ملخص
كتاب "أرق" يكشف عن تفاصيل حياة روبي روبرتسون في أواخر السبعينيات، من صداقته العميقة مع سكورسيزي وسط عالم هوليوود الصاخب، إلى التعاون الإبداعي الذي أثمر موسيقى لأفلام خالدة، مروراً بحكايات عن المخدرات والعلاقات، في سرد يجمع الاعترافات والنجومية والحنين.
الزمان: عام 1977، المكان: قصر مارتن سكورسيزي في ماليبو يعج بنجوم هوليوود: براين دي بالما يفرض حضوره في أحد الأركان، وفرانسيس فورد كوبولا بين الحاضرين، بينما يجوب جاك نيكلسون الغرف بابتسامته الماكرة المعهودة قائلاً لـسكورسيزي: "يعجبني تنظيم المكان هنا... مكبرات ضخمة للموسيقى، وكهف للأفلام وجذب النساء".
اجتمع الحاضرون لتناول الشراب قبل مشاهدة فيلم "الفالس الأخير" The Last Waltz، تحفة سكورسيزي التي توثق الحفل الوداعي لفرقة "ذا باند" The Band في سان فرانسيسكو. لكن كوبولا، وقد لاحظ شحوب سكورسيزي وشريكه في السكن عازف الغيتار في "ذا باند" روبي روبرتسون، قرر أن يطهو بنفسه وجبة مغذية للجميع. نصب جهاز عرض سينمائي في المطبخ وربط ملعقة خشبية بإحدى البكرات الدوارة لتقليب صلصته الإيطالية الشهيرة تلقائياً، فيما تطوع روبرتسون للبقاء في المطبخ لمراقبة القدر.
لكن ما إن غادر الآخرون لمشاهدة الفيلم حتى تسلل روبرتسون للقاء جيري، مزوده بالمخدرات الذي جلب له ثلاثة غرامات ونصف من الكوكايين الكولومبي النقي. أشعل سيجارة، استرخى، وفقد الإحساس بالوقت لساعات. عندما عاد أخيراً، كان كوبولا قد رجع، والغضب بادٍ على وجهه، لقد احترقت الصلصة. مرر روبرتسون جرعة صغيرة من الكوكايين إلى سكورسيزي خفية، فحذره الأخير: "حين يقدم فرانسيس طعامه، نظهر امتناننا... فهو يأخذ الطبخ بجدية كبيرة". جلسا هناك يرتجفان، وشهيتهما معدومة، يلتهمان أطباق المعكرونة تحت نظرات كوبولا الحادة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليست هذه الحكاية سوى واحدة من عشرات القصص المرصعة بأسماء النجوم التي تملأ صفحات كتاب "أرق" Insomnia، المذكرات التي صدرت بعد وفاة روبرتسون، لتوثق صداقته المتوهجة في أواخر السبعينيات مع سكورسيزي، والتي ولدت وسط صخب احتفالي لا يعرف التوقف. بصفته عازف الغيتار وكاتب الأغاني في فرقة "ذا باند"، كان روبرتسون أسهم في إعادة تشكيل الحمض النووي لموسيقى الروك، ليس فقط كشريك في الثورة العظيمة التي أحدثها بوب ديلان بالتحول إلى الغيتار الكهربائي، بل أيضاً من خلال البصمة التي تركتها فرقته وتجسد روح أميركا القديمة بدرجات الحنين الدافئة.
ضمن سيرته الذاتية السابقة التي كتبها بنفسه وصدرت عام 2016 بعنوان "شهادة" Testimony، وتصدرت قائمة "نيويورك تايمز" لمبيعات الكتب، روى روبرتسون تلك الرحلة بلغة حيوية وأسلوب لافت. من طفولته غير التقليدية في تورونتو - إذ كانت والدته تحمل دماء شعب موهوك الأصلي - إلى انغماسه المراهق في عالم موسيقى الروكابيلي الصاخب مع فرقة "ذا هوكس" The Hawks بقيادة روني هوكينز، وصولاً إلى تفكك "ذا باند" التي مزقها الإدمان والصراعات المالية. كانت السيرة مسلية بلا شك، وإن بدا أحياناً أنها تميل إلى تمجيد الذات، إذ تجنب روبرتسون تقديم إجابات صريحة عن دوره في صعود الفرقة وسقوطها، واكتفى برواية منقحة بعناية.
