Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معجزة "العراب" الثلاثية... نجاح جماهيري ونقدي وتاريخي

بداية بوتزو: حكاية عربون بسيط أنفقه قبل أن يكتب حرفاً من حكاية المافيا

روبيرت دي نيرو في مشهد من فيلم "العراب" الجزي الثاني (غيتي)

ملخص

كالعادة راحت المزادات والصراعات والخيانات تتابع في هوليوود من حول حقوق "العراب"، بين إيفانز وبارامونت، ثم بين هذه ويونيفرسال. وراح بوتزو ومن طريق وكيله وقد صار له وكيل هو ويليام موريس، يتلقى العرض تلو الآخر وفي كل عرض تزداد شروطه وتتسع أرباحه.

يمكن أن نفترض بكل بساطة أن الأفلام الحديثة في تاريخ الفن السابع التي صدرت عنها كتب ودراسات تتسم بقدر كبير من الجدية أكثر من أية أفلام أخرى في تاريخ السينما المعاصرة، أي التي صُنعت واشتُهرت في زماننا تكاد تكون قليلة العدد. ومن المؤكد أن في مقدمها فيلم "العراب" بأجزائه الثلاثة التي حققها فرانسيس فورد كوبولا خلال 20 عاماً فصلت بين 1972 و1991 لتحقق من النجاح ما لم يكن أحد يتوقعه على الإطلاق ولا حتى منتجوه الكُثر الذين حين أطلقوا المشروع كانوا يعتقدونه خاسراً لا محالة، لكن التنافس في ذلك الحين كان على أشده، وكان حس المغامرة لا يزال طاغياً، بالتالي كانوا يعدون أنه لئن خسر الفيلم عشرات الملايين التي ستنفق عليه، فإن المردود المعنوي سيكون لا بأس به بالنسبة إلى سينما أميركية كانت تعيش ذروة ثورتها الفكرية والمعنوية والسياسية في ذلك الحين.

لكن "معجزة ما" حصلت ولم تتوقف أجزاء "العراب" الثلاثة عن تسجيل النجاح تلو النجاح عاماً بعد عام، والغريب في الأمر أن النجاح تضافر هنا متأرجحاً بين نجاح جماهيري وآخر نقدي وثالث تاريخي. وكان هذا على أية حال جوهر "المعجزة" التي نشير إليها، إذ إن الفيلم لم يحصد مئات الملايين ولم يجذب ما يماثل ذلك العدد من المشاهدين وحسب، بل إنه وفي المقاييس النقدية التي تلخصها لوائح "أعظم الأفلام في تاريخ السينما" لا يزال يحتل مكانته بين الأفلام الثلاثة أو الأربعة الأعظم منذ انتخبه مئات النقاد في المرتبة الأولى، في استطلاع على صعيد العالم أجرته مجلة "سايت أند ساوند" الإنجليزية قبل نحو ربع قرن من الآن، فإن تراجع يتراجع مرتبة أو اثنتين ليعود بعد ذلك إلى الصدارة. وحتى لئن فضل كثر الجزء الأول على الآخرين، وفضل آخرون الجزء الثاني – من دون أن يلامس هذا النعيم الجزء الثالث من "العراب" - فان الحيرة بدت دائماً مجدية وتجتذب مشاهدين بالجملة في كل مرة يعرض فيها جزء أو آخر من هذا الفيلم الذي سرعان ما تحول مع الزمن إلى ظاهرة سوسيولوجية وسياسية تاريخية، لكن أيضاً إلى ظاهرة ثقافية.

الغائب الأشهر

تعيدنا ظاهرة ثقافية إلى ما افتتحنا به هذا الكلام من صدور عدد كبير من الكتب والملفات وعدد أكبر من الدراسات والرسائل الجامعية وانعقاد مؤتمرات وحلقات دراسية في أماكن متباعدة من العالم تتناول الفيلم كناية عن تاريخ أميركا مرة، وكناية عن مفهوم السلطة في العصور الحديثة مرات، وحول ميكافيلية الدون كريوليوني مرات ومرات، بل عن أداء مارلون براندو حيناً، وإدارة كوبولا لممثليه أحياناً، ثم عن تاريخية الفيلم وعلاقة السلطة بالجريمة في أميركا، من دون نسيان قضية المهاجرين من خلاله، وصولاً إلى دراسات ودراسات حول الموسيقى في السينما واستخدامها.

 

وقس على ذلك، ولسنا هنا في مجال وضع لائحة بكل هذه الجوانب، لكننا في صدد التساؤل عن "غائب" أكبر في هذا الاحتفال كله، غائب لعله أشهر الغائبين في تاريخ السينما، هو بالتحديد صاحب المدماك الأول والأكثر رسوخاً الذي بني عليه الفيلم. صحيح أن من نعنيه بكلامنا هذا، نال حظه من قطعة الجبن ملايين الدولارات، لكنه وغالباً حين الحديث عن الفيلم، وعن أي جزء من أجزائه، يبدو الأقل إثارة للاهتمام الذي يحيط عادة بكل ما يمت إلى الفيلم بصلة، وصولاً إلى الابن الثالث الضال للدون كريوليوني، والذي صدرت دراسات لافتة حول أدائه وغيابه بعد الفيلم، مع أنه بالكاد لوحظ فيه. أما الغائب الذي نعنيه فليس سوى ماريو بوتزو صاحب الرواية التي بني الفيلم عليها. والذي لا يتذكره كثر الآن بقدر ما يتذكرون كوبولا المخرج أو نينو روتا صاحب الموسيقى، وبالطبع مارلون براندو وجيمس كان والآخرين.

البداية بلزاكية

نحن طبعاً لا نريد أن نقول هنا إن بوتزو كان مظلوماً في ما دار ويدور من حول الفيلم، لكنه كان دائماً الأقل إثارة لاهتمام الباحثين في شتى شؤون هذه التحفة السينمائية، مع أنه في رأينا يستحق معنوياً أكثر مما حظي به بكثير، هو الذي كان واضحاً في مرماه من إصدار الرواية حين اقتبس في الصفحة الافتتاحية للطبعة الأولى في عام 1969 قولاً للكاتب الفرنسي أونوريه دي بلزاك هو "من المؤكد أن سر كل الثروات غامضة المصدر، يتعلق بجريمة منسية"، لكن بوتزو لم يكن معروفاً يوم أصدر تلك الرواية، بالتالي لم يتنبه أحد لا لاستعارته من بلزاك ولا لروايته التي كان لا يريد منها في البداية أكثر من أن يروي من خلالها حكاية المهاجر الإيطالي المدعو فيتو أندوليني الذي وصل من موطنه في جزيرة صقلية كما يصل ملايين غيره على ظهر باخرة بائسة وعبر في إيليس آيلند كغيره ليصبح الأمر الناهي في "ليتل إيتالي" في نيويورك بعد حين. كانت الحكاية عادية زينها الكاتب بتوقف عند شخصية لوسي مانتشيني، عشيقة سوني كورليوني، الابن البكر لأندوليني وعشيقها جول سيغال الطبيب النسائي في لاس فيغاس لاحقاً، وجوني فونتانا الذي سيبني شخصيته في استعارة من فرانك سيناترا ويجعله يغني في عرس كوني كورليوني في لونغ بيتش. وهي الشخصية التي أثارت غضب سيناترا وجعلته يجابه بوتزو حين انتشرت الرواية، ثم يغضب أكثر حين تمنع كوبولا، وقد بدأ إنتاج الفيلم عن أخذه في دور الدون كريوليوني، الدور الذي كان كثر يطلعون للعبه ومن بينهم بيرت لانكستر وربما أورسون ويلز وغيرهما.

رأس حصان في السرير

غير أن ما نشير إليه أعلاه كان لا يزال في علم الغيب حين أصدر بوتزو روايته وكان في الـ50 من عمره، وهو القادم بدوره من إيطاليا صحبة والديه المهاجرين. قبل "العراب" كان بوتزو كاتباً مجهولاً على رغم أنه أصدر قبلها روايات عدة، أما "العراب" فولدت من الحاجة، من دون أن يكون هو نفسه مقتنعاً بها، لكنه كان يدين بمبالغ لا يعرف كيف يسددها. يومها حتى روايته الناجحة نسبياً "حاج بالصدفة" لم تتمكن من دعمه مالياً. وسيفعل هذا صديق له أحب تلك الرواية وعرفه على دار نشر "بوتنام وأولاده" التي خلال الجلسة الأولى مع مسؤوليها راح يروي لهم حكايات عن المافيا، معظمها أتى ارتجالاً. أحب القوم الحكايات ونقدوا الكاتب 5000 دولار كي يصيغها في كتاب يتولى فيه، وعلى طريقته حكي قصة الجريمة المنظمة على شكل رواية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فرح صاحبنا بالمبلغ واصطحب عائلته الصغيرة إلى أوروبا، حيث سرعان ما طار المبلغ، بل استدان فوقه 8000 دولار أخرى طارت بدورها، لكنه لدى عودته كان يعمل 60 صفحة من الرواية، وهي صفحات أحبها الناشر بوتنام، لكنها كذلك في نظر منشورات أخرى متخصصة في كتب الجيب فاشترت منه حقوق طبعة شعبية لها مقابل أكثر من 400 ألف دولار هذه المرة. ولسوف يقول لاحقاً إن الفضل في ذلك يعود إلى الـ60 صفحة التي وصلت إلى دار بوتنام وفيها خاصة مشهدان رهيبان: مشهد رأس الحصان في سرير وولتز، ومشهد قتل المافيوزي برازي.

الشاشة في اللعبة

وإذ صدرت طبعة بوتنام المجلدة ثم طبعة الجيب، كان لا بد وبالشكل المعهود في عالم الإنتاج الأميركي الضخم، أن تلي ذلك اهتمامات أهل السينما بالرواية التي عرفت كيف تحقق في كتبها المطبوعة نجاحات هائلة. وكانت البداية مع روبرت إيفانز المنتج الذي كان صيته كبيراً باعتباره مكتشف المواهب الذي تدين له السينما الأميركية الجديدة بنجاحاتها الكبيرة المرتبطة بما سمي "ثورة أصحاب اللحى". وهكذا كالعادة راحت المزادات والصراعات والخيانات تتابع في هوليوود من حول حقوق "العراب"، بين إيفانز وبارامونت، ثم بين هذه ويونيفرسال. وراح بوتزو ومن طريق وكيله وقد صار له وكيل هو ويليام موريس، يتلقى العرض تلو الآخر وفي كل عرض تزداد شروطه وتتسع أرباحه. ولعل الغريب في ذلك كله هو أن حكاية المافيا نفسها لم تكن شديدة الإغراء، إذ إن تجارب عديدة من حول الموضوع فشلت، بما في ذلك فيلم "الإخوة الصقليون" الذي أنتجه كيرك دوغلاس ومثله بنفسه، فكان فشلاً كبيراً في مساره، لكن حظ كوبولا مع ماريو بوتزو كان مختلفاً تماماً. ففي النهاية مولت "يونيفرسال" الفيلم، بعدما اشترت الحقوق بدورها مانحة الكاتب 2.5 في المئة من الأرباح. ونعرف بقية الحكاية التي بعد نجاحات الجزء الأول تكررت في الجزأين التاليين، ليصبح بوتزو خلال سنوات قليلة واحداً من أغنى الكتاب السينمائيين وتتواصل اقتباسات روايات تالية له، صحيح أن معظمها سيكون عن المافيا، ومن بينها "الصقلي" في كتاب وفيلم يتصوران أن مايكل كورليوني بعد منفاه إلى صقلية لم يرجع إلى نيويورك، بل عاش هناك وتابع حياة قتل وإجرام وزعامة، وما إلى هنالك. ولقد كان من شأن حكاية بوتزو أن تتواصل لولا أن الرجل مات في عام 1999 وهو في عز نجاحه وغوصه في اللعبة السينمائية. وربما كان موته ذاك، السبب الرئيس في النسيان، ولو النسبي، الذي كان من نصيبه كما الحال دائماً في هوليوود، ليصبح أشهر المجهولين من بين صناع "معجزة العراب".

اقرأ المزيد

المزيد من