Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جوليان سوريل بطل إشكالي في "الأحمر والأسود" للفرنسي ستندال

لماذا رفض الشاب الصاعد عفو المحكمة مفضلاً المقصلة؟

من رسوم الكتاب (غيتي)

كانت سجالات عدة ومتشعبة تلك التي دارت من حول رواية "الأحمر والأسود" التي أصدرها الكاتب الفرنسي ستندال في عام 1830 حاملة تاريخ العام التالي، وكانت روايته الطويلة الثانية بعد الأولى "آرمانس" التي سبقتها بسنوات قليلة وسبقت تحفته التالية "دير بارم". فهناك أولاً السجال من حول معنى العنوان وهل كان يتعلق حقاً بالاختيار الذي انطرح أمام بطل الرواية جوليان سوريل بين الانتماء إلى الجيش الفرنسي ذي الرداء الأحمر أو إلى السلك الكهنوتي ذي الرداء الأسود؟ فالسجال من حول إمكانية أن يكون ثمة رابط بين سيرة الكاتب وسيرة بطله. ثم من حول سوداوية النهاية المطلقة والمقلقة. كما من حول علاقة الرواية بحادثتين أو ثلاث حوادث قضائية صاخبة عرفتها الحياة الاجتماعية الفرنسية في الزمن الذي كتب فيه ستندال روايته.

واحدة من أعظم الروايات

نعرف أن كل تلك السجالات قد هدأت واستقرت للرواية مكانة تضعها في الصف الأول بين كبريات روايات القرن التاسع عشر الفرنسية، بل إن الكاتب الإنجليزي سامرست موم يصنفها بين أعظم عشر روايات كتبت في العالم على الإطلاق. ونعرف كيف استولى السينمائيون والمسرحيون وأهل الأوبرا على "الأحمر والأسود" ممعنين فيها اقتباساً. وكذلك كانت حال الباحثين ومؤرخي الأدب ونقاده من الذين اشتغلوا عليها تحليلاً لا سيما من ناحية قدرتها على التعبير عن ذلك الزمن الفرنسي المضطرب الذي ظهرت فيه، وعلاقة كاتبها النابوليوني بذلك الزمن الذي كان قد شهد نهاية الإمبراطور وعودة ملكية لم يستسغها ستندال أبداً. ومن هنا رأى كثر فيها نوعاً من احتجاج غاضب على روح ذلك الزمن. ولكن، بعد ذلك كله تبقى للرواية مكانتها الأدبية الكبرى وسماتها السيكولوجية المبكرة، التي تحدث عنها نيتشه بإعجاب وإكبار، كما تبقى شخصيتها الأساسية، شخصية جوليان سوريل، واحدة من أعظم الشخصيات وأكثرها تركيبية في الأدب الفرنسي. وقد يقول البعض عن حق: شخصية بالغة الحداثة تدور من حول فكرة البطل المضاد ولا سيما في القسم الثاني والأخير من الرواية، حين يحدث تحول هائل في شخصية جوليان سوريل ومجرى حياته، يقوده بإرادته إلى تلك النهاية المأساوية التي نادراً ما كانت لبطل رواية في تلك الأزمنة الحديثة المبكرة.

كل شيء من حول جوليان

مهما يكن من أمر فإن جوليان سوريل ليس شخصية عادية بين شخصيات هذه الرواية التي تقع في نحو 600 صفحة. بل هو محورها، إذ نراها تتابع مجريات حياته وتبدلاته وتحوله من ريفي فقير لا يتجاوز كونه ابن قاطع أخشاب في قرية صغيرة بائسة من منطقة دوبس في الفرانش كونتي الفرنسية، يقوده فقره وضعفه الجسدي على عكس حال إخوته، إلى القراءة والغرق في ضروب العلم والمعرفة ليطالعنا لاحقاً فتى من فتيان المجتمع الفرنسي الصاخبين الذهبيين وقد اختار سلك الجندية مهنة له ومصيراً بعدما كان في إمكانه أول الأمر أن يختار سلك كهنوت تؤهله له معارفه ودراساته بل ربما يهيئه له الأب شالان الذي كان من البداية يأمل له ذلك منذ احتضنه آخذاً بيده على درب الصعود الفكري والاجتماعي. ولسوف لن يتخلى عنه رجل الدين الطيب هذا على رغم اختياراته المعاكسة، بل حتى على رغم الموبقات التي سوف يقترفها وتوديه إلى دروب الهلاك.

غرامان وضياع بينهما

والحقيقة أن تلك الموبقات تتمثل في علاقتين عاطفيتين لن تكونا متساويتين لديه ولم يكن هو فيهما سليم الطوية، تشغل أولاهما القسم الأول من الرواية وسنوات الشباب الأولى التي عاشها جوليان في الريف، فيما تشغل الثانية سنواته الباريسية اللاحقة. علماً بأننا إذ نستخدم تعبير "موبقات" هنا لا نبتعد عن الحقيقة كثيراً بالنظر إلى أن جوليان كان في الحكايتين مذنباً. في المرة الأولى إذ ارتبط بعلاقة "آثمة" مع السيدة المتزوجة الشريفة مدام دي رينال التي دخل بيت زوجها العمدة في الريف مربياً لأولادهما فتعلق بها على رغم ممانعتها ملحاً عليها فارضاً شبابه وذكاءه؛ وفي المرة الثانية، لاحقاً في باريس حين ارتبط بعلاقته الثانية هذه المرة مع ماتيلدا ابنة الوزير المركيز دي لا مول من دون أن يكون راغباً حقاً بها، أولاً لما تبقى لديه من هيامه بالمرأة الأولى، وثانياً لما لهذه الفتاة الجديدة من غرابة أطوار لم تساعده على التقرب منها إلا مرغماً، ومع ذلك ها هو يقع في شباكها فتحمل منه، ما يجعلها تصارح بالأمر أباها الذي بعد تردد يقرر أن الحل الأفضل يكمن في تزويجها منه درءاً للفضيحة، حتى وإن كان قد استشعر ما يتسم به هذا الشاب الذي ائتمنه على أسراره وحتى على ابنته بعدما اتخذه سكرتيراً له، من انتهازية وعدم استقرار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خيانة وتردد وعدم استقرار

لقد كان عمل جوليان مع المركيز دي لا مول، طريقه نحو الصعود الاجتماعي وفَرْض نفسه في الحلقات الاجتماعية الفرنسية العليا في العاصمة، تماماً كما كان عمله مربياً في دارة العمدة دي رينال أول الأمر بداية شق طريقه بعيداً من حياة البؤس والضعة التي كانت حياته. لكنه في الحالتين خان الأمانة التي أوكل بها. وفي الحالتين غمره التردد وعدم الاستقرار. وفي الحالتين وجد على أية حال ظروفاً ساعدته وكان من شأنها أن تؤمن له استقراراً وربما شيئاً من السعادة. فهل علينا بعد كل شيء أن نحسبه ضحية أو جلاداً؟ هذا ما يبدو محسوماً في منطق الرواية. الواضح أننا هنا في نهاية الأمر أمام بطل إشكالي. لكننا أيضاً أمام كون جوليان من ناحية ما ضحية لابنة المركيز ماتيلدا التي سنعرف أنها تعيش في عالمها المغلق متماهية مع جد بعيد لها تقول الحكاية أنه كان عشيقاً للملكة مرغريت دي نافار وقُطعت رأسه إثر محاكمة لتدفن الرأس بأمر من الملكة. ترى هل كانت ماتيلدا تتصرف مع جوليان بحثاً عن تلك النهاية تستعيدها في الزمن الحديث؟ لسنا ندري وإن كنا نعرف أنها ستعيش بدورها تلك النهاية مع رأس جوليان التي ستقطع إثر محاكمته والحكم عليه بالإعدام، ورفضه هو إثر تدخل المرأتين لصالحه أن ينال أي عفو. فجوليان وبعد أن كانت مدام دي رينال قد وشت به إلى السلطات برسالة تدينه من دون أن تكون راغبة هي نفسها في إيذائه على رغم أذيته لها، وبعد أن تضافرت جهودها مع جهود ماتيلدا لإنقاذه، - هو الذي رداً على رسالة الوشاية توجه إلى مسقط رأسه وقد تزود بمسدس وجلس خلف مدام دي رينال في الكنيسة ليطلق عليها رصاصتين لم تقتلاها لكنهما تسببتا في القبض عليه ومحاكمته بشكل تضافر مع جملة موبقاته الأخرى-، رفض ذلك وفضل الموت فكان ذلك من نصيبه وأعدم بالفعل لتنتهي الحكاية، وقد تمكنت ماتيلدا الحامل منه من الحصول على رأسه وقد قطعتها المقصلة تنفيذاً للحكم عليه بالإعدام، لتدفنها بنفسها إسوة بما فعلت الملكة مرغريت دي نافار يوماً.

من ملفات المحاكم

وإزاء هذه النهاية غير المتوقعة لا بد لنا من العودة إلى التساؤل عما إذا كان جوليان سوريل في نهاية المطاف جلاداً أو ضحية؟ ستندال نفسه لم يوضح ذلك أبداً. وحدهم النقاد تذكروا من خلال موقف جوليان المتعنت في رفض تسامح القضاة معه، مع أنهم كانوا مستعدين لذلك، ما يشبه موقف سقراط حين راح تلامذته يقنعونه بأن في إمكانه أن يفلت من تجرع السم إن هو أراد. فأبى. فهل كان هذا الموقف في ذهن ستندال وهو يكتب نهاية الحكاية؟ بقي أن نذكر هنا على أي حال أن ستندال– وهو الاسم المستعار لهنري ماري بيلي (1783 – 1842)-، استعار تلك الحكاية الأساسية التي بنى عليها روايته الكبرى، حكاية قتل شاب طموح لعشيقته في الكنيسة، من حادثة حصلت بالفعل وصخبت بها الصحافة الفرنسية في ذلك الحين، مع فارق أساسي هو أن الشاب قد قتل عشيقته السابقة بالفعل، فيما نعرف في رواية "الأحمر والأسود" أن مدام رينال التي حاول جوليان الثأر منها في الكنيسة لم تمت، بل ستكون هي الساعية لإنقاذه من الإعدام وقد سامحته على ما يبدو أنه أبداً لم يسامح نفسه عليه.

المزيد من ثقافة