Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفاشر... الوجه الآخر لقصص الناجيات

الواقع أن العنف الجنسي أصبح سلاحاً استراتيجياً لتغيير موازين القوة وإعادة تشكيل المجالين السياسي والاجتماعي في السودان

 بعض الاعتداءات على النساء كانت تجري على خلفية الانتماء الإقليمي أو القبلي (رويترز)

ملخص

توضح شهادات ناجيات من الفاشر أن بعض دوافع المهاجمين كانت مرتبطة بتوجيهات قادة ميدانيين يرون في السيطرة على النساء مكسباً استراتيجياً يضمن إذلال المجموعة العرقية أو القبلية المستهدفة وإضعاف قدرتها على المقاومة.

قراءة وجه توم فيتشر ولغة جسد وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بعد سماعه قصص النساء الناجيات من الفاشر تكشف حجم العنف والترويع اللذين عانتهما ولا تزال النساء في السودان عبر عقود، وتجليا بوضوح في الفاشر، كحلقة من سلسلة لم تنته بعد تكشف عن بيئة ممتدة اجتماعياً وسياسياً وأمنياً صنعت وسمحت بتكرار الانتهاكات المروعة ضد النساء، حتى باتت هذه الممارسات جزءاً من بنية الحرب نفسها.

توضح شهادات الناجيات، جنباً إلى جنب مع ما وثقته المنظمات الدولية، أن الانتهاكات لم تكن أفعالاً موقتة ناتجة من انهيار الضبط الأمني والعسكري، بل تمثل سلوكاً منظماً يرتبط بمسار طويل من التفكك المجتمعي، وصعود الجماعات المسلحة، واستخدام العنف الجنسي سلاحاً استراتيجياً لتغيير موازين القوة، وإعادة تشكيل المجالين السياسي والاجتماعي.

مؤتمر التضامن مع السودان الذي عـُقد بنقابة الصحافيين المصريين، تطابقت فيه شهادات النساء الخارجات من الفاشر مع ما ورد في تقارير بعثات الأمم المتحدة، إذ تكرر نمط أداء قوات "الدعم السريع" من اقتحام للمناطق السكنية، يتبعه فصل بين الرجال والنساء، ثم اعتداءات جنسية وجماعية تمارس تحت التهديد بالسلاح، في سياق يُظهر تنسيقاً بين عناصر مسلحة تعمل على بث الرعب وإجبار السكان على النزوح.

وتكشف بعض الشهادات أن الاعتداءات جرت في غرف محددة داخل المنازل أو داخل مواقع ميدانية موقتة، مما يعني أن الفاعلين استخدموا كل عناصر الفضاء الاجتماعي، من المنازل إلى الشوارع، وحولوها إلى مساحات للسيطرة عبر ترويع النساء.

تنقل إحدى الشهادات الموثقة أن بعض القوات كانت تستعمل سيارات صغيرة لنقل النساء بعد اقتحام الأحياء، تحت ذريعة الاستجواب، قبل أن يتعرّضن للاغتصاب. وفي رواية أخرى، تتحدث ناجية عن أن القوات كانت تعمد إلى إجبار الرجال على مشاهدة الاعتداءات، لتدمير آخر عناصر التماسك داخل الأسرة والمجتمع.

ومن اللافت أن هذه الشهادات تتردد في محافظات مختلفة في دارفور وليس في الفاشر وحدها، مما يؤشر إلى أن الأنماط ليست معزولة، بل ذات طبيعة منهجية، تتجاوز دوافع الانتقام اللحظي إلى محاولة إعادة هندسة العلاقات الاجتماعية في الإقليم.

وتشير التقارير الأممية إلى أن بعض الاعتداءات كانت تجري على خلفية الانتماء الإقليمي أو القبلي، مما يجعل العنف الجنسي وسيلة لفرض وقائع سياسية جديدة، تتسق مع تاريخ طويل من التوتر العرقي في دارفور.

ويؤكد باحثون سودانيون أن هذه الأنماط تجد جذورها في إرث من عسكرة المجتمع، ووجود اقتصاد حرب نشأ منذ أعوام طويلة، مما جعل السلاح أداة لإدارة الموارد والبشر، وأتاح للجماعات المسلحة خلق نظام موازٍ يمتلك سلطة أعلى من الدولة نفسها.

وهكذا يبدو لنا أن العنف القائم على النوع ليس مجرد عمل جنائي، بل هو فعل سياسي في صميمه، يراد به تقويض قدرة المجتمعات المحلية على البقاء، ذلك أن الاعتداءات تستخدم لطمس الهويات المحلية وإجبار الجماعات على النزوح من مناطقهم.

وتوضح شهادات ناجيات من الفاشر أن بعض دوافع المهاجمين كانت مرتبطة بتوجيهات قادة ميدانيين يرون في السيطرة على النساء مكسباً استراتيجياً يضمن إذلال المجموعة العرقية أو القبلية المستهدفة وإضعاف قدرتها على المقاومة.

ومع أن الانهيار الأمني يمثل بيئة خصبة لمثل هذه الانتهاكات، فإن العوامل الثقافية والاجتماعية لعبتا دوراً كبيراً في مضاعفة آثارها المرعبة على الصعد النفسية والاجتماعية. فمن ناحية، أدت وصمة العار المرتبطة بالعنف الجنسي إلى صمت كثير من الناجيات، مما سمح للجناة بالإفلات. ومن ناحية أخرى، عملت شبكات السلطة القبلية التقليدية التي كانت سابقاً مظلة للحماية على إخفاء الحوادث خوفاً من تدمير النسيج القبلي. وبهذا، أصبحت النساء يتحركن ضمن أربع دوائر من العنف: دائرة السلاح، ودائرة الانهيار الأسري والاجتماعي، ودائرة غياب مؤسسات الدولة، ودائرة الصمت الدولي.

في سياق الأزمة الإنسانية الأوسع، لعب استمرار الحصار ونقص الخدمات الطبية دوراً في تعميق المعاناة. فالتقارير الدولية تشير إلى أن كثيراً من الناجيات لم يستطعن الوصول إلى رعاية صحية خلال الساعات الحرجة التي تعقب الاعتداء الجنسي، وأن المستشفيات الموجودة داخل مناطق النزاع تعرضت للنهب أو أُغلقت بسبب انعدام الأمن. وهذا الوضع خلق دائرة ممتدة من الألم الجسدي والنفسي، جعلت التعافي أمراً صعباً، ودفعت البعض إلى الانتحار أو محاولة الهرب بطرق شديدة الخطورة.

وتكشف شهادات نساء الفاشر عن أن العنف لم يكن موجهاً ضد الفئات الضعيفة فقط، بل طاول نساء عاملات في المجال الإنساني ومعلمات وطبيبات، مما يشير إلى أن الاعتداءات كانت تستخدم أيضاً لكسر شبكات الفاعلية الاجتماعية للنساء، وتجريد المجتمع من رموزه المهنية. وتوضح بعض التقارير أن الجماعات المسلحة تستهدف النساء المتعلمات لإضعاف احتمالات إعادة بناء النظام الاجتماعي لاحقاً، بما يجعل العنف جزءاً من استراتيجية شاملة لإعادة رسم معادلة القوة داخل دارفور.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتظهر الوثائق الدولية التي باتت متاحة حالياً عبر أنشطة الأمم المتحدة ووصول ممثلها إلى النساء الناجيات جانباً مهماً يتعلق بانتقال العنف الجنسي من سياق الاعتداء المباشر إلى سياق الاستغلال الجنسي المرتبط بالمساعدات الإنسانية، إذ استغل المسلحون حاجة السكان إلى الطعام والماء والدواء لفرض أشكال من المقايضة القسرية، وهذه ممارسة تكررت في مناطق النزوح المحيطة بالفاشر. وهذه الظاهرة تخلق شكلاً مضافاً من العنف، لا يرتبط بالمعارك بل بالجوع والفقر، ويكشف عن تحوّل النساء إلى ضحية للسوق السوداء الإنسانية.

وبطبيعة الحال، فإن انتشار وتمدد هذه الممارسات اللا إنسانية يرتبطان بانهيار الدولة المركزية وعجزها عن توفير الأمن، إضافة إلى التصاعد غير المسبوق في الخطاب المسلح على أسس قبلية، مما جعل العنف ضد النساء وسيلة لإعادة تشكيل الهيمنة في الفضاء العام. وتدعم هذه التحليلات ما ورد في تقارير دولية عن أن بعض الميليشيات تتبنى خطابا تحريضياً ضد مجموعات بعينها، مما يجعل الاعتداءات موجّهة نحو جسد الجماعة لا فقط جسد المرأة الفرد.

وعلى رغم كل هذه المعاناة فقد لعبت النساء أدواراً بطولية، إذ إن شهادات الفاشر تظهر أن النساء لجأن، على رغم الرعب المحيط بهن، إلى أشكال مقاومة صغيرة، مثل توثيق الاعتداءات عبر رسائل هاتفية قبل مصادرة الأجهزة، أو إرسال أصوات مسجلة إلى أقارب خارج المدينة. وقد باتت هذه الشهادات لاحقاً مصدراً رئيساً للمنظمات الدولية لكشف نمط العنف، وهو ما سوف يشكل ركيزة أساسية لإصدار قرارات دولية لاحقة، ويسهم في وضع آليات للمحاسبة، طبقاً لخبرات دولية مقارنة.

في هذا السياق، يتضح أن العنف ضد النساء في السودان ليس مجرد ظاهرة طارئة تُعالج عبر إجراءات الإغاثة، بل قضية مرتبطة بعمق تفكك الدولة، وتعدد الفصائل المسلحة على النفوذ، وصعود اقتصاد الحرب، وانهيار منظومة القيم الاجتماعية. وهذا ما يجعل إنهاء العنف شرطاً لازماً لأي عملية سلام مستقبلية، لا مجرد نتيجة متوقعة لها.

وهكذا، فإن الاستجابة المطلوبة في الحالة السودانية ليست إنسانية فقط، بل سياسية بالأساس، وذلك مع ضرورة استعادة الدولة قدرتها على الاحتكار الشرعي للقوة، وضبط السلاح، وتفكيك الميليشيات، وتطوير منظومة عدالة انتقالية تعيد للنساء حقوقهن وتحاسب الجناة. وتحتاج هذه الاستجابة إلى دعم دولي يستند إلى نقاش وممارسة ضغوط مع الفاعلين المحليين والإقليميين الداعمين لقوات "الدعم السريع"، ويفهم خصوصية السودان.

إن شهادات الفاشر، حين تقرأ، تكشف عن أن العنف ضد النساء صار لغة الحرب في السودان، وأداة لإعادة توزيع السلطة داخل المجتمع، ووسيلة لفرض واقع جديد يتجاوز حدود المدينة ليطاول مستقبل الإقليم كله. ومن ثم، فإن حماية النساء ليست عملاً إنسانياً منفصلاً، بل قلب مشروع بناء السلام، وشرط أساس لاستعادة السودان كياناً سياسياً واجتماعياً قابلاً للحياة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل