونسميه "العولمة " اليوم، ولا بد من أن تمتلك الإمبراطورية الحديثة شبكة ثقافية وإعلامية تسيطر على الصورة واللغة والخيال الجماعي.

 

 

هذه التكوينات الكثيرة والمتشابكة جعلت من سقوط الإمبراطورية الحديثة أمراً مستحيلاً، لأن هذه الطبقات لا تسقط دفعة واحدة ولا في التوقيت نفسه، إذ يمكن أن تتراجع قوة العملة، بينما تبقى اليد العسكرية في قوتها، أو يمكن أن تتآكل الهالة الأخلاقية بينما تظل المنصات الرقمية في قلب الحياة اليومية تبث ما يوحي بالعكس.

طبقات القوة من الدولار إلى الصورة

لو بحثنا في الطبقة الأولى لقوة الإمبراطورية الأميركية، أي إمبراطورية المال والدولار لوجدنا أن الدولار لا يزال حتى اليوم العملة المركزية للنظام المالي العالمي، فهو عملة الاحتياط الأساسية في المصارف المركزية، ومحور التسعير في التجارة الدولية، خصوصاً في أسواق الطاقة.

وتُظهر بيانات صندوق النقد الدولي عن تركيب احتياطات المصارف المركزية (COFER) أن الدولار استحوذ في عام 2024 على نحو 58 في المئة من الاحتياطات المعلنة، بحسب مذكرة "الدور الدولي للدولار" الصادرة عن مجلس الاحتياطي الفيدرالي عام 2025.

هذه الهيمنة تمنح واشنطن سلاح العقوبات المالية، والوصول إلى النظام المصرفي العالمي، ولكن في المقابل لجأت دول عدة إلى تنويع احتياطاتها وعقد صفقاتها بعملات أخرى غير الدولار، وتبني الصين نفوذاً مالياً مختلفاً يقوم على القروض والاستثمارات وتمويل البنى التحتية ضمن مبادرة "الحزام والطريق".

الطبقة الثانية هي إمبراطورية السلاح والقواعد العسكرية، فالولايات المتحدة لا تزال القوة العسكرية الأولى في العالم بفارق واضح سواء في الإنفاق الدفاعي الذي يتجاوز مجموع إنفاق دول كبرى عدة، وشبكة قواعد وتسهيلات تمتد من أوروبا إلى اليابان وكوريا الجنوبية والخليج العربي.

وبحسب معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي (SIPRI) بلغ الإنفاق العسكري الأميركي في عام 2024 نحو 997 مليار دولار، أي نحو 37 في المئة من مجمل الإنفاق العسكري العالمي الذي قُدر بـ2.7 تريليون دولار، وقرابة ثلثي إنفاق دول حلف "الناتو" مجتمعة.

 لكن هذه الإمبراطورية الصلبة تواجه كلفة سياسية متزايدة في الداخل الأميركي في حروب خارجية، في المقابل، تعتمد الصين نموذجاً أكثر حذراً، أي حضور عسكري محدود، وقاعدة واحدة معلنة في جيبوتي، ونفوذ يُبنى أساساً عبر الموانئ والمناطق الصناعية والعقود لا عبر انتشار عسكري كثيف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الطبقة الثالثة هي إمبراطورية السرد الأخلاقي، لأعوام طويلة قدمت الولايات المتحدة نفسها بوصفها الطرف الأخلاقي في النظام الدولي على أنها مصدر وحامية ديمقراطية وحقوق إنسان واقتصاد سوق و"العالم الحر" عموماً في مواجهة الأنظمة الشمولية، لكن الحروب الممتدة في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان وسوريا واليمن وإيران، أضعفت هذا الادعاء في نظر الرأي العام، لكن في الجهة المقابلة لا تقدم الصين خطاباً أخلاقياً كونياً منافساً بقدر ما تقدم خطاباً عن التنمية والاحترام المتبادل وعدم التدخل، وربط العالم تجارياً واقتصادياً.

في الطبقة الرابعة أي إمبراطورية التكنولوجيا والمعرفة، التفوق الأميركي واضح، فشركات وادي السيليكون والجامعات الكبرى وسباق الذكاء الاصطناعي، والتحكم بجزء أساس من البنية التحتية للإنترنت والاتصالات العالمية، كلها نقاط قوة في يد القسم الإمبراطوري التكنولوجي للولايات المتحدة الأميركية، وفي المقابل حققت الصين قفزات في مجالات محددة مثل الاتصالات والجيل الخامس وتصنيع المعدات والسيارات الكهربائية والطاقة المتجددة.

الثقافة والصورة والانتشار الهادئ

 يكفي أن ننظر إلى المنصات الأكثر استخداماً عالمياً مثل "فيسبوك" و"إنستغرام" و"واتساب" و"يوتيوب"، إلى جانب منصات البث الترفيهي الكبرى، ومعظم هذه المنظومة مملوك لشركات أميركية، ويستحوذ على الجزء الأكبر من زمن المستخدمين حول العالم، ونجحت الصين في كسر هذا الاحتكار جزئياً عبر منصات مثل "تيك توك"، لكنها عانت في هذا المجال أيضاً، وقصة "التيك توك" في الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الحليفة باتت معروفة.

إذا أزحنا الغبار الدعائي فإن الولايات المتحدة لا تزال أكبر اقتصاد بالأسعار الجارية، والقوة العسكرية الأولى، وصاحبة العملة الأهم، ومركزاً أساساً للمعرفة والتكنولوجيا والمنصات الرقمية، في المقابل أصبحت الصين أكبر اقتصاد في العالم بمقاييس القوة الشرائية، وأكبر شريك تجاري لعشرات الدول، وأحد أهم ممولي البنية التحتية في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، لكنها تواجه بدورها تباطؤاً في النمو وتحديات ديموغرافية ومالية واضحة.

الصورة ليست، "سقطت أميركا وصعدت الصين"، بل إن بعض عناصر الإمبراطورية الأميركية تتراجع، خصوصاً الهالة الأخلاقية والقدرة على فرض نموذج واحد واحتكار بعض الصناعات والأسواق، بينما تتقدم الصين في عناصر أخرى مثل التصنيع والبنى التحتية العالمية والطاقة المتجددة والحضور في الجنوب العالمي.

وتشير تقارير الاستثمار في مبادرة "الحزام والطريق" إلى أن حجم الانخراط التراكمي للصين في الدول المشاركة تجاوز 1.3 تريليون دولار بين 2013 و2025، بين استثمارات مباشرة وعقود إنشاء، مع تسجيل أرقام قياسية جديدة في 2024–2025 بخاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير