ملخص
كان ستاندال يرى نفسه كاتباً سياسياً قبل أن يكون روائياً، واستخدم الأدب كسلاح لفضح الواقع السياسي في فرنسا ونقد البوربونيين واليعاقبة واليسوعيين وغيرهم. وعلى رغم محاولته التخفيف من حدة تحزبه، بقي البعد السياسي حاضراً بقوة في رواياته الكبرى مثل "الأحمر والأسود" و"دير بارما".
ذات يوم شعر الكاتب الفرنسي ستاندال (الاسم المستعار لهنري بيلي أحد كبار روائيي القرن الـ19 الفرنسي) الذي عرف أساساً بروايتيه الكبيرتين "الأحمر والأسود" و"دير بارما"، بين عشرات من الكتب والدراسات الأخرى التي تناولت نماذج متنوعة من أدب الرحلات والأدب المسيس، وصولاً إلى كتابات شديدة الأهمية والثراء ولا سيما في النقد التشكيلي والكتابات الفكرية، شعر أن النقاد بل حتى القراء يغرقونه في أبعاد تبتعد به أكثر وأكثر عن هموم السياسة التي كان يرى أنها هي المكونات الأساسية لحياته الفكرية ولا سيما الإبداعية. وبما أنه كان هو نفسه غالباً ما يتحدث عن اهتماماته وشتى مجالاتها انطلاقاً من كونه، حسب تعبيره، دائماً ما اهتم بالتعبير عن فضحه الواقع السياسي وشتى اللاعبين في هذا الواقع، من المتطرفين الكاثوليك إلى اليسوعيين إلى أنصار مترنيخ والسان سيمونيين مروراً بالأكاديميين والسياسيين الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب شأن في القرارات الحاسمة، واليعاقبة حتى وإن كانوا يعتبرون أنفسهم أبناء الفكر التنويري وورثته الوحيدين، ناهيك بكل ذلك الرهط الذي استخدم ستاندال التلاعب على اسمه كي يهاجمه (إذ إن رنة اسمه ستاندال قريبة من كلمة سكاندال التي تعني "فضيحة" في اللغة الفرنسية!)، وبما أن ستاندال أمضى حياته ومن موقعه الليبرالي الأخلاقي يفضح كل هؤلاء، وقف ذات يوم ليندد بكون الناس ينسون أنه يهدف أولاً وأخيراً ومن خلال أدبه الكبير تحديداً، إلى فضح الحياة السياسية في فرنسا وغيرها، متسائلاً لماذا يميل القراء إلى التغاضي عن البعد السياسي في كتاباته ولا سيما من بينهم قراء روايتيه الكبيرتين اللتين ذكرناهما أعلاه "الأحمر والأسود" و"دير بارما"، ومن هنا نرى الكاتب يندد بما يقال من أن أدبه وصل إلى انسداد سياسي وقد راح يغوص أكثر وأكثر في اللعبة الجمالية وفي المعاني الأدبية الخالصة، وهو ما رد عليه ستاندال نفسه إذ بلغ الغيظ لديه مداه الأقصى معلناً أن النظرة إليه باتت مغلوطة تماماً.
أدب نضال لا يلين
في هذا السياق إذاً وقف ستاندال في لحظة الغيظ القصوى، ليخبر الذين يحبون أدبه بأن عليهم أن يحبوه كما هو وليس كما يتصورونه في رغباتهم وخيالاتهم، مؤكداً لمن نسوا ذلك، أن أدبه سجالي قبل أي شيء آخر، بل إنه قنابل موقوتة، مضمونها الكلمات وغايتها نسف السائد، بمعنى أنها "سلاح هجومي" في "عالم النثر"، فسواء كانت قد "كتبت عن الفن، في 'تاريخ الرسم في إيطاليا'، أو عن إيطاليا نفسها في 'روما، نابولي وفلورنسا'، أو عن نابليون في 'حياة نابليون'، أو عن الأوبرا في 'حياة روسيني'، أو عن المسرح الشعري في 'راسين وشكسبير'، أو حتى عن الحب 'في الحب'، فإن المناضل الليبرالي هو الذي يطلق صوته دائماً من داخل وجداني، الليبرالي في وجداني هو الذي يعلن مواقفي وتذوقي، أحقادي، وآرائي السياسية في مجمل تناقضاتها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من المتمرد إلى البطل
ولعل هذه الصرخة، هي التي جعلت الباحثين يتذكرون أن قلم ستاندال كان وبقي دائماً قلماً هجومياً بل عدوانياً، يتبع نهجاً متماشياً مع اختيارات سياسية يصل فيها إلى حد تكريس نفسه وأدبه لخدمتها، لذا يصبح هدفه الأساس خلال كتابتها، وفي تحليل بالغ الرهافة يورده الباحث ايف انسيل، في تعليق حول هذا الموضوع ضمن إطار ملف بالغ الأهمية كرسته المجلة الفرنسية المحتجبة الآن، "المجلة الأدبية"، لستاندال، يؤكد فيه أن الكاتب كان يبذل القدر الكبير من الجهد كي يفلت في نصوصه الأدبية الكبرى من قيود تلك "الحزبية الضيقة المتحيزة"، أي لمقاومة البعد التنظيري المسيس في أفكاره عبر الإصرار، على منع نفسه من وضع كمية كبيرة من الخل في طبق الحلوى الخاص بشخصية لوسيان ليوين في روايته "دير بارما"، "ولكن على رغم كل المحاولات الصادقة التي يبذلها ستاندال بغية التخفيف من غلواء وهجومية الرجل الحزبي الكامن في داخله، في الرواية الكبيرة الأخرى 'الأحمر والأسود'، وتحديداً، عبر الدعوة إلى الكف عن قراءة هذه الرواية بوصفها رواية واقعية والتعامل معها بوصفها مرآة (محايدة وأمينة) تصور عهد الملك شارل العاشر، ها هي ذي الرواية تطل فجأة وأمام أنظار كل من يقرأها بوصفها رواية ذات مفاتيح همها الأساس أن تفضح النزعة التوافقية، وآل بوربون الحاكمين، وزمن عودة الملكية، مكتوبة بيد مناضل غير مؤمن ولا يريد أن يؤمن بأي مذهب أو يصدق أية كنيسة، بل يبدي كراهية عميقة لليسوعيين والمشرفين على العدالة، ولا حتى للانتخابات "الديمقراطية"، وقد جرؤ على أن يحول كافراً إلى بطل"!.
مرآة متحزبة
والحقيقة أنه في أعوام الـ30 من القرن الـ19 الذي عاش فيه ستاندال (1783 - 1842) وكتب أعظم أعماله الأدبية ولا سيما روايتيه الكبيرتين، كان يبدو واضحاً ومن البداهة، أن مد مرآة كاشفة في مواجهة القراء، يعني تماماً اقتراح موقف سياسي محدد ولو تحت غطاء يعلن أنه مجرد موقف أخلاقي أو اجتماعي، ولعل ما يمكن أن نختم به هذا الحديث الذي من ناحيته لا يبدو بديهياً في مطلق الأحوال، إنما هو التذكير بأنه ولو أن الكاتب الكبير تحدث عن الأبعاد السياسية المتمردة في حياته بخاصة، بصدد تعليقه على الموقف من روايتيه الكبيرتين "الأحمر والأسود" و"دير بارما" على وجه الخصوص حسبنا أن نستعيد في ذاكرتنا صفحات وفصولاً كثيرة من واحد من كتبه المبكرة، وهو "باريس - لندن" الذي جمع فيه باكراً عدداً من تحقيقات وتعليقات كان قد نشرها أولاً في عدد من المطبوعات الإنجليزية، وكانت نصوصاً صدمت قراءه الإنجليز أولاً ثم الفرنسيين من بعدهم الذين راحوا إما ينددون به أو يعلنون "اكتشافهم" كاتباً كبيراً من عندهم يناوئ الإنجليز ويتفوق عليهم في عقر دارهم، وتحديداً من خلال التمرد السياسي القائم على أفكار تتعلق بالليبرالية وحسن التفاهم بين البشر.