ملخص
بعد نصف قرن على صدوره، ما زال فيلم "التحليق فوق عش الوقواق" عملاً حياً ومتمرداً يتجاوز زمنه. دراما إنسانية ساخرة عن الحرية والسلطة، صورها ميلوش فورمان بفوضى خلاقة وروح جامحة، ليصنع تحفة تجمع بين العبث والصدق والخلود. ورغم عيوبه، يبقى أحد أكثر أفلام السبعينيات تأثيراً وحرارة.
لم يفقد فيلم "التحليق فوق عش الوقواق" [الطيران فوق عش الكوكو] One Flew Over the Cuckoo’s Nest، الصادر عام 1975، بريقه مع مرور الزمن، فحكاية المخرج ميلوش فورمان الصاخبة عن رجال وُصفوا يوماً بالمجانين داخل ما كان يعرف بالمصحة العقلية لا تزال تحتفظ بوهجها الأول. ولم يخفف تحول المزاج الاجتماعي [أي الطريقة التي ينظر بها الناس إلى قضايا مثل المرض النفسي] من حدة الكوميديا اللاذعة في العمل، ولا من وطأة دراماه التي تضع مرضى خائفين في مواجهة الممرضة راتشد الباردة الصارمة. على العكس، بدا وكأن الزمن صقله فجعله أكثر تمرداً وخطورة مما كان. وبعد إعادة ترميمه بعناية وإطلاقه مجدداً في الصالات، يعود الفيلم هذا الأسبوع بخطوات واثقة، مثلما فعل بطله راندل باتريك ماكميرفي نفسه عندما دخل مستشفى الأمراض العقلية في ولاية أوريغون.
يبلغ فيلم فورمان اليوم عامه الـ50، وهو عمر يمنحه هيبة الأرقام، لكن "التحليق فوق عش الوقواق" لم يكن يوماً عملاً مهيباً أو منضبطاً، بل أشبه بقريب فوضوي وغريب الأطوار وجد نفسه فجأة بين صفوف النخبة. فقد وُلد الفيلم يتيماً ومنبوذاً، بعدما رفضته جميع استوديوهات هوليوود الكبرى قبل أن تتبناه شركة "يونايتد آرتيستس". ذلك العمل الجامح الذي انطلق من الهامش ليحصد جوائز الأوسكار ويصبح ثاني أنجح أفلام عام 1975 بعد "الفك المفترس" Jaws.
غالباً ما تُعامل كلاسيكيات السينما كرجال دولة شاخت أدوارهم أو كمعروضات متحفية، يحتفي بها التاريخ أو يحبسها خلف الزجاج. لكن "التحليق فوق عش الوقواق" لا يزال عملاً مراوغاً، يتبدل مع كل قراءة جديدة. إنه فيلم زمنه – بل عمل قديم الطراز - ومع ذلك لا يبدو متقادماً، بل ما زال ينطق بلغة تتجاوز الانقسامات. فهو يحتفي بالحرية والاكتفاء الذاتي والسعي وراء السعادة الفردية، ولذلك يحظى بإعجاب الهيبيين القدامى كما أنصار اليمين المتشدد من حركة "ماغا". وكل طرف يرى فيه انعكاساً لقيمه، فيرى نفسه في شخصية ماكميرفي ويُسقِط خصمه في صورة الممرضة راتشد.
كان إنتاج الفيلم فوضوياً، تحركه جرعات من الأدرينالين والارتباك. تولى إنتاجه مايكل دوغلاس، وكان في الـ29 من عمره، بعدما ورث المشروع عن والده كيرك دوغلاس، الذي كان يحلم بتجسيد شخصية ماكميرفي، السجين المتمرد ذي الطاقة الجامحة الذي يشعل ثورة في جناح المرضى النفسيين. لكن غضبه كان شديداً عندما أُسند الدور إلى جاك نيكلسون، النجم الأصغر سناً والأكثر توهجاً آنذاك، بعد نجاحه في فيلمي "الحي الصيني" (1974) و"المسافر" (1975). أما ميلوش فورمان، بطل التيار السينمائي التشيكي الجديد [حركة سينمائية ظهرت في تشيكوسلوفاكيا في ستينيات القرن الـ20، عُرفت بتجريبها الجريء وموقفها النقدي من السلطة، وخرّجت مخرجين كباراً مثل ميلوش فورمان وجيري مينزل]، فكان يتعافى من انهيار عصبي في فندق "تشيلسي" حين عُرضت عليه مهمة الإخراج، فحمل معه إلى هذه الحكاية الأميركية الخالصة خبرته المريرة مع القمع في الكتلة الشرقية. وقال لاحقاً مازحاً: "كان الحزب الشيوعي هو نسختي الخاصة من الممرضة راتشد".
صور الفيلم داخل مصحة عقلية حقيقية ما زالت قيد العمل، حيث شارك الأطباء والمرضى فعلياً إلى جانب الممثلين وأفراد الطاقم. وكان في قسم الديكور موظف دين سابقاً بإشعال الحرائق، وهرب أحد النزلاء عبر نافذة في الطابق العلوي قبل أن يصاب إثر سقوطه ويُعاد سريعاً إلى المكان. ومع تضخّم الميزانية وتوتر الأعصاب، تحول موقع التصوير إلى ساحة من الفوضى والتمرد، فقد كان كل يوم معركة بحد ذاتها، لكن ذلك خدم العمل في النهاية، إذ تسربت دراما الحياة الحقيقية إلى الفيلم وأضفت عليه طاقة حقيقية. وحين كان جاك نيكلسون يصل متأخراً إلى موقع التصوير، كان يُفاجأ بأن كثيراً من زملائه لا يستطيعون الخروج من شخصياتهم. وكما تقول النكتة القديمة التي استعادت حضورها آنذاك: لم يكن عليك أن تكون مجنوناً لتعمل في "التحليق فوق عش الوقواق"... لكن الجنون كان مفيداً بالتأكيد.
وفي الفيلم، يصرخ ماكميرفي، النزيل الجديد المتمرد في مستشفى الأمراض العقلية: "من منكم يمتلك الشجاعة؟" لتبدأ بذلك مواجهته المحتومة مع السلطة الممثلة في الممرضة راتشد. تتوهّج الكوميديا في الفيلم كألعاب نارية تتفجر بالتمرد، بينما تهبط مشاهده الدرامية بقسوة مطرقة تصيب الهدف مباشرة.
استندت دراما فورمان إلى رواية تحمل الاسم نفسه، كانت من أكثر الكتب مبيعاً عند صدورها عام 1962، للكاتب كين كيسي، أحد رموز الثقافة الهيبية ومؤسس جماعة "المهرّجين المبتهجين". كان يُنظر إلى الفيلم آنذاك بوصفه عملاً يسارياً ورمزاً ثقافياً مضاداً للتيار السائد، لكن لغته أُعيدت لاحقاً لتخدم خطاب التيار التحرري الفردي في الولايات المتحدة. ماكميرفي يكره البيروقراطية، ويتمرّد على القواعد، ويمنح المرضى جرعة خالصة من الرجولة الجامحة. أما الرجال في الفيلم فيبدون كأشخاص محطمين يبحثون عن استعادة قوتهم الداخلية، بينما تُرسم النساء في صورتين متطرفتين: إما عاهرات مرحات أو أمهات متسلطات.
ومع ذلك، لا يفتقر الفيلم إلى العمق ولا إلى اللمسات التي تكشف تعقيدات الحياة. فالأداء المذهل الذي قدمته لويز فليتشر في دور الممرضة راتشد جعل الشخصية تبقى إنسانية على رغم وحشيتها؛ فهي موظفة منهكة، وانعكاسٌ صادقٌ لزمنها، مثل ماكميرفي نفسه. كما أنها محاطة بمرضى كُثر وجناح يبدو كأنه تحت الحصار، ولذا ليس غريباً أن تلجأ في النهاية إلى استخدام أدوات الصعق الكهربائي.
يُعد "التحليق فوق عش الوقواق" من تلك الأفلام النادرة التي تسكنك إلى الأبد، إن شاهدتها في وقت مبكر من حياتك. اكتشفت الفيلم على شاشة التلفزيون في سنوات المراهقة، واعتقدت حينها، ولو لفترة قصيرة، أنه أعظم فيلم في العالم. كان مزيجاً من النشوة والمأساة والكوميديا والغضب، بدا شبيهاً بالحياة الواقعية، ويعبق برائحتها، لكنه كان يتصاعد ويزأر كموسيقى عظيمة. لاحقاً، علمت أن فورمان لم يكن يجيد الإنجليزية جيداً، إلى حدٍّ اضطره إلى الاعتماد على أذنه خلال المشاهد الارتجالية لجلسات العلاج الجماعي، يتتبع أصوات الممثلين كما لو كانت آلاتٍ موسيقية في أوركسترا، ولا يوقف التصوير إلا عندما يسمع نغمة نشاز. وكان يحرص على إبقاء ثلاث كاميرات تعمل في آن واحد أثناء تصوير مشاهد المصحة، لتوثيق كل حركة، وكل رعشة، وكل التفاتة مفاجئة. يمكن القول إن فورمان أخرج الفيلم بأسلوب ماكميرفي نفسه: حرّ، وعفوي، ومندفع، بحيث يبدو كأنه ينبثق من الشاشة لحظة بلحظة أمام المشاهد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع إعادة مشاهدته اليوم، يتضح أن الفيلم ما زال يشبه بطله ماكميرفي في صفاته الجيدة والسيئة معاً. فهو ليس عملاً مثالياً، بل يحمل بعض عقده الخاصة. وينتقده البعض بسبب صورة النساء والسكان الأصليين والأميركيين الأفارقة فيه. ومن الناحية الطبية أيضاً، تبقى قصته سطحية إلى حد ما: عاطفية لكنها فجة، وقد أساءت إلى صورة الممرضين النفسيين تماماً كما فعل فيلم "الفك المفترس" مع أسماك القرش. إنه ابن السبعينيات، فيلم ربما ما كان ليرى النور لو كُتب اليوم، ومع ذلك فإن شغفه بالحرية لا يشيخ، ومعاركه ما زالت حاضرة، ومساره العاطفي يثير الوجدان بعمق.
وكما هي الحال في كل عمل فني خالد، فإن عيوبه جزء من كماله، تضفي عليه ملمساً إنسانياً وتربطه بالعالم من حوله. لذلك سأظل سعيداً برؤيته يعود في المناسبات الكبرى، يدخل الصالات كضيف صاخب لا يفقد روح المشاغبة أبداً. إنه عمل حر بلا قيود، مليء بالنقائص، لكنه مثالي على طريقته الخاصة. ولو كان الأمر بيدي، لما غيرت فيه لقطة واحدة.
بدأ عرض فيلم "التحليق فوق عش الوقواق" في صالات السينما بدءاً من الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري.
© The Independent