ملخص
يعد كمال الدين بهزاد، أحد أبرز رسامي المنمنمات في القرنين التاسع والـ10 الهجريين، من أهم الشخصيات المؤثرة في تاريخ الفن الإيراني والعالم الإسلامي، إذ تخرج في مدرسة هرات خلال العهد التيموري، وهي المدينة التي كانت آنذاك من أهم المراكز الثقافية والفنية والأدبية في فضاء إيران الكبرى.
في مطلع مارس (آذار) 2021، نقلت وسائل إعلام أفغانية عن القائم بأعمال وزارة الإعلام والثقافة آنذاك، محمد طاهر ظاهر، أن ملف "المنمنمات على أسلوب بهزاد" أرسل إلى "اليونيسكو" لتسجيله على قائمة التراث الثقافي غير المادي باسم أفغانستان.
ويتبين من متابعة الأخبار في ذلك الوقت أن مسؤولي النظام الإيراني لم يبدوا أي رد فعل تجاه هذا الإعلان، واليوم، وبعد نحو ست سنوات، تظهر القائمة التي نشرتها "اليونيسكو" للأعمال المقرر بحثها في اجتماعها المقبل أن هذا الملف سيعاد طرحه مجدداً، وعلى رغم أن التغييرات السياسية في أفغانستان قد تجعل حكومة "طالبان" غير معنية بالدفاع عن هذا الملف، فإن القضية الأساسية (التي شغلت المستخدمين الإيرانيين خلال الأيام الماضية) هي أن تسجيل عناصر من التراث الثقافي الإيراني باسم دول أخرى أصبحت ظاهرة متكررة نتيجة تقاعس النظام الإيراني.
قبل ست سنوات، حين أعلن القائم بأعمال وزارة الإعلام والثقافة في أفغانستان إرسال ملف "المنمنمات على أسلوب بهزاد" إلى "اليونيسكو"، طرح أيضاً ادعاء بأن "فن المنمنمات" و"الخط" من أصل أفغاني، داعياً إيران إلى احترام ملكية أفغانستان لهذه الفنون.
وبعد أقل من ستة أشهر على ذلك، سقطت الحكومة السابقة في كابول وسيطرت "طالبان" على السلطة، ومع سجل هذا التنظيم في تدمير أجزاء من التراث الثقافي الأفغاني وإهمال حماية الآثار، طوي ملف تسجيل "المنمنمات على أسلوب بهزاد" تدريجياً، إلى أن نشرت "اليونيسكو" في آخر تحديث لموقعها قائمة الأعمال المرشحة للتسجيل العالمي لعام 2025، وتضم هذه القائمة مشاركة إيران بملف "فن آینهکاری"، فيما تشارك أفغانستان بملف "المنمنمات على أسلوب بهزاد".
ضوابط "اليونيسكو" لبحث ملفات التراث غير المادي
من المقرر أن يعقد الاجتماع الــ20 لـ "اللجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي" التابعة لـ"اليونيسكو" في النصف الأول من ديسمبر (كانون الأول) 2025 في نيودلهي، حيث ستناقش الملفات التي قدمتها الدول الأعضاء ضمن دورة عام 2025.
وبحسب ضوابط "اليونيسكو"، تتحمل الدولة المتقدمة بالملف كامل المسؤولية عن مضمونه، فيما تلتزم المنظمة بالحياد التام حيال العناوين والمصطلحات والتوصيفات المرتبطة بالوضع القانوني للأقاليم أو الخلفيات التاريخية الواردة في الملفات.
وتفرض الدورة الحالية على الدول المشاركة جملة من المهام، أولها تحديد وتسجيل وتوثيق عنصر التراث غير المادي محلياً، وهو شرط أساسي لأي ترشيح دولي، وبعد ذلك، يتعين على الحكومات تقديم ملف الترشيح كاملاً مرفقاً بالوثائق وبرامج الصون ومشاركة المجتمعات المحلية والتزامات طويلة الأمد، وذلك إلى "أمانة اتفاقية صون التراث".
تستغرق عملية التقييم عدة أشهر، ويطلب من الدول خلال هذه الفترة التعاون مع "اليونيسكو" وتقديم أي معلومات إضافية أو تعديلات عند الحاجة.
وبالنظر إلى أن "اليونيسكو" تعمل وفق ضوابط واضحة وشفافة، فإن إدراج "المنمنات على طريقة بهزاد" ضمن قائمة الملفات المقرر بحثها لعام 2025، وتثبيت اسم أفغانستان كدولة مقدمة للملف، يدل على أن كابول استوفت المتطلبات الإجرائية اللازمة منذ إعداد الملف وحتى تقديمه رسمياً، واستمرت في التعاون الإداري مع أمانة الاتفاقية.
وبصرف النظر عما إذا كان هذا المسار قد بدأ في عهد الجمهورية الأفغانية السابقة أو استكمل في ظل حكم "طالبان"، فإن الواقع يشير إلى أن الملف موجود في الدورة الرسمية لـ"اليونيسكو" منذ أكثر من ست سنوات، في حين لم تقدم طهران خلال هذه المدة على أي خطوة مؤثرة لحماية حصتها التاريخية والثقافية في هذا التراث.
توافق دول الجوار على إيران في تسجيل التراث الثقافي في "اليونيسكو"
وفقاً لضوابط "اليونيسكو"، إذا تقدم بلد ما بطلب لتسجيل عنصر من التراث الثقافي غير المادي، واعترض بلد آخر على ذلك أو شكك في الرواية التاريخية الواردة في الملف، تلتزم "اليونيسكو" بدراسة أدلة الطرفين وحججهما، وفي مثل هذه الحالات، يعد الحل الأكثر توافقاً توصية اللجنة بإعداد ملف تسجيل مشترك، بما يحد من التوتر الثقافي ويتيح مشاركة جميع الأطراف في عملية صون التراث.
وتشير تصريحات مدير مكتب تسجيل الآثار التاريخية والتراث المعنوي في إيران، علي رضا إيزدي، إلى أن النظام الإيراني سيلجأ على الأرجح إلى هذا المسار في أثناء بحث ملف "المنمنمات على أسلوب بهزاد"، فقد أكد في حديث لوكالة "إيلنا" للأنباء أن "تسجيل مثل هذه العناصر لا يمكن أن يتم إلا عبر التفاوض والتفاهم بين الدول المعنية"، وهو الموقف نفسه الذي اتبعته إيران في ملفات مشابهة، ويجري حالياً التمهيد لتطبيقه من جديد من خلال السعي إلى تسجيل مشترك مع أفغانستان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلى جانب ذلك، يرجح أن يشكل إهمال الحكومة الأفغانية الحالية للتراث الثقافي منفذاً لمسؤولي النظام الإيراني لتقديم رواية مغايرة للرأي العام وبناء إنجاز إعلامي لأنفسهم، والادعاء بأنهم عادوا من نيودلهي بنتائج إيجابية، وذلك على غرار ما حدث خلال الأسابيع الماضية عندما نوقش ملف "أسطوانة كوروش" في "اليونيسكو" بناءً على مقترح من طاجيكستان، وسجل باسم طاجيكستان وإيران بوصفه أول وثيقة لحقوق الإنسان في العالم، فيما لم يقدم مسؤولو النظام الإيراني أي تفسير لغيابهم عن المبادرة بتقديم هذا الملف بأنفسهم، بل سعوا إلى نسب هذا الإنجاز إليهم.
وتؤكد تصريحات مدير مكتب تسجيل الآثار التاريخية والتراث المعنوي تكرار هذا النهج، إذ قال إن "فن الرسم الإيراني" سبق أن سجل باسم إيران، وإن أي مسعى لتسجيل مدرسة بهزاد أو هرات يجب أن يتم بالتنسيق مع طهران، على غرار ما جرى خلال التسجيل المشترك لآلة "الرباب" بين البلدين.
كمال الدين بهزاد ومكانته في تاريخ فن المنمنمات
يعد كمال الدين بهزاد، أحد أبرز رسامي المنمنمات في القرنين التاسع والـ 10 الهجريين، من أهم الشخصيات المؤثرة في تاريخ الفن الإيراني والعالم الإسلامي، وقد تخرج في مدرسة هرات خلال العهد التيموري، وهي المدينة التي كانت آنذاك من أهم المراكز الثقافية والفنية والأدبية في فضاء إيران الكبرى.
نال بهزاد شهرته في بلاط السلطان حسين بایقرا، بدعم من الأمير علي شير نوائي، ثم بعد سقوط الدولة التيمورية انتقل إلى تبريز بدعوة من الشاه إسماعيل الصفوي، حيث تولى رئاسة المكتبة الملكية، وأسهم هذا الانتقال في نقل منجزات مدرسة هرات إلى العصر الصفوي وأسس لظهور مدرسة تبريز.
ومن أبرز ابتكارات بهزاد تحويل فن المنمنمات من صور تزويقية جامدة إلى مشاهد حية ذات سرد بصري نابض، غالباً ما استلهمت نصوص الأدب الفارسي مثل "الشاهنامة" و"خمسة" لنظامي و"بوستان" و"غلستان" لسعدي.
وتجمع مصادر تاريخ الفن، سواء الإيرانية أو الدراسات الدولية المعتبرة، على أن بهزاد يحتل موقعاً مركزياً في تقليد المنمنمات الإيرانية، أما مدرسة هرات، فهي حلقة في مسار متصل يبدأ من تبريز في العصر الإيلخاني، ثم شيراز في عهد آل مظفر، ويبلغ ذروته مع التيموريين في هرات، قبل أن ينتقل على يد بهزاد إلى تبريز، ويسهم في بلورة الفن الصفوي، ولهذا، وعلى رغم أن هرات تقع اليوم ضمن حدود أفغانستان، فإنها تعد تاريخياً وجغرافياً جزءاً من المجال الثقافي الإيراني، وما أنجزه فنانوها في تلك الحقبة يعد امتداداً طبيعياً للفن الإيراني.
استناداً إلى ذلك، يرى كثير من الباحثين أن أسلوب بهزاد يمثل ذروة المنمنمات الإيرانية، أسلوب استمر تأثيره في العصر الصفوي، وأسهم لاحقاً في تشكيل مدرسة أصفهان، ثم الفنون التصويرية في العهد القاجاري، وصولاً إلى الفن الإيراني المعاصر.
وفي الوقت الراهن، يطرح الناشطون في مجال التراث الثقافي سؤالاً جوهرياً: ما الذي أنجزه مسؤولو وزارة التراث الثقافي الإيرانية خلال السنوات الست الماضية منذ أن قدم ملف "المنمنمات على طريقة بهزاد" إلى "اليونيسكو" باسم أفغانستان؟ وما إذا كان الاكتفاء بالاعتراض على ملف قدمته دولة أخرى والسعي إلى تسجيله بصورة مشتركة كافياً لحماية هذا الإرث؟
النظر في ملفات التراث غير المادي الخاصة بإيران خلال الأعوام الأخيرة يبين أن البطء أو غياب المبادرة في مسار التسجيل الدولي أدى إلى أن تدرج عناصر ثقافية عميقة الجذور في هذه الأرض باسم دول أخرى، أو تقبل في نهاية المطاف في شكل ملفات مشتركة، ومن الأمثلة على ذلك ملف "خبز لواش" الذي تقدمت به أرمينيا، وبعد اعتراض إيران، سجل عام 2016 ضمن ملف متعدد الجنسيات بعنوان "ثقافة الخبز التقليدي".
مثال آخر هو تسجيل لعبة البولو، إذ بادرت أذربيجان إلى تقديم ملفها أولاً وسجل باسمها، وبعد اعتراض إيران، اعترفت "اليونيسكو" في عام 2017 بالنسخة الإيرانية ضمن قائمة التراث العالمي.
صحيح أن جزءاً كبيراً من التراث الثقافي في المنطقة نشأ ضمن الرقعة الواسعة التي تسكنها شعوب تتحدث الفارسية والتي تقع اليوم ضمن حدود دول عدة، لكن الواقع يقتضي أن تؤدي إيران، بصفتها المركز الأساسي لهذه الرقعة، دوراً فاعلاً ومبادراً، لا أن تتبنى مساراً سلبياً يتيح للدول الأخرى إعداد الملفات، ثم تلجأ هي لاحقاً إلى الاعتراض ليسجل التراث بصفة "مشترك"، ولا ينبغي إغفال أن الدول التي تبادر أولاً تملك اليد العليا وتتمكن من تكريس روايتها التاريخية والثقافية.