وتتواصل روح السرد الحيوي وجرعة الاعتزاز الخفي بالنفس في "أرق"، لكن روبنسون يركز هذه المرة على فترة إصدار فيلم حفلة الوداع "الفالس الأخير" لـسكورسيزي الذي شهد ظهور أصدقاء مثل بوب ديلان وفان موريسون وإيريك كلابتون وجوني ميتشل ونيل يونغ. وعلى رغم تركيزه على موضوع محدد جداً، يظل الكتاب نابضاً بنبرة اعتزاز مبطنة واستعراض الأسماء اللامعة في الوسط الفني. كانت فترة بدأ حضور روبرتسون يترسخ خلالها في مجتمع هوليوود، فبعدما طردته زوجته آنذاك دومينيك بورجوا، لجأ إلى منزل سكورسيزي الذي كان قد تطلق حديثاً بعد علاقة مع ليزا مينيللي قضت على زواجه من الكاتبة جوليا كاميرون. معاً، شكل الاثنان ما وصفه روبرتسون بـ"نسخة مجنونة جديدة من فيلم ’الثنائي الغريب‘"، يقضيان أيامهما بتعاطي الكوكايين ومشاهدة الأفلام الكلاسيكية. ويستحضر روبرتسون مشاهدة فيلم "لمسة من الشر" Touch of Evil لـ أورسون ويلز، ويقول "كان مارتي أحياناً يقول ’أجل‘ بصوت عالٍ أو يطلق ضحكة إعجاب في مشاهد معينة، مما جعلني أغوص أكثر في التجربة السينمائية، وكأنني أرى الفيلم من خلال عينيه... كان مارتي يخصص وقتاً لشرح التقنيات في تلك الأفلام".
وبعدما جعل التفكك البطيء لفرقة "ذا باند" روبرتسون يحس بأنه "سئم من دور المربي"، مثقلاً في النهاية بعبء كتابة جميع أغانيهم، وجد الدفعة الإبداعية التي كان يطمح إليها في صداقته المزدهرة مع سكورسيزي. وفي كثير من النواحي، كانت هذه الشراكة ناجحة بصورة كبيرة، إذ تعاون الاثنان على مدى أربعة عقود لكتابة الموسيقى التصويرية لعدد من أفلام سكورسيزي، بما في ذلك "الثور الهائج" Raging Bull (صادر عام 1980)، "ملك الكوميديا" The King of Comedy (1982)، "كازينو" Casino (1995)، "المغادرون" The Departed (2006)، "ذئب وول ستريت" The Wolf of Wall Street (2013) و"الإيرلندي" The Irishman (2019). وقبل وقت قصير من وفاته عام 2023 عن عمر 80 سنة، أنهى روبرتسون العمل على موسيقى فيلم "قتلة زهرة القمر" Killers of the Flower Moon.
وبعيداً من مهاراته الواضحة كعازف غيتار وكاتب أغانٍ، يكشف كتاب "أرق" عن قدرة روبرتسون اللافتة على نسج علاقات مع نخبة هوليوود، فتظهر أسماء مثل وارن بيتي وهارفي كيتل وغاري بوزي بصورة عابرة. ويستعرض كذلك لقاءات عدة مع روبرت دي نيرو، ويقول: "شعرت برابط معه على الفور، فقد كان يتمتع بحس فكاهي رائع وكان التزامه بفنه جلياً". ويكشف روبرتسون أيضاً بالتفصيل عن علاقاته العاطفية مع عدد من الممثلات، بمن فيهن جينيفر أونيل وجنفييف بوجو وكارول بوكيه، إذ يصور جدلاً محتدماً وساخناً بينه والأخيرة، قائلاً: "دفعتني وضربت صدري العاري بجانب قبضتها. كان وجهها محمراً والدموع تتطاير… كنت مجنوناً بـكارول، لكن كلمة ’مجنون‘ أساسية هنا".
وأثناء وجوده في فندق سافوي بلندن صادف روبرتسون ذات مرة، جاك نيكلسون الذي كان يصور فيلم "البريق" The Shining مع المخرج ستانلي كوبريك. ووجد نيكلسون نفسه في نهاية المطاف في جناح روبرتسون برفقة بعض الأصدقاء. ويكتب روبرتسون "كان جاك يعرف كيف يطلق العنان لحفلة... بعدما تشاركنا سيجارة حشيش كبيرة، أضحكنا بقصصه عن كوبريك الذي لم يكن معروفاً بروح الدعابة على الإطلاق. روى جاك كيف صوّر المشهد الذي سيشتهر لاحقاً من الفيلم، حين يجن جنون الشخص الذي يؤديه، جاك تورانس، ويحدث ثقباً في الباب بواسطة فأس خلال محاولته للوصول إلى زوجته المرعوبة التي تصرخ. لم يكن هناك حوار يرافق ذلك المشهد، لكن جاك تلصص من الثقب وارتجل عبارة ’هاااا هو جوني!‘". وأضاف نيكلسون أن كوبريك عادة ما كان يعترض على ارتجال الممثلين ويعيد التصوير مرات عدة للوصول إلى رؤيته الدقيقة، "لكن في هذه الحال، قال جاك، إن كوبريك انفجر ضاحكاً وأخبره أنه يعتزم استخدام الجملة في الفيلم".
ويسلط روبرتسون الضوء أيضاً على العلاقة العاطفية المكثفة والمليئة بالمخدرات بين ليزا مينيللي وسكورسيزي التي بدأت خلال تصوير فيلمه الموسيقي الكارثي "نيويورك، نيويورك" New York, New York. ويستذكر روبرتسون: "كان بإمكانك رؤية سبب ميل مارتي إلى جاذبيتها". خلال زيارته الثنائي في نيويورك، وجد روبرتسون غرفة الفندق "في حال فوضى إلى حد ما"، فيما كان مساعد سكورسيزي يمسح "بقعة على السجادة". ووفقاً لما يرد في "أرق"، فقد وقع "شجار" أدى إلى "طيران كأس من النبيذ في الهواء وتكسره بصورة مذهلة على ثريا كريستالية ضخمة، بينما راح دم العنب الأحمر يقطر ببطء من البلورات مثل بجعة جريحة". لكن الغضب لم يستمر طويلاً، إذ تجاوز الثنائي ما حدث و"راحا يضحكان بعفوية على الأوبرا الإيطالية التي صنعاها". ويضيف روبرتسون: "اتصلت بخدمة الغرف وطلبت تشكيلة من المعجنات ومزيداً من النبيذ الأحمر... غذاء الأبطال".
وفي خضم كل تلك الليالي المليئة بالمخدرات، يبدو إعجازاً تمكن سكورسيزي وروبرتسون من الانتهاء من مونتاج "الفالس الأخير" الذي نال استحسان النقاد عند صدوره عام 1978. ومع ذلك، لم يشارك زملاء روبرتسون في الفرقة الحماسة نفسها، إذ شعروا بأنه صاغ الفيلم بطريقة جعلتهم يظهرون كمجرد مساعدين ثانويين. ويرد روبرتسون بقوة على هذه الادعاءات: "لم يكونوا من عالم السينما"، مضيفاً أنه كان ينبغي عليهم أن يكونوا "متحمسين للعمل مع شخص مثل مارتي".
وضمن مذكراته الخاصة "العجلة تحترق"، شن عازف الدرامز والمغني في فرقة "ذا باند" ليفون هيلم هجوماً حاداً على "الفالس الأخير". وكان هيلم، المولود في أركنساس وصاحب الصوت القوي، في صراع طويل مع روبرتسون، مؤكداً أن عازف الغيتار هو من مزق الفرقة واستحوذ على حقوق الأغاني. وفي "أرق"، يكتب روبرتسون مشيراً إلى عادة هيلم تعاطي الهيروين "كنت قد سئمت من ليفون الذي كان التعامل معه يزداد صعوبة".
من المؤسف أن روبرتسون شعر بضرورة أن يكون لاذعاً خلال حديثه عن زميله السابق في الفرقة الذي توفي بالسرطان عام 2012، مما منح روبرتسون الكلمة الأخيرة. والمزعج أيضاً أن الكتاب تجاهل حادثة نيل يونغ الشهيرة في فيلم "الفالس الأخير"، إذ يقال إنه قدم أداءه وهو يضع قطعة ضخمة من الكوكايين في أنفه. وتقول الحكاية أيضاً إن مدير أعمال يونغ أصر على حذف ظهوره، مما استلزم وقتاً وكلفاً كبيرة. على كل حال، تعد هذه تفاصيل ثانوية. ففي "أرق"، لا يخجل روبرتسون من تبني لقب "مستر هوليوود" الذي أطلقه عليه هيلم في السابق من باب التهكم.
في ما عدا ذلك، يعد الكتاب تحية للصداقة الذكورية، تلك التي تصهر في أتون القلوب المحطمة والتسكين الذاتي للألم. ويكتب روبرتسون عن تجربة نقل سكورسيزي إلى المستشفى عام 1978: "ربما كان أسلوب حياة الروك أند رول الذي جلبته إلى عالم مارتي سبب معاناته... أدركت أخيراً: كان عليّ التوقف". الكتاب مشوق، ومصاغ بدقة وإيقاع يكبح الميل إلى الانفعال المفرط.
ويضيف روبرتسون: "أصبح مارتي أقرب شخص إلي... في بعض الأحيان شعرت، ونحن في تلك المرحلة، بأننا لا نملك سوى بعضنا بعضاً". وعلى عكس فرقة "ذا باند"، كانت صداقتهما علاقة مخلوقة لتدوم.
صدرت مذكرات "أرق" لـروبي روبرتسون في الـ13 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري عن دار هاتشينسون هاينمان.
© The Independent